في غضون أيام قليلة ماضية، ظهر إلى العلن بشكل رسمي في مصر، حزبان يستندان إلى المرجعية الإسلامية، هما حزب "الحرية والعدالة" الذي أنشأته جماعة الإخوان المسلمين، وحزب "النور" الذي أنشأه سلفيون، يضاف إليهما حزب ثالث ظهر بحكم قضائي بعد أن عطل النظام البائد نشأته خمس عشرة سنة؛ وهو حزب "الوسط".
وفي الطريق أحزاب أخرى أُعلن عنها، لكنها لم تقدم أوراق تأسيسها بعد، مثل حزب "الفضيلة" و حزب "السلامة والتنمية"، وحزب "التوحيد العربي" الذي تؤسسه مجموعة من المنتمين للتيار الإسلامي الخارجين من حزب "العمل"، ذي التوجه الإسلامي أيضًا. وربما كانت هناك أحزاب أخرى في الطريق.فهل تعد كثرة هذه الأحزاب إضافة للعمل الحزبي المستند إلى المرجعية الإسلامية أم تشرذمًا يمكن أن يضر بالعمل ويشتت جهوده؟ قبل الإجابة على هذا السؤال نستعرض بإيجاز العمل الحزبي ذا المرجعية الإسلامية في مصر.شهدت الساحة السياسية المصرية ظهور أول حزب يعلن توجهه الإسلامي، بعد التحولات التي طرأت على حزب العمل الاشتراكي، منتصف ثمانينيات القرن الماضي، مع دخول عادل حسين – يرحمه الله- المتحول من الماركسية إلى الإسلام في الحزب، وتوليه رئاسة تحرير جريدة "الشعب" الناطقة باسم الحزب. وقد توج الحزب اتجاهه ذاك بالتحالف مع الإخوان المسلمين وحزب الأحرار عام 1987، فيما عرف باسم التحالف الإسلامي. وفي الوقت نفسه تقريبًا أخذت فكرة العمل الحزبي في التبلور عند الإخوان المسلمين، وقد أعد الإخوان مسودتين على الأقل؛ لبرنامج حزب "الإخوان المسلمون"، وبرنامج حزب "الإصلاح"، لكن لم يتم اتخاذ أي إجراءات عملية للتأسيس. لجنة رفض الأحزابتم إعداد برنامج الحزب ليكون جاهزًا للتقدم به، لكن إجراءات التقدم بطلب الحزب تخضع لموائمات وظروف سياسية، وقد ترجح لدى الإخوان أن النظام لن يوافق على تأسيس الحزب، ولجنة الأحزاب المناط بها منح تراخيص الأحزاب لن تصرح بالموافقة، (وهي لم تصرح لأي حزب ذي شعبية معتبرة) فهي لجنة تابعة للحزب الحاكم آنذاك، كان آخر رئيس لها صفوت الشريف، رئيس مجلس الشورى السابق، وأمين عام الحزب المنحل، المحبوس حاليًا، وتضم في تشكيلها دائما عددًا من الوزراء، فيهم وزير الداخلية، والشخصيات العامة، والمستشارين، ممن يختارهم النظام.ولم يتوقف الجدل بين الإخوان حول المبادرة بتقديم طلب تشكيل الحزب، ليكون ذلك دليلا على رغبة الإخوان في العمل وفق القانون، وبحيث يلقي الإخوان الكرة في ملعب النظام، إذا رفضت لجنة الأحزاب منح رخصة للحزب، فهذا يعني إصرار النظام على إقصاء الإخوان. وكان الرد على ذلك بأنه في حالة رفض تشكيل حزب للإخوان – وهو أمر مرجح جدًا- حتى بعد اللجوء للقضاء، سيكون ذلك ذريعة للحكم بعدم قانونية الوجود الإخواني، وسيتسلح النظام بحكم قضائي يشهره في وجوه الإخوان، ويبرر به فرض المزيد من القيود عليهم.وكان الجدل أيضًا يدور حول طبيعة الحزب؛ هل هو بديل عن الجماعة، أم مواز لها، وكيف يمكن توفيق العديد من الأوضاع التي ستنشأ في كلا الحالين، ولم تكن تجارب دول أخرى مثل الأردن واليمن والجزائر قد ظهرت بعد. بل كان بعض الجدل لا يزال قائمًا حول المشاركة السياسية ومدى حاجة الدعوة إليها، وإن كان هذا الاتجاه قد بدأ يضعف بعد تجربتي التحالف مع حزب الوفد عام 1984، والتحالف الإسلامي عام 1987، وتجربة دخول المحليات، وبعد تجارب العمل النقابي الناجحة للإخوان في نقابات الأطباء والمهندسين والصيادلة والعلميين وغيرها.