قدمت إحدى محطات التلفزيون الأمريكية سلسلة حلقات حول موقف الصغير إزاء الطريقة التي يتبعها والداه في تأديبه، وكانت المحطة تستضيف كل أسبوع بعض الأطفال الأذكياء القادرين على الإفصاح عن آرائهم بوضوح وقوة، وتقوم خلال ذلك بتوجيه طائفة من الأسئلة إليهم.
وفي إحدى الحلقات استمعت إحدى الأمهات إلى طفلها على شاشة التلفزيون وهو يبدي آراءه وملاحظاته، ويدلي بأقواله حول قضية التأديب، ولكنّ الأم جزعت أيما جزع عند سماعها لما قال ابنها!! والسبب يتضح في هذا الحوار الذي دار بينهما عندما عاد الابن إلى المنزل، وابتدرته أمه قائلةً:
هل قطعت يوماً شيئاً من مصروفك اليومي عقاباً لك؟
الابن: كلا !
الأم: هل احتجزتك في غرفتك يوماً بطوله؟
الابن: كلا !
الأم: هل قلت لك مرة إني سأحرمك من اللعب لأنك طفل شرير؟
الابن: كلا !
الأم: إذاً ما سبب ادعائك بأنني فعلت هذه الأمور كلها معك على شاشة التلفزيون؟
الابن: كان لابد أن أقول هذه الأمور كلها، وإلا كان عليّ أن أقول أنك كثيرة الصراخ في وجهي كل يوم ..!!!
أعزائي القراء والمربين:
لعل هذه الصورة تتكرر كثيراً في بيوت الكثيرين منّا..براكين من الغضب تنفجر.. يصاحبها أصوات رعدية، وتقذف بحمم الشتائم والأوصاف السيئة..! كل ذلك في وجه مَنْ ؟! في وجه أقرب وأحب إنسان إلى قلبك..في وجه ولدك !!
فهل أصبحت التربية تسبب أزمة عصبية للمربين ؟
في غياب برمجة إيجابية للسلوك والمواقف التربوية في حياة الأمهات والآباء إزاء السلوكيات المزعجة أو الخاطئة والمرفوضة من أبنائهم، تكون احتمالات الانتقال إلى الأفعال وردود الأفعال المصاحبة للغضب والتوتر، والتي عادة ما تكون سلبية وغير بناءة، ولذلك حذرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من التصرف بمقتضى الغضب عند وقوعه وأمرنا بما يدفعه ويخفف حدته، لأن التصرفات في هذا الوقت غالباً ما يجانبها الصواب [مصطفى أبو سعد: الحاجات النفسية للطفل، ص: (160)].
وما هو الغضب ؟
جاء في لسان العرب: الغضب نقيض الرضا، وقال ابن عرفة: الغضب من المخلوقين، شيء يداخل قلوبهم، ومنه محمود ومذموم، فالمحمود ما كان في جانب الدين والحق، وما كان في معرض التقويم والإصلاح، والمذموم ما كان في خلافه.
وماذا يحدث عندما نغضب؟
يثور انفعال لا إرادي، يهيّج الأعصاب ويحرّك العواطف، ويعطّل التفكير، ويفقِدالاتزان، ويزيدُ في عمل القلب، ويرفعُ ضغط الدم، ويزداد تدفقه على الدماغ، وتضطربالأعضاء ويظهر ذلك بجلاء على ملامح الإنسان، فيتغير لونه وترتعد فرائسه، وترتجفأطرافه، ويخرج عن اعتداله، وتقبح صورته، ويخرج عن طوقه فاٍن لم يكبح جماح نفسه..تفلّت لسانه فنطق بما يشين من الشتم والفحش، وامتدت يده لتسبقه إلى الضرب والعنف.
