ما جرني للخوض في هذا الموضوع، كونه يعالج واقعاً مهماً نادراً ما يتم الحديث حوله بصورة جادة وعملية، ألا وهو واقع تنفيذ المباني، وبخاصة المشاريع الإسكانية، وتحديداً تلك التي يتولى أمرها المواطن بنفسه. فهو من يحدد طبيعة التصميم ويتفق مع المقاول ويتولى متابعة أعمال التنفيذ، بعيدا عن رقابة جهات الاختصاص أو المختصين، فينشأ عنها ما نسميه بالأخطاء الفادحة وربما قاتلة إذا تعلق الأمر بالتلاعب بكميات ومواصفات مواد البناء*.
هذه الأخطاء الفادحة أو القاتلة، الناتجة عن سوء التنفيذ، غالباً ما يكون ضحيتها الأولى المواطن نفسه، ثم المجتمع. ولكننا نجد القليل من المواطنين ممن لديهم الاستعداد لفهم أهمية أن يوكل أمره في موضوع بناء بيته والإشراف على تنفيذ مراحله المختلفة إلى المختصين، كل في مجاله. أي بمعنى أن يوكل هذا المواطن تصميم الخريطة المعمارية للمعماري، ثم يحولها إلى الإنشائي ليضع لها الخرائط الإنشائية، ومن ثمّ ترحل للمهندس الكهربائي، وبعد الدخول إلى مرحلة التشطيبات يوكل أمرها للمصمم الداخلي، وتنسيق حديقته يدفع بها إلى مصمم الحدائق... وهناك بطبيعة الحال مكاتب استشارية تضم كل هذه الاختصاصات معا. مما يوفر على المواطن مشقة البحث عنهم والتنقل بينهم.
والنتيجة الاقتصادية حتماً ستكون بيتاً عمره الافتراضي على أقل تقدير مائة عام، وفي أحسن الظروف قد تتجاوز الألف عام- وهذه ليست مبالغة- لتشكل إرثا تاريخيا يؤصل لبعد ثقافي واجتماعي. بدلاً من تلك المباني التي تنهار قبل أن تبلغ الفطام... والأهم من ذلك أنه سيكون أقل كلفة من المباني التي يغرق المواطن فيها في مصاريف أثناء التنفيذ تتجاوز حد المنطق وتفوق أتعاب كل أولئك المختصين. وهذا مرده إلى نقطة مهمة تغيب عن المواطن، وهي تعرضه في كل مرحلة لاستغلال العمالة له، ومحاولتها استنزاف ما رصده لعملية البناء، من خلال التلاعب بالأسعار والمواصفات، إضافة لجره إلى إضافة الكثير من التفاصيل والديكورات، التي تكون غالبا زائدة وربما مؤثرة تأثيراً سلبياً على جماليات المبنى. وتظهر هذه الحالة بصورة أكبر في مرحلة تنفيذ الهيكل، من خلال تغطية مساحات مفتوحة بالخرسانات، أو مد كمرات طائرة في الأدوار العليا، كذلك يتكرر الأمر في مرحلتي أعمال الجبس والتكسيات بالرخام أو غيره.
ولن يتفهم الآخرون ذلك إلاّ إذا أخذ المعماري والمهندس زمام المبادرة، وأحسنا التواصل مع المجتمع وتعريفه بطبيعة المهنة ودور المتخصصين في كل مرحلة من مراحل البناء، واقتربا أكثر من المواطن، وتفهّما حاجاته وظروفه المعيشية والمادية، وتبصيره بخطورة المجازفات التي يقع فيها، حين يتحمل أعباء التنفيذ لوحده دون وجود استشاري، يوجه الدفه نحو الطريق الصحيح ويوفر عليه مصاريف باهظة بالإمكان توفيرها للحد الأدنى دون الإخلال بالمواصفات الفنية والاحتياجات الأساسية والجماليات.
كما نتفق جميعنا أو نختلف حول حقيقة أن صنعة البناء طالتها أيدي من هم ليسوا أهلاً لها، من النواحي المهنية والحرفية والأخلاقية، وأصبحت لها اليد الطولى التي تتحكم في مقاليد هذه الصنعة وكل ما له علاقة بها. بدءاً باحتكار مواد البناء والتلاعب بأسعارها، مرورا بتصميم الخرائط المعمارية والتنفيذية وانتهاءً بأعمال تنفيذ المباني والتشطيبات.
