لقد كان فتح مدينة «القسطنطينية» حلمًا يراود كل المسلمين وأملاً يسعى لتحقيقه الخلفاء والسلاطين والملوك منذ أن سمعوا البشارة النبوية بفتحها وعقبى فاتحيها([1])، ولقد قام المسلمون بعدة محاولات لفتح عاصمة الدولة البيزنطية التليدة، ابتداءً من سنة 35هـ في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان وحتى المحاولة الخامسة سنة 165هـ في عهد الخليفة العباسي «المهدي»، وكانت الأخيرة بسبب ضعف الدولة العباسية، وانشغل المسلمون بأنفسهم، وولت أيام قوتهم واهتمامهم بالجهاد في سبيل الله، وانفصلت أجزاء كبيرة من جسد الدولة المسلمة على شكل دويلات صغيرة متناثرة، وظهرت الدولة الفاطمية التي تبنت الإلحاد والزندقة عقيدة ومحاربة الدولة العباسية أصلاً ومنهجًا.
وهكذا بدا أن المسلمين قد نسوا فكرة فتح القسطنطينية تمامًا، حتى ظهرت الدولة العثمانية العظيمة وقد جعلت لنفسها هدفًا استراتيجيًا كبيرًا وضعه لهم مؤسس الدولة الأول «عثمان الأول» هذا الهدف هو فتح القسطنطينية، وبدأت محاولات الفتح منذ قيام الدولة العثمانية سنة 699هـ، ولكنها أخذت صورة التركيز والتكثيف والجدية ابتداءً من عهد السلطان «بايزيد الصاعقة» سنة 798هـ وكاد يفتحها لولا تدخل الطاغية الشيعي تيمورلنك الذي اكتسح الدولة العثمانية بجيش مهول «ثمانمائة ألف مقاتل» ومزق الدولة في معركة سهل أنقرة سنة 804هـ، وظلت الدولة العثمانية تضمد جراحها وتعيد تشكيل نفسها طوال خمسين سنة حتى استعادت قوتها من جديد.
تولى السلطان محمد الثاني عرش الدولة العثمانية سنة 855هـ وهو شاب في الثانية والعشرين ولكنه كان رجل الساعة والأمير الموعود، ولقد أعده أبوه السلطان العظيم «مراد الثاني» لهذه المهمة بعناية فائقة فرباه على العلم والديانة والورع وجعله يتولى أعمالاً جسيمة ومناصب قيادية وهو في الرابعة عشرة من عمره، وعهد به إلى الشيخ «شمس الدين آق» و«الكوراني» فشب محمد الثاني وهو لا يرى أمامه أي غاية في الحياة سوى فتح القسطنطينية، لذلك لما تولى السلطنة سنة 855هـ أخذ في الإعداد مباشرة للفتح العظيم.
أخذ السلطان محمد الثاني في إعداد جيش الفتح فدعا المسلمين للتطوع والاشتراك في الفتح فوصل تعداد الجيش إلى ربع مليون مقاتل، وأخذ في تجهيزه بأحدث الأسلحة واستقدم المهندس المجري «أوربان» وهو أشهر صانعي المدافع، وكلفه بصنع المدفع السلطاني، وهو أكبر مدفع في التاريخ، واهتم بتقوية الأساطيل العثمانية حتى بلغ عدد سفنه 400 سفينة مختلفة الأحجام، وأخذ في بث الشحن الإيماني والمعنوي في قلوب جنوده وتذكيرهم بموعود الله للفاتحين، وبث الدعاة والوعاظ داخل صفوف الجيش لرفع إيمانيات الجنود.
انطلق محمد الثاني بجيوشه الجرارة من مدينة «أدرنة» الملقبة بعاصمة الغزاة في محرم 857هـ فوصل بعد شهرين إلى أسوار القسطنطينية وخطب في جنوده قبل الهجوم لاستثارة عزائمهم وحميتهم للجهاد، ووصاهم بوصايا الإسلام في التعامل مع البلاد المفتوحة والشعوب المغلوبة.