وأثناء انفعال الغضب يزيد عدد ضربات القلب في الدقيقة الواحدة فيضاعف بذلك كمية الدماء التي يدفعها القلب أو التي تخرج منه إلى الأوعية الدموية مع كل نبضة؛ مما يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم وزيادة إفراز الأدرينالين.[محمد سعيد مرسي:كيف تكون أحسن مربي في العالم؟،ص (312)]
..فهل نترك أنفسنا لانفلات الأعصاب عند كل خطا يرتكبه الأبناء؟ فكيف ننجح إذاً في تربيتهم وكثرة الأخطاء من طبيعة المرحلة التي يمرّون بها، إذ يفتقدون العلم والخبرة في كثير من أمورهم والمفترض أنهم يسيرون في ظل توجيهات الوالدين ومتابعتهم؟
إذن لابد لك عزيزي المربي من تعلم فنّ إدارة الغضب، فإنّ للسيطرة على أعصابك تأثيراً مهماً على ضبط سلوك أطفالك، وإذا حافظت على هدوئك وتمكنت من عبور المواقف الصعبة دون أن ينفجر غضبك، فسيكون اتصالك بأبنائك أكثر فاعلية كما سيكون عقابك لهم فعّالاً ومؤثراً أيضاً.
لذلك ندعوك إلى إدارة الغضب وليس إلى إلغائه:
إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بعدم الغضب، وفي الوقت ذاته مدح من يغضب لمحارم تُنتهك، وما ذاك النهي إلا تحذير من الانفعالات السلبية للغضب وينهانا عن الغضب السلبي، ومن الممكن أن يتحول الغضب والانفعال لدى الإنسان إلى صورته الإيجابية لو أحسن إدارته والتحكم فيه، وليس إلغاؤه بالكلية، فمشاعر الغضب، هي مصدر القوة والتفاعل ودليل اهتمام الإنسان بدينه وقيمه، فهذه المشاعر الطبيعة تؤدي إلى المحافظة على النفس، والمحافظة على الدين والمحافظة على العرض والمال.
وعلى صعيد التربية فإنّ الآباء والأمهات والمربين إذا لم يغضبوا لسلوكيات مرفوضة تصدر من الأبناء، فتلك علامة على سلبية المربي وعدم استشعاره للمسؤولية وحجمها، وعدم تقدير النتائج الأخروية المترتبة على الإهمال في تربية الأبناء، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله سائل كل راعٍ عمّا استرعاه حفظ أم ضيّع؟" [رواه البخاري ومسلم]
واحتفظ بطاقتك للبناء لا للهدم:
إذا لم يملك الإنسان نفسه في الحالات الحرجة واستسلم لما يقتضيه الغضب والانفعال الشديد، فإنه يجد نفسه قد استهلك طاقة هائلة من قوته الداخلية التي من المفترض أن يستغلّها في عملية البناء والتربية والتعليم والتشجيع والحوار البنّاء وتنمية مهارات الأبناء، والاستمتاع بالحياة اليومية الهادئة العامرة بعبادة الله وقراءة القرآن وحسن المعاشرة داخل الأسرة، ومساعدة الناس، بل.. وإماطة الأذى عن الطريق.!
وابدأ معنا خطوات على طريق إدارة الغضب:
- دائماً كرر لنفسك أنّ انفلات الغضب من سمات الضعف والإفلاس التربوي، بينما كظم الغيظ والتحكم في الغضب والتصرف بإنصاف مع الأبناء أثناء ذلك يمثل القمة في قوة وإيجابية المربي، وفضيلة يتميز بها عباد الله الصالحون، روى ابن عمر رضي الله عنه عنالنبي _صلى الله عليه وسلم _ : (ما من جرعة أعظم أجرًا عند الله من جرعة غيظكظمها عبد ابتغاء وجه الله) [رواه بن ماجه، وصححه الألباني، صحيح سنن ابن ماجه، (4189)].
- في لحظة الغضب وعندما تشعر أنّ جمرة تشتعل بداخلك، ابدأ في العدّ من 10:1 قبل التفوه بأي كلمة، وتوجه إلى نفسك بهذا السؤال: ( ما الذي يجب أن أقوله الآن؛ ليخرج ولدي مستفيداً من الموقف ؟)
- راجع المواقف التي أثارت غضبك من قِبَل ولدك، وأعد التفكير، ولكن بالنظر إلى دوافع هذه التصرفات، فولدك الذي انسكب منه كوب اللبن على ملابسه أثناء تناوله لإفطاره كان يحاول أن يعتمد على نفسه، لا أن يضايقك، وأنت بثورتك حينئذٍ تمنعه من إعادة المحاولة والنجاح فيها.
