رافع هامة البناء وشاخص الحكمة في حيثياته 

رفع "العمود" هامة الدار والخيمة والمسجد والكنيسة والمعبد والهيكل وأصبح عنصرا أساسيا من عناصر العمارة. و ترادف رمزه مع معجزات الله كما في سورة لقمان(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ، وأكتسب أسم العمود إيحاءات في السند والإعتماد، ونعت به المعتمد والعمده والعميد .وتواشج الغلو في حجومه رمزيا مع الطغيان كما في الذكر الحكيم من سورة ص(وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ). والعمود هو نفسُهُ الذي وجد في أعمدة الشعر و تسلل إلى أهازيج الشكوى واللوعة، أو أنتحب عن ألم أوإمتثل لسطوة الموت أو أنشرح متألقا،أو متناغما على إيقاع الكفوف والطبول إبتهاجا. وأنتقل إلى الحداثة الشعرية، حيث يستلقي خلال القصيدة العمودية متثائبا بين السطور أو ممزقا أسفل الكلمات.

وهناك إعتقاد ساذج، راسخ للعامة بأن الشياطين تعيش ، وتفرخ بين أعمدة الخشب في البيوت العتيقة، حيث تشكل تلك الأعمدة مساند سقوفها، أو بين أعقاب النبات والحطب حيث يخزنان، أو في المغاور، والشعاب، والأكواخ المهجورة، وفي بقايا جدران إرم ذات العماد، التي غضب الله على أهلها فهلك من هلك وهجرها من مكث، أو في خرائب بابل، التي هجرها بعد الخراب، من سكن تحت الأعمدة.

والعمود في العمارة أحد العناصر الراسية لذروة البناء كما(العمود الفقري ) الشامخ برأس المخلوقات. أما فلسفيا فهو نحت سلبي من الكتلة الصماء للبناء، أو بقية باقية من الأجزاء المتضامة له،بما يضمن هندسيا رفع هامة السقف وترك فراغات المعيشة كغاية، عمارية بحد ذاتها. 

وكلمة "عمود" قديمة في لغات الشرق القديم ،حيث ترد في اللغة الأكدية(العراقية العتيقه) بصيغة (عميدو Emedu) ومنها أشتقت (عمدو) ،ونجدها في الآرامية في الشام والعراق بصيغة (عموّدا Emmuda) وفي الفينيقية (عمد) والعربي الجنوبي(اليمن) بصيغة (عِمد). ويرد أسم هذا العنصر البنائي في العربية بصيغ متعددة منها (العمود Column) ومجموعها (عمد) الواردة في الذكر الحكيم في سورة الهمزة(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ )، ويرد (أعمدة) أو حتى (عمدان) . ثم نجدة بصيغة (سارية وسواري) ،وكذلك (وتد وأوتاد) . ويرد بصيغة (سطن) ومجموعها (أساطين)، أو (دعامة) ومجموعها (دعائم) ، وترد في العمارة الإسلامية في الهند بصيغة (ركن Rukn ) أو (سطون (Sutun. وثمة تسمية (شاخص Astragal ) وتعني العمود الطويل الخالي من الزخرفة. و في العراق يرد أسم العمود بصيغة (دلك)، وكذلك(دنكه) ومجموعها (دلكات) أو (دنك) و يقول عنها(الشيخ جلال البغدادي) في موسوعة الألفاظ البغدادية أنها من مصدر فارسي، وتخص تحديدا البوائك (أعمدة الرواق) التي تحيط بفناء الدار. ويرد أسم (العمود الماردي) الذي يرتفع لأكثر من طابق بواجهات المبنى. وثمة عمود (مدغم (Colossal order وهو عمود ملتصق مستدير القطاع يزين أحيانا أركان الدعائم التي تحمل الأسقف ويكون ملتصقا بها.‏وهناك تسميات ترد من وحي العمود مثل (بهو الأعمدة‏ Peristyle أو Hypostyle) ،ويعني المبنى الذي يستقر سقفه على أعمدة أو الفناء الذي تدور من حوله البوائك المحمولة على أعمدة‏. 

