لقد أراد هتلر أن يحاصر الجزيرة البريطانية ، كان هتلر مصمماً على قطع الشريان الحيوي الذي يتمثل في الأطلسي .
لقد كانت المعركة الأطول و الأشد فتكاً كانت تدور فوق مياه المحيط الأطلسي و لم يكن لبريطانيا الاستمرار في الحرب إذا ما توقفت عنها الإمدادات العسكرية القادمة إليها من أميركا .
و معركة الأطلسي هي سلسلة من الغارات تشنها الغواصات الألمانية على القوافل التابعة للحلفاء في عرض البحر كما ستكون فيها عمليات واسعة لزرع الألغام و هجمات جوية فوق المحيط الأطلسي .
عين هتلر الأميرال كارل دونيتز قائداً لسلاح الغواصات و هو بحارٌ سابقٌ مغمور شارك في معارك الغواصات أثناء الحرب العالمية الأولى ، حيث كان قائداً بارعاً استطاع أن يغير كلياً شكل حرب الغواصات .
في الأيام الأولى من معركة الأطلسي الضارية كانت مهمات طواقم الغواصات الألمانية سهلةً ، إذ كان هدفهم تلك السفن التجارية المبحرة بمفردها و المنتشرة عبر الممرات البحرية ، ثم كانت هناك القوافل البحرية غير المحمية جيداً .
واجه الحلفاء مشاكل الإمداد و التزود تتمثل في كيفية تسيير قوافل مسلحة في وقتٍ لم تكن فيه سفن الحماية موجودةً و حتى مع وجود سفن الحماية فإن قدرة تلك السفن على مقاومة الغواصات كانت ما تزال ضعيفة ، لقد وجد الحلفاء أنفسهم في وضع شديد الخطورة ، ففكر الحلفاء بالاستعانة بسفن حربية لحماية قوافلهم من الغواصات الألمانية .
مع مرور الأشهر كان معظم ضحايا الغواصات الألمانية سفناً مبحرةً لوحدها ، لكن أصبحت أهدافاً كهذه قليلة و جاءت بعض البوارج البريطانية الكبيرة لترافق قوافل السفن لحمايتها و لكن هذه البوارج الباهظة التكاليف أصبحت بحاجةٍ لمن يحميها من الغواصات الألمانية ، و هكذا انتقل عبأ الحماية في معركة الأطلسي إلى المدمرات و الفرقاطات الصغيرة .
في شمال المحيط الأطلسي كانت الضغوطات التي تسببها الغواصات الألمانية تتعاظم إلى مستوياتٍ خطيرة ، لقد كانت الغواصات الألمانية مصدر خطر قاتل لسفن الحلفاء ، كان هناك نقصٌ حادٌ في السفن المرافقة و السفن الحربية الصغيرة التي تحرس السفن التجارية .
و الواقع أن خسائر الحلفاء تضاعفت بعد أن تزايد نشاط الغواصات الألمانية ، و لا يمكن تحمل خسائر كهذه لمدةٍ طويلة .
في نهاية عام 1941م ظهر عدوٌ جديد ، الولايات المتحدة ، اتجهت الغواصات الألمانية نحو نيويورك ، قذف السفن بالطوربيد على الشاطيء الشرقي للولايات المتحدة ، كان بالنسبة إلى الألمان بمثابة اصطياد طيور البط في بركة ماء ، أدت قلة التجربة الأميركية و الرضا الذاتي إلى خسائر كبيرة على طول حدودها الشرقية ، و ارتفعت الخسائر ، لقد غرقت في منتصف عام 1942م حوالي 500 سفينةٍ مع طواقمها ، إنه الجحيم .
كافأ الأميرال دونيتز رجاله ، بالميداليات ، بالمأذونيات و الهدايا ، و يروي لنا أحد الألمان الذين عاشوا تلك الأيام : (( في الواقع كما أتذكر جيداً كان يوجد على الطاولة في الغرفة طبقٌ بحريٌ غطاؤه مفتوح ، و من دون أي شكٍ في الأمر ذهبنا باتجاهه ، و رأينا أنه كان يمتليءُ حتى نصفه بالساعات ، كان يمتليءُ بكل أنواع الساعات ، من دون أو مع أغطية ، بأرقامٍ رومانية أو عربية سوداء و فضية ، و لكن في الحقيقة كما أذكر جيداً أيضاً لم تكن لدى أيٍ منها سلسلة ، في الحقيقة لم يسبق لي أبداً أن رأية هذا العدد الهائل من الساعات المجموعة مع بعضها في مكانٍ واحد ، كان يطلب مني دائماً ترتيبها في علبٍ منفردةٍ و إعطاء كل ساعةٍ منها رقماً متسلسلاً و يدون تاريخ و مناسبة الحصول على الساعة )) .
سقطت قذائف على الغواصة الألمانية ( U-110 ) ، اضطرت الغواصة إلى الصعود حتى سطح الماء و أصبحت مكشوفةً للحلفاء ، و قُدمت كغنيمةٍ غنية ، إنها المفتاح لرمز الألمان السري جهاز الشيفرة الأكثر تكتماً ( ENIGMA ) ، أتاح هذا الجهاز لمحللي الشيفرة البريطانيين التنصة على كل ما كان يدور بين الأميرال الألماني دونيتز و قادته ، و يقول أحد مفككي الشيفرات البريطانيين : (( ما حصل بالفعل هو أننا فككنا كل رموزهم ، و كانت كل قافلةٍ تقريباً ترسل بعيداً عن مجموعة غواصات الـ ( U ) ، و هزيمة الغواصات كانت لإبعادها عن أهدافها ، كان عليهم القول نحن لا يمكننا أن نجد القوافل )) .