حزب الأمر الواقعشارك الإخوان المسلمون في التحالف الإسلامي، الذي حل ثانيًا بعد الحزب الحاكم من حيث عدد النواب في مجلس الشعب في انتخابات عام 1987، وقد طرحت آنذاك فكرة أن يبادر نواب الإخوان في مجلس الشعب إلى إعلان تشكيل حزب خاص بهم بأسلوب الأمر الواقع، فالحزب – أي حزب - هو مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف فكرية وسياسية، وينظمون أنفسهم بهدف تحقيق برنامجهم. ولم يكن الإعلان – لو تم – سوى تحصيل حاصل، لأمر قائم بالفعل، وهو وجود مجموعة من نواب الشعب يؤمنون بأهداف مشتركة ويسعون لتحقيق أهدافهم. لكن هذا السلوك يكون مقبولا وطبيعيًا في نظام يتعامل بالسياسة، أما من يتعامل بالاستبداد، وآلة القمع العمياء، فلن يقبل بذلك، وسيعتبره تحديًا، يُسخر كل إمكانات الدولة لتقويضه، وبالتالي لن تتح للحزب فرص النجاح. كما نتج عن قيام التحالف الإسلامي أن اتجه عدد محدود من الإخوان للعمل ضمن لجان وأمانات حزب العمل، بترحيب، بل وتشجيع من الحزب، ولم تستمر التجربة طويلا، لكنها قربت فكرة العمل الحزبي عند الإخوان.وفي عام 1994 بادر المهندس محمد السمان، وكان من الناشطين النقابيين الإخوان، إلى تقديم طلب تأسيس حزب "الأمل" دون الرجوع إلى قيادة الإخوان.. ولم ير الحزب النور.وفي يناير 1995، بدأت حملة اعتقالات ضد الإخوان المسلمين، أخذت تتسع مع قرب الانتخابات البرلمانية في نهاية العام، وشملت العشرات من قيادات الإخوان. في هذه الأثناء أعاد الإخوان فتح باب النقاش حول أشكال العمل السياسي التي يمكن أن تلجأ إليها الجماعة، بما في ذلك طلب تأسيس حزب أو أكثر (لا للحاجة إلى أكثر من حزب ولكن نظرًا لعدم ضمان نجاح حزب في الحصول على الترخيص)، كما نوقشت إمكانية انضمام بعض الإخوان لحزب قائم يتوافق مع مبادئ الإخوان، وكانت تلك المناقشات تصب في مكتب إرشاد الجماعة، ولم يكن قد اتخذ أي قرار في الموضوع.في ظل هذه الأجواء بادرت أمانة قسم المهنيين داخل جماعة الإخوان بتبني فكرة إنشاء حزب. لم تأت الفكرة بتكليف من قيادة الجماعة ولكن كان قسم المهنيين يضم مجموعة نشطة من النقابيين، المنتخبين في عدد من النقابات المهمة، وقد انخرطوا في العمل العام قبل ذلك بسنوات، في العمل الطلابي بالجامعات والمجالس المحلية، وخاض بعضهم تجربة انتخابات مجلس الشعب، وتفاعلوا مع الحياة السياسية، وكان الوزن النسبي لقسم المهنيين أكبر من وزن أقسام أخرى موجودة بالجماعة.اتفقت أمانة المهنيين على وضع برنامج لحزب أطلق عليه اسم حزب "الوسط"، واتصلت بمسؤولي المهنيين بالمحافظات للحصول على التوكيلات اللازمة، واختارت المهندس أبو العلا ماضي، نائب مسؤول قسم المهنيين، الأمين العام المساعد لنقابة المهندسين آنذاك ليكون وكيلا للمؤسسين، والمحامي عصام سلطان للقيام بالإجراءات القانونية. عرض المهنيون فكرتهم على الأستاذ محمد مهدي عاكف؛ عضو مكتب الإرشاد، والمشرف على قسم المهنيين آنذاك، المرشد العام فيما بعد، فقال لهم: "توكلوا على الله".كانت تلك الكلمات منه القشة التي تعلقوا بها باعتبارها موافقة من عضو مكتب الإرشاد المشرف على عمل القسم، فأسرعوا بتقديم طلب تأسيس الحزب عام 1996 دون علم مكتب الإرشاد. كانت الأخبار قد نمت إلى المكتب بما ينوي القسم عمله، فأرسل الأستاذ مصطفى مشهور نائب المرشد آنذاك في طلب مسؤولي القسم لاستيضاح ما يجري، لكن تقديم طلب تأسيس حزب "الوسط" كان الأسرع.وقد تعامل مكتب الإرشاد مع الأمر على أنه مؤشر سلبي، إذ من غير المقبول أن تتخذ خطوة كهذه باسم أفراد من الإخوان دون علم القيادة، وإذا قبل الأمر فإن ذلك يمكن أن تتبعه خطوات أخرى أسوأ، فكان القرار هو الطلب من كل من قدم توكيلا لتأسيس الحزب أن يلغي التوكيل، وبالفعل تم إلغاء التوكيلات إلا قليلا جدًا. بعدها قرر مسؤول القسم د. محمد عبد اللطيف، ونائبه المهندس أبو العلا ماضي، ود. صلاح عبد الكريم وكيل نقابة المهندسين، والمحامي عصام سلطان ترك الجماعة والمضي في مشروع تأسيس حزب الوسط، الذي خاض معارك قانونية عدة مع النظام السابق، لم تكسبه الشرعية القانونية، ولم يحصل الحزب على رخصة التأسيس إلا بعد سقوط نظام مبارك.علامات
ساحة النقاش