والعمود في العمارة عنصر إنشائي (شاقولي vertical) أو عنصر قائم ، داعم لسقف أو جدار أو أسكفه - عتبه أو عقد ،ويراد منه نقل أحمال العناصر الأفقية في التسقيف بحسب الحلول العمارية إلى القواعد والأساسات التي تنقلها للأرض .وهكذا فهو وسيلة نقل العزوم الواردة من عناصر الهيكل الأفقية. والقصد منه الاستفادة من المساحات الحرة التي توظف كفضاءات عمارية. وبسبب اضطلاع العمود بمهمة نقل السقوف التي هي غاية في البناء بحد ذاتها، بما ولد هاجس و خشية من السقوط، أرّق الأحاسيس وأوجد حاجة أثمرت عن روح الإبتكار للبنائين. ربما يكون سببا كافيا بأن جعل المصريون القدماء يقاربون بين أعمدة معابدهم خشية عدم تحمل الجسور في البحور الفاصلة بين الأعمدة، كما هو الحال في معبد الكرنك.وبالنتيجة فقد قضمت ضخامة تلك الأعمدة وتقاربها المبالغ فيه،فسحة الفضاء المتاح للإستغلال الوظيفي. 

واستعمل في تجسيد هذا العنصر الهيكلي ، خامات متعددة،بحسب توفرها في البيئات،فجاءت من خامات القصب والخشب وجذوع النخيل والآجر والحجر وأمست في الأزمنة المتأخرة من الحديد والمعادن أو من الخرسانة المسلحة التي شاعت ،ولم تجد لها منافس. وتعدى العمود الهيئة البنيوية الى الجمالية،كما هو ديدن الإبداع البشري،وأضفي عليه معالجات وتزويق وضبط للنسب الجمالية ،أو حتى معالجة بعض الخدع البصرية،كما هو الحال لدى اليونان،حينما أضفوا إنتفاخا في وسط العمود،كي يبدوا للناظر سويا عدلا،وليس منبعجا من وسطه،لو كان قد ترك على سجيته الحجمية. ومن الجدير ذكره أن هذا المبدأ في معالجة الخدع البصرية البنائية قد ورد اليونان من مصدر العمارة العراقية العتيقة،حيث ورد أول وأقدم مثال باق اليوم على ذلك في المعبد الابيض في تل خفاجي-منطقة ديالى،شمال شرق بغداد ،والذي يعود إلى نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد.

الأعمدة و تاريخ العمارة 
تعددت أشكال الأعمدة بتعدد الطرز والعهود التاريخية ، واختلفت طرزه باختلاف الأقطار ثم الثقافات و الديانات والمعتقدات ، لكن من الثابت أنها بقيت مخلصة للتأثيرات الأولى المحاكية للأشكال الطبيعية حيث مكثت فيما تلى من إبداعات ،ولاسيما في حبكة العناصر الزخرفية والتيجان المميزة للطراز في كل مدرسة عمارية . ونرصد هنا أقدم إستعمال للأعمدة يرد في العمارتين العراقية ثم المصرية ، وقد كان للعمود السومري المتكون من حزمة القصب تاثير لاحق حتى على العمارة اليونانية ،حيث يورد بعض منظري العمارة بأن السواقي الطولانية أو الحنيات المقناة في الجذع Fluted ،وكذلك حلية الخلخال الناتئ المطوق للعمود أفقيا،ماهي إلا حذلقة جمالية وردت من محاكاة للأصل القصبي للعمود ،حينما تظهر تلك السواقي على ظاهر العمود المتكون من حزم القصب، والتي تشد بعقال قصبي كي لاتنفلت و الذي شكل الإيحاء الأول لهيئة الخلخال في العمود.

ثم ورد من العمارة السومرية والأكدية محاكاة لتك الأعمدة ولكن مصنوعة من خامة الطوب أو الآجر،بهيئات مربعة أو دائرية ،تصنع خصيصا لما يخدم عملية التناسج بين قطعها،ونجد خير الأمثلة في القاعة العراقية في متحف اللوفر المتكون من أربعة أعمدة ضخمة آجرية، حيث يتشكل العمود من أربعة أسطوانات دائرية متماسة تحصر بينها نجمة مربعة. ومن اللافت للنظر أن تلك الحشوة الوسطية قد ملئت بقطع من الآجر فصلت بما يناسب ذلك الشكل، وبنيت بالآجر تكامليا مع حبكة الآجر المكون لأبدان الأعمدة.
وفي هذا السياق نعتقد أن تلك الأشكال الأولى للأعمدة قد أنتقلت الى عمارات الدنيا، ونجد لها أحيانا محاكاة في طرز أخرى ،بقيت لردح من الزمان (قبل الحفريات) تشكل النماذج الريادية ،ونجد إقتباساتها في ألأعمدة المحيطة بأحواش(أتريوم) بيوت مدينة بومبي الرومانية التي دفنهتها حمم البركان في القرن الثالث قبل الميلاد كانت معمولة من آجر مشكل بطريقة مدورة، وهي محاكاة للأعمدة التي أستعملت في العمارة العراقية. 