- عبّر لولدك عمّا تشعر به وأنت غاضب، وخاطبه بعبارات قوية تنقله بها إلى مستويات أفضل من السلوك كنت تتوقعها منه، مثال على ذلك:
(الأب الغاضب: أحمد..أنا غاضب من تصرفك بالأمس عندما جئت متأخراً إلى المنزل..كنت أتوقع منك أن تدرك الوقت المناسب للعودة إلى البيت والذي حددته لك سابقاً..! )
- استخدم أسلوب التجاهل والهجر المؤقت، فتتوقف عن الحديث مع الابن لساعات طويلة، ولا ترد على أسئلته، وأظهر عدم الاهتمام به، إلى أن تمر نوبة الغضب، مع مراعاة الحزم الشديد في التطبيق، وستدرك كيف أن هذا الأسلوب مثمر جداً في توجيه الابن مقارنة بالأساليب الغاضبة.[عبد الله عبد المعطي:كيف تكون أباً ناجحاً؟،ص(89)، بتصرف].
- تذكر أن خفض الصوت حال التحدث مع الأبناء يقلل من شعورك بالغضب، ويوحي لهم بقدرتك على السيطرة على نفسك وعليه هو، أما في حال رؤيته لك وقد فقدت السيطرة على أعصابك، فإن ذلك يصورك أمامه ضعيفاً، وسوف يقتدي بك في الضعف، وربما يستغل ضعفك أيضاً.
- يمكنك اللجوء لأسلوب الرسائل المكتوبة، للتعبير عن رفضك لبعض طلبات الأبناء، أو لبعض تصرفاتهم، فهذه الطريقة ناجحة للتعامل مع الناس جميعاً كالزوجين، والأصدقاء، والأبناء أيضاً؛ لأننا عندما نكتب نفكر بحكمة وتحليل وتعقل، أكثر من ارتجال القرارات والأحكام والتأنيب، كما أن الانفعال لا ينتقل بالكتابة كما ينتقل بأسلوب المحادثة، وستلاحظ أنّ حدة الغضب ستقل بالتأكيد لدينا ولدى الأبناء كذلك. [هداية الله أحمد شاش:موسوعة التربية العملية للطفل،ص(289)].
- استعن بالله تعالى على تنفيذ قرارك، وضع نُصب عينيك قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تغضب"، واستعمل الوسائل التي أرشدنا إليها النبي صلى الله عليه وسلم لدفع الغضب مثل الوضوء أو الاغتسال، وتغيير الوضع من القيام إلى الجلوس، ومن الجلوس إلى الاضطجاع، وترديد الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
وأخيراً تذكر عزيزي المربي أنّ:
الإدارة الناجحة للانفعال والغضب هي القوة بعينها،كما تعلمنا من رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (ليس الشديد بالصُرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب). [متفق عليه].
وتعني كذلك الاهتمام والبحث عن الحلول السليمة لتغيير سلوكيات مرفوضة لدى أبنائك، والإصرار على النجاح في مهمتك التربوية دون أن تهتريء الروابط المتينة التي تصلك بهم.
بينما يظل الغضب الهائج انفعالاً سلبياً هدّاماً، استجابة الابن تكون فيه شكلية ومؤقتة لأنها بدافع الخوف والرغبة في التخلص من هياج الغضب وتوابع الانفعالات، ولا يغير من واقع الابن شيئاً إلى الأفضل، بل غالباً ما يزيده سوءاً.
..والآن ابدأ على الفور، واتخذ قرارك بأنه:
من اليوم لا عنف و لا غضب مع الأولاد إن شاء الله تعالى..!
المراجع:
- كيف تكون أباً ناجحاً؟: عبد الله عبد المعطي
- موسوعة التربية العملية للطفل: هداية الله أحمد شاش
- التربية الإيجابية من خلال إشباع الحاجات النفسية للطفل:د.مصطفى أبو سعد
- كيف تكون أحسن مربي في العالم؟:
ساحة النقاش