كان السؤال الذي يشغل الكثيرين من الذين تابعوا أجواء المصالحة الوطنية الفلسطينية في القاهرة هو "مصالحة حول ماذا؟". كان مضمون السؤال يمتد إلى نوع الخيارات الوطنية التي ستقود إليها هذه المصالحة، هل إلى انخراط حركة "حماس" في مشروع التسوية الذي تشارك فيه السلطة الفلسطينية من دون تردد، وإرجاء خيار المقاومة لأجل غير مسمى أو على الأقل جعله "خيار احتياط"؟ أم أن العكس هو الذي سيفرض نفسه، وأن "حماس" تدخل المصالحة وهي على يقين بأن خيار المقاومة سيفرض نفسه؟ وبدلاً من أن يبقى "خياراً حمساوياً" أو خيار المنظمات المشاركة فيه يصبح خياراً وطنياً من دون فرض أو إجبار، وأن المهم أن تتحقق الوحدة الوطنية وبعدها سيكتشف الجميع أن لا مفر من خيار المقاومة.
يبدو أن هذه الرؤية الأخيرة هي التي شغلت قادة الكيان الصهيوني الذين سارعوا إلى إدانة المصالحة وخيروا محمود عباس بين: "إما السلام مع "إسرائيل"، وإما المصالحة مع "حماس"، فهم أدرى بأنفسهم، وهم من سيدفع بالأحداث إما إلى السلام وإما إلى المواجهة، لذلك حرصوا على إفشال المصالحة ومازالوا، وعندما عجزوا عن إقناع الرئيس الفلسطيني بالتخلي عن المصالحة مع "حماس" قرروا وقف المراهنة عليه كشريك في عملية السلام على نحو ما جاء في وثيقة صادرة عن وزارة الخارجية "الإسرائيلية" تحت عنوان "التحليل السياسي الحساس"، ونشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" ونصت على أن محمود عباس لا يصلح شريكاً لعملية السلام "لأنه بانخراطه في المصالحة وعزمه عدم الترشح مجدداً في منصب الرئاسة أخذ يراهن على ضمان مكانة شخصية له في التاريخ متأثراً بأجواء الثورات العربية". الآن، وبعد الخطابات الأربعة للرئيس الأمريكي باراك أوباما ولرئيس الحكومة "الإسرائيلية" بنيامين نتنياهو في واشنطن وعلى مدى أسبوع واحد، حسم الرئيس الأمريكي موقف إدارته من عملية التسوية، وهي أن تبقى محصورة في المفاوضات المباشرة، وأن واشنطن لن تقبل بأن تقوم السلطة الفلسطينية بالتخلي عن خيار التفاوض والذهاب إلى الأمم المتحدة لإعلان قيام الدولة الفلسطينية من طرف واحد. أوباما وصف هذا المسعى منذ أيام ب"الخطأ" أثناء لقائه مع رئيس الحكومة البريطانية في لندن، لكنه في خطابه الثاني في الأسبوع الماضي (الأحد 22 مايو) أمام اللجنة الأمريكية للشؤون العامة (إيباك) كان حازماً وصريحاً إلى أبعد الحدود، وبهذا الخصوص، ففي هذا الخطاب أكد أوباما أنه "سيقف بحزم أمام أي محاولة لنزع الشرعية عن دولة "إسرائيل" أو عزلها من الحلبة الدولية، وأن تصويتاً في مجلس الأمن لن يؤدي أبداً إلى قيام دولة فلسطينية". أوباما حسم الموقف الأمريكي، وهو أنه لا بديل عن التفاوض كمسار أوحد للحل، لكنه حدد معالم بائسة لهذا التفاوض، حيث تبنى نظرية الحدود الآمنة للدولة الصهيونية في ترسيم حدود الدولة الفلسطينية المقترحة، فقد تحدث عن قيام دولة فلسطينية ضمن حدود 1967 مع تبادل للأراضي، ومع أخذ الحقائق الديموغرافية الجديدة على الأرض في الحسبان، كما أوضح أن الطرفين "الإسرائيلي" والفلسطيني سيتفاوضان حول حدود مختلفة عن تلك التي كانت قائمة في الرابع من يونيو/حزيران عام 1967. أوباما لم يكتف بذلك، بل إنه اعتبر أن "الاتفاق بين "حماس" و"فتح" يشكل عقبة أمام السلام، وأنه لا يمكن توقع أن تتفاوض "إسرائيل" مع "حماس" التي لا تعترف بوجودها، وأن الحل هو أن تعترف "حماس" ب"إسرائيل"، ومن ثم تتخلى