ومن الجدير ذكره هنا أن أعمدة القصب التي وردت لدى العراقيين القدماء ورثها سكان الأهوار في الجنوب العراقي (الشروقيون) اليوم، حيث أن عششهم (صرائفهم) تبنى بمنظومة أعمدة مكونه من حزم قصبية معصوبة، و يسمى لديهم (شبه)،تكور وتربط في سامقها ثم تشد بعناصر أفقية من حزم القصب تسمى (هطر) لكي تمنع حركتها الأفقية ثم تغطى بطبقات من الحصر العراقية (البواري) المشغولة من ظفر عيدان القصب المشظى. وهذه الطريقة حذلقة إنشائية مبكرة عن الأعمدة التقليدية . وقد أستوحت عمارة الهياكل الحديدية الحديثة هذا النوع من الحلول خلال مبنى (رواق المكائن Galarie de machine) المقام في باريس عام 1888 ، حينما جعلت الأعمدة الحديدية بشكل نصف قوس وربطت نهاياتها السائبة بشكل (مفصل articulate) وأمست بحورها حوالي 100متر.

وأعتمدت العمارة المصرية القديمة على إستعمال عنصر العمود المبني من الحجر،ويمكن أن يكون قد سبقتها خامات نباتية بقيت أشكالها في النحوتات التي أختصت بها التيجان أو أطناف المباني، مثل أشكال منحوته تحاكي جريد النخيل أو زهرة اللوتس أو زينة(خكر) التي هي عبارة عن رؤوس جذوع البردي التي كانت تربطها عصابات من أعلاها وأسفلها .وكانت توضع الأعمدة في صفوف داخل البيوت الكبيرة والمتوسطة،وقد وردت في بعض الرسوم التمثيلية،كما في رسوم تل العمارنه، التي مزج المصريون فيها بين تمثيل المسقط والمقطع أو الواجهة، التي تظهر شكل الأعمدة ومواضعها.والمسلات لدى المصريين هي نوع من الأعمدة الرمزية التي لاتوظف في البناء. وقد وردت بعض الأعمدة المصرية تخليدا لآلهتهم أو ملوكهم أو فرسانهم كالعمود الأوزوريسي والعمود ذو الفارس المعروف بالأطلنطي والعمود الهاتوري وغيرها.

ووردت الأعمدة عند نبط (البتراء)منحوته في الصخر، وينحت الفرس الأخمينيون تيجان أعمدتهم على شكل ثورين ،متأثرين بحظوة الثور الواردة من العمارة الآشورية كما في آثار برسيبوليس،. وأستعملت الأعمدة عند اليونان حيث كانت الحكمة ترفع على سبعة اعمدة و أعتبروا الاعمدة في البناء غاية معمارية بحد ذاتها، وتحذلوا بتصميمها وكذلك بتيجانها وقواعدها وتمسكوا بطرزها ،وأعتبروها مرجعية في تحديد الطراز.وقد قلدوا الأشوريين في جعل بعض أعمدة البناء على هيئة أنصاب وتماثيل معبرة. وعلى العموم فأن طرز الأعمدة اليونانية جاءت على ثلاث أنواع هي :

1 - الطراز الدوري Doric ظهر في سواحل البيلوبونيز وإيطاليا وصقلية لم ينسب إلى الأم الدورية ، ونشأ منه نوعان : الدوري الإغريقي ، والدوري الروماني . 

2 - الطراز اليوني Ionic ويعتقد بأن جذوره تعود إلى أصول رافديه وحيثية و ظهر في العمارة الكنعانية الفينيقية وتوجد أمثله له في الأطلال الفينيقية بما يدعى (السابق للايوني ,( Preionic ثم تسنى له الانتقال الى اليونان عن طريق آسيا الصغرى وانتشر بها أواسط القرن السادس قبل الميلاد ،ثم الى سواحل بحر إيجة وبعض الأراضي الشرقية التي كانت تحت حكم اليونان . 