والمسألة هنا تتعلق بانعدام ضمير يطال بعضاً ممن دخل عالم البناء من باب المقاولات، سواء كانوا معماريين أو غير ذلك من التخصصات الهندسية او ممن ليس لهم أي علاقة بالمجال لا من قريب أو بعيد، سواءً كانوا مواطنين من نفس البلد أو من خارجها.
كذلك غياب أو تغييب البرامج المعمارية عن محطاتنا الأرضية والفضائية، أسهم بدور أكبر في تأزم المشكلة، وحتى تلك البرامج التي قدّمت، فإنها تقدم بصورة استعراضية للمباني الفارهة، ذات الكلفة الباهظة والتقنيات العالية، بحيث تجعل المواطن يشعر بالخوف والعجز عن مجاراتها، دون أن يجني منها فائدة. في حين أن الحاجة الماسة تتجه إلى توفير نوعين من البرامج العلمية الثقافية التي تهم المواطن أكثر وهي:
· البرامج الإرشادية، التي تعرف المواطن بخطوات البناء الصحيحية.
· البرامج الحوارية، التي تعالج أهم القضايا المعمارية التي تواجه المواطن والمجتمع، تتدارس السبل الكفيلة بحل جميع الإشكاليات والتجاوزات التي تعترض صناعة البناء، وتطرح حلولا عملية يمكن تطبيقها على أرض الواقع.
موضوع حيوي لربما يصل بنا لو أحسن أهل الاختصاص التعامل معه إلى طرح جملة من الأفكار والخطوات العملية التي يمكنها أن تقنن سير أعمال تنفيذ المباني، كما يمكنها أن تشكل حالة وعي لدى المواطن، وذلك من خلال البحث عن إجابات لهذه التساؤلات التي تتعلق بـالتالي :
· الكيفية التي يمكن بها ربط المعماري بخبرات التنفيذ والإشراف على المباني. من خلال إحداث تغيير في المنهج الدراسي، بحيث تتحول العطلات الصيفية إلى ورش عمل ميدانية.
· كذلك الكيفية التي تمكّن المعماري من الإمساك بزمام المقاولات وأسرارها، دون أن يتنازل عن أخلاقيات المهنة وأصولها.
وذلك من خلال المزاوجة بين تجربتين، إحداهما تلك التي سبقت إليها جامعات كثيرة في العالم في ربط الطالب بالتنفيذ الميداني خلال فترة العطلات، وأعتبار هذا الأمر جزءاً لا يتجرأ من المهنج الدراسي، والثانية تتعلق بالتعاطي مع الأسلوب الذي كان شائعاً، قبل أن يطبق نظام التعليم الحديث، حيث كان المعماري في بداياته يتلقى جميع العلوم وتطبيقاتها معا من خلال الممارسة الميدانية اليومية، عبر مشاركته في تنفيذ المباني، إلى جانب تبصيره بأخلاقيات المهنة، وذلك من خلال قراءة متأنية لتجربة " الأسطوات".
طلبة Texas A&M College أثناء مشاركتهم في تصميم وتنفيذ مشاريع إسكانية مستدامة
ربما تكون هذه بدايات لفتح باب الحوار والنقاش أكثر حول الموضوع، ومواجهة جميع التحديات المتعلقة بالمهنة، وإحداث تغيير قد يشكل فارقا في صناعة البناء المحلية مستقبلاً، ويعيد الأمور إلى نصابها، بإذن الله وتوفيقه.
* تزايدت حوادث انهيار العقارات في مصر مؤخراً، حيث شهد مطلع العام الجاري 2009 انهيار ثلاثة عقارات بمدينة الإسكندرية الساحلية، خلال أقل من أسبوعين، في مارس/ آذار الماضي.
وفي 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2008، شهدت مصر خلال أقل من 24 ساعة، ما يمكن وصفه بـ"انهيار جماعي" شمل ثلاث مباني سكنية في كل من مدينتي الإسماعيلية والإسكندرية.
جاءت تلك الانهيارات المتكررة للمباني السكنية بعد أقل من عشرة أيام على "كارثة سكنية" شهدتها أيضاً مدينة الإسكندرية في الثامن من الشهر نفسه، خلفت 11 قتيلاً على الأقل وأكثر من ستة مصابين.
وعادة ما تؤدي مثل هذه الحوادث إلى سقوط خسائر بشرية، خاصة بين سكان المناطق الفقيرة، نتيجة عدم جدية السلطات في إخلاء سكان العقارات الآيلة للسقوط.
ساحة النقاش