ثلاث إشارات خطيرة وعميقة الدلالة خرجت من صنعاء خلال هذا الأسبوع:
الأولى: إن الرئيس على عبدالله صالح الذي تشهد بلاده منذ أربعة أشهر انتفاضة شعبية تطالبه بالرحيل، رفض التوقيع على المبادرة الخليجية التي استهدفت توفير انسحاب كريم له ونقل السلطة إلى نائبه، وكانت تلك هي المرة الثالثة في غضون أربعة أسابيع التي يوافق فيها الرجل على المبادرة، ثم يتملص منها في اللحظة الأخيرة، ويرفض التوقيع عليها، بعدما وصفها بأنها «مؤامرة انقلابية» على النظام والشرعية الدستورية.
الإشارة الثانية: تمثلت في أن وفد مجلس التعاون الخليجي ومعه سفراء مجلس التعاون والسفراء الغربيين الذين انضموا إلى الوفد لإيجاد مخرج سلمي للأزمة، هؤلاء جميعا حوصروا في داخل مبنى سفارة دولة الإمارات العربية من قبل مئات المسلحين الذين استجلبهم الرئيس وجماعته للدفاع عنه.
ورغم أنه يشك في أن ذلك تم بغير علم الرئيس، إلا أنه بعد ساعات من الحصار، صدرت التعليمات بتوجيه مروحيتين خرجتا من مقر دار الرئاسة وهبطتا في محيط سفارة دولة الإمارات، حيث نقلتا الدبلوماسيين المحاصرين إلى مكان آمن، قبل أن ينقلوا من هناك إلى العاصمة السعودية الرياض.
الإشارة الثالثة: إنه في اليوم التالي لذلك مباشرة حدث اشتباك مسلح لأول مرة في صنعاء بين قوات الأمن الموالية للرئيس وبين قبليين يحرسون منزل الشيخ صادق عبدالله الأحمر، شيخ مشايخ قبيلة حاشد المؤيد للمعارضة.
وشملت الاشتباكات أحياء وسط صنعاء، مثيرة الذعر بين السكان. وذكرت تقديرات أولية أن ستة أشخاص على الأقل قتلوا، وأن 40 جرحوا، وأن النيران المتبادلة أصابت عدة مبان حكومية، وكان الرئيس على عبدالله صالح قد حذر في ليلة سابقة من وقوع حرب أهلية وحمل المعارضة المسئولية عنها.
ثمة تفصيلات تذرع بها الرئيس اليمني في تفسيره لعدم التوقيع على المبادرة، لكن من الواضح أن ذرائعه يريد بها شيئا واحدا هو إطالة أمد بقائه في السلطة وتمسكه بمنصبه مهما يكن الثمن، مع المراهنة على إنهاك المتظاهرين المعتصمين في أنحاء البلاد طوال الأشهر الأربعة الأخيرة.
جانب من المشهد يبدو تكرارا للحدث الليبى، فكما أن العقيد القذافي يتحصن في قلعته (باب العزيزية) في قلب العاصمة طرابلس، وكما أنه أناط بأبنائه مسئولية قيادة المجموعات التي توصف بأنها «كتائب القذافي»، فإن الرئيس اليمني فعل نفس الشيء، إذ تحصن في مقره بصنعاء، وترك لأبنائه مهمة قيادة القوات الخاصة التي تتولى حمايته.
وإذا كان العقيد جمع من حوله ــ بفلوسه ــ أعدادا من المرتزقة لكي يهتفوا له وينخرطوا في كتائبه، فإن الأخ علي عبدالله صالح اعتمد بدوره على إغراء مرتزقة القبائل بالمال، لكي يحتشدوا حول قصره ويهتفوا له (قيل لي إن الواحد منهم يتقاضى 200 دولار في اليوم).
هذا كله مفهوم، إنما الذي يستحق التفكير حقا السؤال التالي:
ما الذي يشجع الرئيس اليمني على مقاومة ومعاندة المطالبين له بالرحيل طوال أربعة أشهر،
وما الذي يشجعه على تحدي ورفض مبادرات دول مجلس التعاون الخليجي، التي انضمت إليها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي،
بل إنه ذهب في تحديه إلى حد محاصرة وفد الوساطة من جانب القبليين المسلحين.
ليس ذلك فحسب، وإنما تحدث في كلمته عن الحرب الأهلية، وبعث برسالة تحذيرية من خلال هجوم قوات الأمن على مقر الشيخ الأحمر ومحاولة اقتحام مقره؟
يتحدث المطلعون على الشأن اليمني عن صفات مشهودة للرجل، ليس بينها جرأته في مواجهة التحديات التي يواجهها.. خصوصا إذا كانت من الجيران الذين لا ترد لهم كلمة من جانبه، أو من الأجانب الذين يدعمونه بعدما أطلق أيديهم للعمل في أنحاء اليمن، بدعوى تضامنه مع حملة مكافحة الإرهاب وتتبع عناصر القاعدة.
في تفسير تلك الجرأة على المماطلة والتحدي، قال لي أحد العارفين هامسا إنه لا يستبعد أن يكون الرجل قد تلقى من قيادات الدول المحيطة إشارات شجعته على ذلك. وهؤلاء أرادوا بذلك ليس الدفاع عن الرئيس اليمني وحده، ولكن الدفاع عن أنفسهم أيضا.
وفي تقديره إن تلك القيادات أرادت أن تبلغ الجماهير ــ وغضبها ليس مقصورا على اليمن وحده ــ إن الأمر ليس سهلا، وإن خروجها واعتصامها في الشوارع لا طائل من ورائه. ومن الأفضل لها أن ترضى بالموجود، بعد إدخال بعض التحسينات التي تجمل النظام، بدلا من المطالبة بتغيير النظام وإسقاطه.
في حدود علمي، فإن هذه الرسالة أرسلت بالفعل، لكن المعتصمين في أنحاء اليمن لم يأبهوا بها، ولا يزال نداؤهم يدوي في الأفق مصرا على أن رحيل الرجل هو الحل.
ساحة النقاش