3 - الطراز الكورنثي Corinthian ،وورد من أصول العمارة المصرية ثم انتقل الى الإغريق ونشأ في مدينه أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد ، واشتقت تسميته من مدينة كورنث اليونانية ، وطوره الرومان في حقبة لاحقة . ويتشكل تاجه من نسقين من أوراق نبات الأقنثا . وظهر من هذا الطراز نوعان : الكورنثي الإغريقي ، و الكورنثي الروماني .

واستعمل الرومان في عمارتهم نفس طرز الأعمدة الإغريقية الدوري والايوني و الكورنثي ، وأدخلوا عليها بعض التعديلات ، كما طوروا الطراز الدوري فعرف باسم : الدوري الروماني ، وكذلك الكورنثي الروماني ، وفي بعض الأحيان كانوا يدمجون الطرز الثلاثة في عمود واحد . وكان للنهج الكورنثي النصيب الأكبر في الانتشار والشيوع أكثر من غيره ، ونشاهد ذلك في آثار تدمر، وفي بدايات هذا العهد نشأ منه نوع مطور نشاهده في أطلال مدينة أفاميا حيث يأخذ بدن العمود شكلا حلزونيا مع بقاء التاج كورنثي الطراز . كذلك ظهر في هذا العهد طرازان جديدان هما :

1 - الطراز التو سكاني Tuscan إنتسابا الى منطفة توسكانيا الإيطالية وهو طراز دوري روماني دون زخارف.

2 - الطراز المركب Composite نموذج طوره الرومان في حقبة متأخرة ، ويتألف تاجه في نصفه العلوي من الزخرفة الأيونية ، و نصفه السفلي من الكورنثية .

وغالبية هذه الأعمدة مقناة الجذع Fluted(تزخرف جذعها الأقنية الطولانية) أو ملساء . كما ظهرت أشكال جديدة من الأعمدة الحلزونية أو الأعمدة المنفتلة نشاهدها في خرائب مدينة أفاميا قرب حماة السورية . وهناك أيضا( العمود الحلقي Torus ) جذعه مزخرف بحلقات فوق بعضها البعض، و(العمود المندمج Engaged) وهو عمود كامل الاستدارة أو نصف مستدير وما إلى ذلك ، ملتصق بالجدار أو بعنصر عماري اخر . كما وضع الباحثون تسميات لكل جزء من أجزاء العمود، تختلف أحيانا باختلاف طرازه ، وتتوافق أحيانا أخرى .فمثلا (المحمول - الطبان Entablature) هو القسم العلوي المحمول على العمود و يتالف من الجبهة و الطنف والإفريز و الساكف (الاسكفة) . أما الإفريز فهو كلمة فارسية، تعني الشريط الزخرفي بين الساكف و الطنف .و(الجائز أو ساكف العمود architrave ) هو الجزء الذي يستند عليه الإفريز و الطنف .أما الوطيدة أو الوزرة ، فهي قاعدة مربعة Plinth، وهي جزء في أسفل العمود . وثمة وسادة حجرية abacus تقع بين تاج العمود والساكف ، ملساء أو منقوشة .

تيجان الأعمدة 
تاج العمود Capital من عناصره التكوينية وهو رأس العمود أو الجزء الذي يتوج أعلاه ،وهو يشكل الحالة الإنتقالية من العمود الى الطاق أو الجسر الذي يعلوه. والتاج إما بسيط أو مزخرف ، وتختلف زخارفه باختلاف الطابع الفني لكل مدرسة عمارية. وبالرغم من ذلك فلم تنتقل تلك الطرز بحذافيرها أو حتى انقرضت في فنون الإقليم . فلدينا مثلا تيجان الأعمدة الفرعونية التي اضطلعت بتأثيرات نباتات وأزهار وادي النيل ،ولم تنتقل تلك الطرز الى تيجان الأعمدة في مصر الإسلامية. والحال نفسه لدى الفرس الأخمينيون الذين نحتوا تيجان أعمدتهم على شبه ثورين ،ولم تعمم في التيجان الإسلامية . وأكثر التيجان انتشارا هي التي يقال بأنها نشأت مع العمارة الإغريقية ،والتي في حقيقتها جاءت من مصادر حضارة بلاد الشام ، ولاسيما الفينيقي منه بما دعى (السابق للأيوني (PreIonic. وعلى العموم يمكن رصد تلك التيجان المتميزة وهي: 

1 - التاج الدوري Doric ونشأ منه تيجان : الدوري الإغريقي ، والدوري الروماني ، وهما طرازان بسيطان إذا ما قورنا بالتيجان الكورنثية أو الايونية .