كان «قسطنطين» إمبراطور بيزنطة رجلاً قويًا شجاعًا حاول بشتى الطرق والجهود البالغة أن يمنع هجوم العثمانيين على «القسطنطينية» حتى إنه أقدم على خطوة جريئة من أجل ذلك، حيث طلب مساعدة البابا زعيم المذهب الكاثوليكي وعرض عليه إخضاع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية للكنيسة الغربية الكاثوليكية، ولكن هذه الخطوة أغضبت أهل القسطنطينية بشدة.
استمات قسطنطين وقائد جنوده «جوستنيان» في الدفاع عن المدينة، وكانت القسطنطينية شديدة التحصين، بل هي أحصن مدن العالم، وحاول قسطنطين التفاوض مع محمد الثاني وعرض عليه الخضوع والدخول في طاعته ودفع أموال طائلة، ولكن محمد الثاني رفض ذلك كله وأصر على فتح المدينة، فهو لم يخرج من بيته للدنيا وزينتها، بل مجاهدًا في سبيل الله.
في المقابل شن العثمانيون الهجوم الكاسح على عدة محاور برًا وبحرًا، وقام محمد الفاتح بفكرة عبقرية لم يشهد التاريخ مثلها، حيث نقل الأسطول البحري إلى البر مسافة 3 كم ثم أنزله عند القرن الذهبي وبالتالي أصبح الأسطول العثماني داخل القسطنطينية، وقام بحفر أنفاق تحت الأرض في مناطق مختلفة لاختراق تحصينات المدينة، وبالجملة استخدم العثمانيون أساليب جديدة ومتنوعة في فتح القسطنطينية، حتى جاءت لحظة الفتح التاريخية وفي ليلة الفتح أمر السلطان محمد الثاني جنوده بالتوبة والخشوع والتقرب إلى الله والتهجد والدعاء استعدادًا للفتح الكبير، وبات المسلمون المجاهدون بخير ليلة، أما النصارى فقد باتوا بشر ليلة بعد أن نزلت صاعقة من السماء أحرقت أبراج كنيسة «آيا صوفيا» فعدوا ذلك نذير شؤم وإشارة على السقوط والهزيمة، وجمع قسطنطين سكان المدينة في قداس عام ودعاهم للدفاع عن المدينة لآخر قطرة في دمائهم وللحق كان الرجل على مستوى الحدث وضرب أمثلة رائعة في الصمود والدفاع والشجاعة.
وفي يوم الثلاثاء الموافق 20 جمادى الأولى 857هـ بدأ الهجوم العام الشامل على المدينة ومن كل اتجاه مع استخدام أسلوب البدل بين كتائب المهاجمين، وبعد أربع موجات هجومية قام بها العثمانيون اقتحمت فرقة فدائية من خلاصة أبطال الجهاد أسوار المدينة ورفعت الأعلام العثمانية عليها وأصيب قائد الجند البيزنطيين «جوستنيان» إصابة خطيرة، فنزل قسطنطين إلى أرض القتال ليقود المدافعين عن المدينة وخلع ملابسه الملكية وظل يقاتل مترجلاً بسيفه حتى قتل في أرض المعركة وفاءً بقسمه أن يدافع عن المدينة حتى آخر نفس في صدره، وكان لانتشار خبر مصرعه فعل السحر فانهارت المعنويات، وسقطت المدينة في منتصف النهار، ودخل محمد الفاتح المدينة وخر لله ساجدًا شكرًا وحمدًا وتواضعًا له عز وجل، وأمر بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى جامع في الحال وأصبح اسم المدينة «إستانبول» أي مدينة الإسلام.
كان لفتح القسطنطينية دوي هائل على مستوى العالم بأسره المسلم وغير المسلم، وأرخ بهذا الفتح نهاية العصور الوسطى في تاريخ البشرية، ودخلت العلاقة بعده بين الإسلام والغرب مرحلة جديدة تغيرت فيها طبيعة الصراع وأساليبه.
نشرت فى 26 إبريل 2011
بواسطة BADRFOUDA
ابو استشهاد
ندعوا الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والى تكوين الفرد المسلم والاسرة المسلمة والمجتمع المسلم والى الحكومة المسلمة والى الدولة المسلمة والخلافة الاسلامية والى استاذية العالم »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
121,378
ساحة النقاش