لم يعرف الألمان شيئاً عن ذلك الاختراق الأمني الذي حدد مصير معركة الأطلسي ، كان الحلفاء يتنصتون و لم يشك أحدٌ في الأمر ، أصبح تعاقب الغواصات الألمانية للقوافل البريطانية أمراً نادراً .
لقد سبب الاختراق الأمني إلى كشف البارجة الألمانية بسمارك و هي عائدة إلى قاعدتها حيث أدى إلى إرسال السفن البريطانية و بوارجهم لمهاجمتها ، و بعد قتال عنيف في البحر غرقت البارجة بسمارك بعد أن عمل المهندسون فيها بإغراقها ، لقد ألحقت هذه البارجة خسائر فادحة بالسفن التجارية و الأسطول البريطاني .
لكن الألمان أخذوا بثأرهم عندما هاجموا السواحل البريطانية بأسطولهم و شتتوا الأسطول البريطاني هناك ، و تسبب هذا الهجوم إلى وقوع خسائر كبيرة بقاذفات و أسطول البريطانيين بسبب مقاومتهم الغير منظمة ، ثم اتجه الأسطول الألماني المهاجم و استقر عند سواحل النرويج .
إحدى السفن تحترق و قد أصابتها طوربيدات الألمان .
كان هدف الألمان خنق و تدمير خطوط التجارة البحرية و التي اعتمد عليها المجهود الحربي للحلفاء ، كانت قوافل السفن التجارية تبحر في المحيط تحت تهديد الهجمات المستمرة ، كانت أطقم الغواصات الأميركية تدرك بأن مهمتها هي الأصعب على الإطلاق ، كانت معركة الأطلسي صراعاً و قتالاً مباشراً بين الأعداد ، معادلةً حسابيةً حربية نتيجتها كانت نتائج العديد من العوامل ، هذه العوامل هي : -
1- حجم الإمدادات اللازمة لعبور المحيط الأطلسي .
2- درجة شد الأحزمة على البطون بين الشعب البريطاني .
3- معدل ورق السفن التجارية و الحربية المرافقة لها .
4- أعداد الغواصات الألمانية التي تتعرض للتدمير .
5- السرعة التي تتمكن فيها قوات الحلفاء و المحور من استبدال خسائرها .
شهد نهاية عام 1942م ازدياد هذه المعادلة تعقيداً ، الآن أصبح بالإمكان رؤية الجندي الذي يقاتل فوق ثلوج الاتحاد السوفياتي و رمال الصحراء و البحار داخل الغواصات نفس الجندي الذي يخوض القتال نفسه .
بعد أن أصبحت القوات البريطانية و الأميركية الآن في موضع هجوم شمال أفريقيا و المحيط الهاديء و تساند الجهود الحربية السوفياتية بشكلٍ غير مباشر فقد حان وقت الحلفاء ليتقدموا ، فنزول شمال أفريقيا احتاج إمداداتٍ و قوافل ، ازداد حجم الملاحة في البحار و أعداد السفن المرافقة و أجبر الحلفاء على تركيز ملاحتهم عبر المحيط الأطلسي فوق طريقٍ واحد ، هذا سهل مهمة الغواصات الألمانية .
في نهاية عام 1942م أصبحت معركة الأطلسي أكثر ضراوة ، و عندما استطاع الألمان زيادة أعداد الغواصات وجد الحلفاء أنفسهم فجأةً في أزمة حيث بلغ إغراق الملاحة التجارية معدلاتٍ خطيرة ، كان عام 1942م عاماً حافلاً بالسواد بالنسبة للحلفاء فالغواصات الألمانية تغرق سفنهم بسرعةٍ تعادل سرعة أميركا في بنائها ، هاجمت قوات الحلفاء إحدى غواصات الـ ( U ) الألمانية فيما كانت تخلي المصابين من سفينةٍ محطمة ، نتيجةً لذلك منع الأميرال دونيتز أي عمليات إنقاذٍ مقبلة ، و أصبحت الإنسانيةُ تعني مخالفة الأوامر .
شهد نهاية عام 1942م بلوغ معركة الأطلسي ذروتها ، الصراع بين الغواصات الألمانية و الأسلحة البحرية البريطانية و الأميركية و الكندية تواصل طوال سنة ، كان يتفاوت في القوة و الكثافة و كان ميزان القوى يتأرجح من جانبٍ لآخر حسب التقنيات و التكتيكات و القوى البشرية المتوفرة لدى كل جانب ، لكن الحقيقة بقيت بأن المبادرة كانت بين أيدي الحلفاء ، بعد مواجهتهم للخسارات الفادحة في السفن أصبحت معركة الأطلسي مهمةً في التخطيط الاستراتيجي و الجهود الموجهة نحو معارك الغواصات ، تم نشر و استخدام طائراتٍ خاصةٍ طويلة المدى و بدأت حاملات الطائرات ترافق القوافل ، لقد طال أمد معركة الأطلسي ، و الآن أجبر سلاح البحرية الأميركي و البريطاني على خوض معركةٍ فاصلة وفق حساب أن فقدان سفينتين تجاريتين مقابل غواصةٍ ألمانيةٍ سيدمر البحرية الألمانية .
بحلول نهاية عام 1942م و مع وصول خسائر الملاحة التجارية لأعلى معدلاتها فقد تحطمت أكثر من مئة غواصةٍ ألمانية مع أطقمها و سحبت الغواصات الألمانية ، كان ذلك انتصاراً آخر للحلفاء كانتصار ستالينغراد و ميداوي ، بعد ذلك اتخذت الغواصات الألمانية مواقع دفاعية عند شواطئ فرنسا.
ساحة النقاش