2 - التاج اليوني Ionic مزخرف بشكل حلزوني . 

3 – التاج الكورنثي Corinthian يتشكل تاجه من نسقين من أوراق نبات الأقنثا Acanthus. وهو الأكثر شيوعا ، وظهر من هذا الطراز تيجان : الكورنثي الإغريقي أو الروماني . واستعمل الرومان في عمارتهم نفس طرز التيجان الإغريقية : الدوري والايوني و الكورنثي ، و أدخلوا عليها بعض التعديلات ، كما طوروا الطراز الدوري فعرف باسم : الدوري الروماني ، وكذلك الطراز الكورنثي الذي عرف بالروماني ، وفي بعض الأحيان كانوا يدمجون الطرز الثلاثة في تاج واحد .وكان للنهج الكورنثي النصيب الأكبر في الانتشار أكثر من غيره ، و نشأ منه نوع مطور نشاهده في أطلال مدينة أفاميا . كذلك ظهر طرازان جديدان هما:

1. التوسكاني Tuscan وهو طراز دوري روماني تاجه بسيط غير مزخرف ،وقد عم في عمارة المغرب العربي إبان حروب (الإسترجاع) التي قامت بين الشاطئين الشمالي والجنوبي للبحر المتوسط في القرون الوسطى، ونقلها البناءون من أسرى الحروب الأوربيين الى تلك الديار.

2. المركب Composite نموذج طوره الرومان في حقبة متأخرة ، ويتألف تاجه في نصفه العلوي من الزخرفة اليونية ، ونصفه السفلي من الكورنثية . 

العمود في العمارة الإسلامية 
أستعمل المسلمون في بواكير ممارساتهم العمارية أعمدة المباني الدارسة،ولاسيما في مدارس البحر المتوسط العمارية كالشام ومصر والمغرب والأندلس حيث توفر الكثير من العمائر الحجرية من الحقب السالفة. ولم يكن يهم البنائون كثيرا عدم التجانس في الشكل أو الطول، بقدر ما يوفره العمود وتاجه من تجسيد لسقوف مرفوعة بطرق مختلفة بحسب المدرسة العمارية. ويذكر المسعودي : أن جيرون بن سعد بن عاد حل بدمشق فمصرها، وجمع عمد الرخام والمرمر إليها ، وشيد بنيانها(مروج الذهب ومعادن الجوهر2-331 ). وأستعمل المسلمون التيجان المنزوعة من العمائر العتيقة الدارسة والتي تشكل اليوم جزء من طرز عمارة المساجد الأولى كما الاموي في دمشق وقرطبة والقيروان .وقد وجدنا في أحد مساجد دمياط شمال مصر قد وضف تاج قديم عند قاعدة العمود.

وقد ورث المسلمون من الأعراف القديمة نظام (الأكتاف) التي هي حالة بينية بين العمود والحائط الحامل الصفيق. وقد كانت شائعة في العمارة البابلية . ونجد أجمل نماذجها في الإسلام موجود في مسجد سامراء الكبير الذي قلد تباعا في جامع إبن طولون في مدينة القطايع (257هـ-871م) التي أنشأت على تخومها القاهرة الفاطمية. 

ولا يفوتنا أن جل البناءات في مصر ،ابتداءا من مسجد ابن طولون حتى البنايات المملوكية والعثمانية، كانت قد شيدت من أنقاض مدينة الفسطاط الدارسة. ولم يتسنى للبنائين نقل مداميك الحجر الكبيرة من الجيزة لثقلها. وفي شمال أفريقيا نجد أن مدن عمرت بالكامل من أنقاض التي سبقتها في الموقع أو على تخومها كما في وليلي الرومانية قرب الرباط وتمقاد وتيبازة في مدن وسط الجزائر وبطيوة في مدن مليليه ومستغانم. وبعد ذلك قلعة بني حماد الإسلامية في مدن شرق الجزائر وأنقاض قرطاجة الفينيقية في مدن تونس ومحيطها العامر . 