نهائياً عن خيار المقاومة، وأن تبادر إلى الإفراج عن الجندي "الإسرائيلي" الأسير جلعاد شاليت، كما حرص على أن يجدد التعهدات التاريخية الأمريكية نحو الكيان الصهيوني، معتبراً أن التزامات أمريكا بأمن "إسرائيل" التزام صخري حديدي لا يلتوي ولا ينكسر وهو نابع من القيم المشتركة". هكذا، ليس أمام الفلسطينيين بالنسبة إلى أوباما غير التفاوض المباشر مع "إسرائيل"، والحل يكون في حدود ما تعتبره "إسرائيل" متوافقاً مع أمنها، ولا مشاركة لحركة "حماس" أو لحكومة تشارك فيها "حماس" إلا باعتراف مسبق من "حماس" بوجود "إسرائيل"، وأن أمريكا لن تسمح أبداً بخيار التوجه الفلسطيني نحو الأمم المتحدة لإعلان قيام دولة فلسطين. هذه المحددات الأمريكية تضع الموقف الفلسطيني بين خياري القبول والرفض، وجاء خطاب نتنياهو أمام الكونغرس ليضع الفلسطينيين أمام خيار واحد هو الرفض، لأن القبول ليس له غير معنى واحد هو الاستسلام الكامل والتفريط الشامل في الحقوق المشروعة لأسباب كثيرة. أول هذه الأسباب أن نتنياهو لا يعترف ب"إسرائيل" دولة احتلال، ولا يرى الضفة الغربية أرضاً محتلة، فهي من وجهة نظره "أرض إسرائيل"، وأن أي انسحاب "إسرائيلي" هو تنازل "إسرائيلي" وليس حقاً للفلسطينيين. ثاني هذه الأسباب اشتراط نتنياهو أن تكون حدود الدولة الفلسطينية منسجمة مع متطلبات "الأمن الإسرائيلي"، وألا تكون تلك الدولة الفلسطينية مصدراً لتهديد أمن ووجود "إسرائيل"، وأن "إسرائيل" هي التي تحدد وحدها المعايير التي يجب أخذها في الاعتبار كي لا تصبح تلك الدولة مصدراً لتهديد أمنها. ثالث هذه الأسباب تأكيده أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين "ستحل خارج حدود "إسرائيل"، وأن القدس المحتلة يجب ألا تقسم مرة أخرى أبداً، "يجب أن تبقى القدس عاصمة "إسرائيل" الموحدة". رابع هذه الأسباب أن "إسرائيل" لا يمكن أن تتفاوض مع حركة حماس، وأنها "مستعدة للجلوس والتفاوض حول السلام مع السلطة الفلسطينية، لكنها لن تتفاوض مع حكومة فلسطينية تدعمها النسخة الفلسطينية من تنظيم القاعدة". وبهذا الخصوص وجه نتنياهو حديثه مباشرة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس قائلاً "مزق اتفاقك مع "حماس"، واجلس وفاوض، اصنع السلام مع الدولة اليهودية". أما السبب الخامس فهو اشتراط نتنياهو أن يكون التفاوض الفلسطيني مع "إسرائيل" باعتبارها "دولة يهودية"، فقد اعتبر نتنياهو أن أساس المشكلة مع الطرف الفلسطيني أنه "غير مستعد لقبول دولة فلسطينية إذا كانت تعني القبول بدولة يهودية إلى جانبها"، لذلك دعا نتنياهو الرئيس الفلسطيني إلى أن يقف أمام شعبه ويقول "أنا أقبل بدولة يهودية"، معتبراً أن هذه الكلمات "ستغير التاريخ". هذه الأسباب حاسمة للخيار الفلسطيني الآن، فإما أن تؤسس المصالحة على قاعدة الخضوع للشروط "الإسرائيلية" والضغوط الأمريكية، وإما أن تكون المصالحة لتأسيس جديد لمشروع وطني في مقدوره أن "يغير التاريخ" على النحو الذي يجب أن يكون وليس على النحو الذي يأمله نتنياهو.
نشرت فى 30 مايو 2011
بواسطة BADRFOUDA
ابو استشهاد
ندعوا الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والى تكوين الفرد المسلم والاسرة المسلمة والمجتمع المسلم والى الحكومة المسلمة والى الدولة المسلمة والخلافة الاسلامية والى استاذية العالم »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
121,286
ساحة النقاش