وبالرغم من سهولة عملية نقل الأنقاض من الآثار القديمة فأن ذلك كان يحتاج الى حذلقة وحيلة في إعادة توظيفها بناءيا . حيث يقول كوستاف لوبون بهذا الصدد في (حضارة العرب) : ( ان اعمدة المعابد القديمة التي اخذها العرب في قرطبة كانت قصيرة وغير صالحة ليقوم عليها سقف عال كسقف الجامع (جامع قرطبة) فوضعوا بعضها فوق بعض ساترين عدم صلاحها بتلك الحنايا الدالة على مهارتهم الفائقة). وقد تسنى للترك أن يستعينوا ببقايا العمائر البيزنطية ويعيدوا لها رونقها في مدن آسيا الصغرى والبلقان. ونرصد هنا أن القيم الجمالية فى العمارة الإسلامية ليست مطابقة لما هو موجود فى العمارات الأوربية ،ولاسيما الفارق في تتبع طراز بعينه مثل الطراز الرومانسك أوالقوطي أوالباروك الأمر الذى لا يجوز معه تطبيق القواعد الجمالية الأوربية على العمارة الإسلامية بما يخص نقل أجزاء الابنية الدارسة.

ولم يستغني المسلمون عن خبرات الحضارات الأقدم ،واستقدموا معماريين وصناع من تلك الأصقاع،بما يدعى (الليثوروجيا).وإذ يذكر المقدسي في هذا الصدد أن ملك بيزنطة بعث إلى الوليد بن عبدالملك المغالي في حب البنيان بعدد من المهندسين و(المقدرين) وكذلك المفصصين ( عمال الفسيفساء) والذهب . و أردف( إن الوليد جمع لبناء الجامع الاموي حذاق فارس والهند والمغرب والروم، وروى ابن شداد أن الوليد أقتلع من كنيسة أنطاكية عمدا عجيبة من المرمر والرخام لمسجد دمشق حملت في البحر إلى ساحلها.وجاء في التواريخ (أن الوليد بن عبدالملك الأموي أقتلع من كنيسة أنطاكية عمدا عجيبة من المرمر والرخام لمسجد دمشق حملت في البحر إلى ساحلها. وأن بعض الجدران بقيت على حالها من المعبد الصابئي والبيعة النصرانية)
و لم نرصد تطور على أشكال الأعمدة وتيجانها في بواكير الممارسات البنائية للمسلمين ، فقد استعمل الأمويون ما كان قائما ، ونشاهد ذلك في أعمدة الجامع الأموي ذات المقطع الأسطواني، كما الأعمدة الحاملة لقبة الخزنة في صحنه وبعض أعمدة الأروقة ، وكذلك الأعمدة ذات المقطع المربع المزخرفة بالحشوات التوريقية والهندسية ، وفي سياق وصف هذا الجامع يقول الاصطخري وكذلك ابن حوقل: (وأساطينه رخاما موشى ، و معاقد رؤوس أساطينه ذهبا) . ونجد الأمر عينه في مسجد عمر بن العاص في الفسطاط أو مسجد القيروان الجامع ، أو حتى الجامع الكبير في قرطبة.

وظهرت أولى الحذلقات الفنية الإسلامية للأعمدة في العصر الأموي ،حيث نجد التاج المنقوش بالخط الكوفي وهذا يبين أن المسلمين قد أخذوا بالأسباب والجوهر و اعتبروا أن عنصر التاج هو محض إنتقال مسترسل من دائرة أو مضلع العمود إلى مربع الحائط أو العقد،ويمكن خلق أشكال لانهائية له دون قيود. ولم يحاكوا في تيجان أعمدتهم أشكالا نمطية أو طرزا بعينها. 

ولم يأت العهد العباسي بأنواع جديدة في طرز الأعمدة لقلة استعمالها في العمارة العراقية ،وبالرغم من ذلك فقد انتشر استعمال التاج الناقوسي ونجده أمثلته اليوم في تيجان أعمدة رواق جامع أبن طولون. وفي العهد الأيوبي بدأ ظهور التاج المقرنص ، وانتشر في العهود اللاحقة . وظهر في العهد المملوكي نقش الأعمدة بالمراسيم الكتابية في أمكنة محدودة كأحد أعمدة رواق الجامع الأموي .وعمود أخر إلى يسار الخارج من بابه الشمالي ، بينه وبين ضريح صلاح الدين الأيوبي. وتعددت أشكال الأعمدة في العصور الإسلامية ، فكان منها الأسطواني ،والحلزوني، والمضلع، والمثمن، والمربع، والمستطيل ،وما إليها ، ومنها ما كان مكسوا بالرخام أو بالجص أو بالقاشاني أو بالمعدن و بالذهب .وظهر في الأندلس خلال العهد الموحدي نوع من التيجان طبق كذلك في شمال أفريقيا ونجده في المسجد الكبير في مدينة تلمسان الجزائرية. وتحذلق القوم هناك بالاعتماد على خامات الرخام الفاخر الذي صنعت منه تحفة أعمدة قصر الحمراء ولاسيما في الرواق المحيط بباحة السباع.

ومنذ القرن (الرابع للهجرة \العاشر للميلاد) صارت للأعمدة في العمارة الإسلامية تيجانها الخاصة التي تميزها عن التيجان الإغريقية والرومانية والبيزنطية ،وتميزت بزخارفها النباتية والهندسية ، ودخل الخط العربي عليها ليجعل لها خصوصية إسلامية بحتة، وقد عمت الكتابات القرآنية أو الشعرية أو الأقوال المأثورة ، كذلك استغلت التيجان لنقش اسم الحاكم أو البناء أو الواقف ، ولتسجيل زمن إقامة هذه المشيدة أو تلك ، وكان للخط الكوفي النصيب الأوفى من بين الخطوط المستعملة لمثل هذه التيجان.

وفي العهد الأيوبي بدأ ظهور التاج المقرنص ، وأنتشر في العهود اللاحقة . وفي هذه العهود الإسلامية الأخرى طورت أشكال التيجان فظهر منها التاج البصلي والناقوسي والمزخرف بأوراق النبات إضافة إلى التاج المقرنص . وجاء العهد العثماني بتيجان ذات تأثيرات سلجوقية مغايرة لمألوف العمارة الإسلامية الأقدم ، فأخذت الطرز الجديدة بالظهور ، كالتيجان المزخرفة بالأشكال الهندسية ، المثلثية منها والمعينية ذات السطوح الملساء النافرة والغائرة. وفي المغرب والاندلس أتسع إنتشار نوع مكعب يكتنفه نحت نباتي سطحي كما في أعمدة قصر الحمراء ومباني فاس وتلمسان. وفي فارس والهند أستهواهم النوع المقرنص أما في الهند خلال حقبة السلاطين فقد طغت بعض الانواع الموروثة من العمارة الهندية ،وتغير ذلك خلال حلول الطراز المغولي ولاسيما بعد السلطان أكبر ومرحلة مابعد (فتح بور سكري). 

وقد استخدم الحجر في تجسيد التيجان ثم أنتقل الى الآجر ثم ورثها الخشب في العراق وإيران وآسيا الوسطى ،ولاسيما النوع المقرنص الذي نجده في مقصورات أصفهان المفتوحة ،وأستمر حتى أواسط القرن في بيوت بغداد القديمة يتوج (الدلكات) والذي أضمحل بعد حلول العمارة الخرسانية الحديثة.

وفي عمارة فارس وآسيا الوسطى أستعملت الأعمدة الخشبية،ولاسيما في الجواسق والمداخل الصرحية الباسقة، ناهيك عن الأعمدة التقليدية المبنية بحبكة الآجر كما هي في مسجد نايين الذي يعود للحقبة البويهية. أما في عمارة الهند فقد تطورت خلال الحقبة المغولية ابتداءا من السلطان أكبر الذي أشاد مدينة (فتح بولا سكري) عام 1572م، والتي طبقت في ثناياها عناصر الأعمدة والتيجان الواردة من العمارة الهندية التقليدية التي سرعان ما انقلبت تباعا إلى الطرز الإسلامية المعروفة، ونجدها في قلعتي أكرا ودلهي الحمراوين. وطورت في العهد العثماني تيجان الأعمدة، وأخذت الأشكال الجديدة بالظهور، ولم تكن مألوفة من قبل ، كالتيجان المزخرفة بالأشكال الهندسية ، المثلثية منها و المعينية ، و لكن جذوع الأعمدة بقيت ملساء ، ونشاهد ذلك في التكية والمدرسة السليمانية في دمشق.

وعلى العموم فأن الأعمدة التي ابتدعها فنانو العمارة الإسلامية، كانت تتميز بأشكال حلياتها الشرقية و تمتاز بالبساطة، وعادة ماتكون نسبة ارتفاعها 12 مرة للقطر، ومن ميزاتها أن لها تيجان متناسقة ذات رقبة طويلة وصفحة مربعة مشغولة بالمقرنصات، مع أشغال الأرابسك التي تركز فوقها العقود .


العمود في الحداثة 
أضطلع المعمار دائما في مهمة الموازنة بين الفن والتقانة، أو بين الإنشاء (أو الهندسة) والعمارة وفضاءاتها. وكان المعماريون يتبعون قوانين إنشائية وطرق في فهم إسترسال العزوم من العناصر الأفقية خلال العناصر الشاقولية في عمائر العصور الخوالي،دون حسابات ومقادير دقيقة للعزوم ،مثلما هو حادث اليوم . حيث أن الحسابات المطبقة اليوم على هياكل (الخرسانة المسلحة) ليست إلا إستثمار لقوانين(الميكانيك) في علوم الهندسة التي طبقت على الهياكل الإنشائية منذ ثلاثينيات القرن العشرين. وكانت لعمائر الشرق القديم الريادة العمارية التي نهل منها اليونان والرومان تباعا ، ثم ورثتها العمائر الإسلامية من أعرافها المحلية وسمت بها،وتسنى لها أن تنقلها الى العمائر الأوربية كالقوطية والباروكية،التي تمخضت في الحداثة عن عمائر الهياكل المعدنية إبتداءا من العام 1852 على يد الأنكليزي (جوزيف باكستون) في (القصر البلوري) الذي فتق البحور بين الأعمدة الى أبعاد مهولة، وأستمر تصاعديا حتى يومنا هذا.

ويختلف مقطع الأعمدة بين الدائري أو المضلع أو المربع أو المستطيل أو البيضوي أو نصف الدائري أو أكثر من النصف وما إلى ذلك من الأشكال العقلانية .وبدأت الحداثة بتوظيف خامة الحديد في الهياكل الإنشائية، التي تقتضي مقاطع صغيرة نسبيا بالمقارنة مع الخامات القديمة، بما ولد الكثير من المشاكل لجيل من المعماريين الذين تعودوا على النسب القديمة الناتجة من إستعمال خامات الآجر والحجر،التي لم تعد تتناسب مع مقاسات أعمدة الحديد. ولانستبعد أن المسلمين أستعملوا قبل الأوربيين هياكل الأعمدة الحديدية ،حيث يورد القزويني في حديثه عن مدينة (تستر) (أن الماء يدور حولها وبها الشاذروان الذي بناه شاهبور ،امتداده يقرب من ميل مبنيا بالحجارة المحكمة وأعمدة الحديد وملاط الرصاص).

وبعد أن شاع استعمال الخرسانة المسلحة منذ أواسط القرن التاسع عشر ،و أعتمدت في حيثيات عمارة القرن العشرين ولاسيما بعد شيوع فكرة الفرنسي (ليكوربوزييه) المشتمله على طابق أرضي مرفوع على عمد(طابق حر) والتي توسع انتشارها اليوم وأصبحت من سنن العمائر السارية في كل أصقاع الأرض. وهكذا تجرد العمود من الزخرف والحلي وأختزل حالة إلى عنصر هيكلي خال، أو مغلف ببعض الخامات كالرخام والقاشاني أو الخشب أو مغشى بالمونة فقط .ثم حدث أن توسعت أغراضها ،و استعملت الأعمدة العملاقة الرافعة للحبال المعلقة لأجزاء البناء أو السقوف أو الجسور،وظهرت الأعمدة التي تحمل حبال الخيم التي تغطي مساحات شاسعة، ومازال الأفق مفتوحا لإبتكارات وخامات جديدة للأعمدة وفذلكات معمارية ،تنقل العمارة من طور إلى طور.

المصدر: بقلم د. علي ثويني معماري وباحث أكاديمي استكهولم – السويد
  • Currently 139/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
46 تصويتات / 9706 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

440,006