الإعلام الاستقصائي Media Investigativeنمط من العمل الإعلامي الذي
يتميز بالبحث والتنقيب عن مجريات تهم المجتمع ومصلحته العليا، بغض
النظر عن سياسة الممول أو المؤسسة أو أوجه التصادم مع متضرر جرّاء
نشره او ترويجه بالشكل الذي يستند على وثائق وأسانيد قابلة للنشر
والعرض ، وان الظاهرة أو الحدث او السلوك واقعة فعلية ( حصلت بشكل
واقعي ) وليس افتراضي ،ولا يهدف وجهة دعائية او سياسية او مالية ،
وان حالة الكشف تؤدي الى تصحيح مسار او سياسة فورية وإستراتيجية
تعود بالنفع على المجتمع.
ويرتبط مفهوم الاستقصاء(*)Investigative بالبحث والتحري ليس فقط
على المستوى الإعلامي بل يمتد الى الإشارة العلمية والتي يكون الاستقصاء
احد أركان البحث العلمي وجوهر عمله،لذا فالتحري والاستقصاء والكشف
تعد مصطلحات مرافقة للعملين الإعلامي والعلمي البحت ، ومن هنا كان
للإعلام الاستقصائي يحمل بين طياته تفرداً وتخصصاً ليس من السهولة
بمكان ان نطلقه جُزافا او في غير محله في أوقات عدة ، ذلك لكونه
يستلزم جملة من الشروط والمقومات التي يمكن ان يعمل في ظلها وان
ينهج على وفق اعتبارات يمكن لنا ان نطلق عليه على انه
استقصائيا ...وبالرغم من صعوبة إيجاد بيئة سياسية وفكرية واحترافية
للعمل الإعلامي الاستقصائي إلا انه يمكننا ان نجد جسورا او سمات يمكن
ان تدخل كعناصر او مساعدات لوجوده وان كان في تباين القوة والوضوح
والاتساع والتكرار ، ومن تلك العوامل نرى انه يتشكل ويتسم بالاتي :
1-يستلزم مناخ سياسي ديمقراطي وحرية دستورية مكفولة .
2-تحرر وتفهم المؤسسات من الخدمة الحزبية او الفكرية البحتة ( الدعاية ) ، فالإعلام الاستقصائي لا ينمو تحت مظلة تصفية الحسابات او المعارك الانتخابية وماشاكلها ..
3-ترويض الرأي العام او تدريبية على مثل هذا النوع من المعلومات .
4-يرتبط العمل الإعلامي الاستقصائي الى حد كبير ويزدهر طرديا مع حق الحصول على المعلومات .
5-يتطلب بعدا زمنيا غير منتظم ( بحسب القضية او الظاهرة قيد الكشف ).
6-يتطلب قاعدة بيانات وأجندة علمية للعمل به على مستوى المؤسسة أولا وعلى مستوى الإعلامي الاستقصائي .
7-يتطلب إجراءات قضائية او سياسية واجتماعية نشطة وواعية .
8-متابعة ايجابية من الحكومة ومركز القرار.
9-احترافية بالغة المستوى وخبرة طويلة في مجال التخلص من إشكالات القضاء .
10-الاعتماد على النبض السياسي والاجتماعي والشؤون العامة في بلورة القضية قيد الكتابة والتحرير .
11-يمكن أن تكون بإشراف قيادة من مجموعة صحفية ، أو ذات طابع فردي .
12- يتسع وينمو ويتأصل في ظل حرية الوصول للمعلومات وإتاحتها للإعلاميين وللرأي العام ، فآفاقها ونشرياتها التقليدية او الفضائية ( الالكترونية ).
فلسفة الإعلام الاستقصائي :
تقوم فلسفة وقوة الإعلام والتحرير الاستقصائي على تمجيد الحق العام ، وعلى محاسبة وفضح ( في أحيان كثيرة ) لمن يعبثون بالمال او القرار او السطوة في مجال ما .باعتبار إنها تكشف الحقائق التي كانت من المؤمل ان تكون مستورة او مخفية او مشوه .
وقد تسير تلك الفلسفة ربما للوهلة الأولى على وفق مفهوم السلطة الرابعة او ( كلب الحراسة الاجتماعي ) نحو أنشطة الحكومة وكجزء من حالة المسؤولية الاجتماعية التي يتولها الإعلام نحو مجتمعه.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي موطن الصحافة الاستقصائية ،وراعيتها في أحيان كثيرة ، فان غض النظر ايضا على إجراءات وفضائح معينة تجري أمام أنظار تلك المدرسة وبالأخص ما يتعلق بشؤون الأمن القومي ، وانتهاكات الحرب والسياسة الخارجية .
وقد كان للإعلام الاستقصائي وبالأخص العمل الصحفي أبعاد سياسية واجتماعية مهمة وجريئة في قولبة أنظمة في أوربا وأمريكا الجنوبية واسيا ...امتدت بها المحاكاة لتقرر العمل على ترصين الحقيقة الافتراضية التي تملئها أدبيات وأبجديات علم الإعلام والتأثير .
وكانت الديمقراطية إحدى مساند الإعلام الاستقصائي سواء أكان أمريكيا ام غيرة باعتبار ان الديمقراطية كفكرة تجنح الى ممارسة السلطة الرقابية من المجتمع ، مما تجعله احد أطراف اللعبة السياسية في المكون الديمقراطي ...فبما انك ديمقراطيا عليك ان تخضع لسلطة الناخبين ، وبما ان هؤلاء لهم كل الحق في الاطلاع وفهم الشأن العام وبالتالي إبداء الضغط فان العملية تسري بما يشتهي خارج السرب .
وكان التاريخ قد أمدنا بالكثير من الأمثلة على انزلاقات وسائل الإعلام وخنوعها للسلطة سواء أكانت دكتاتورية أم ديمقراطية ، فانه أيضا يمدنا بمن صدم وخلق رعباً وأطاح بأنظمة من قبيل الإعلام ذا الشكل او العنف المعرفي الإعلامي الاستقصائي .
وكانت جميع البلدان الانتقالية قد ارتكزت على إعلام تجريبي ( وليد الظرف الانتقالي ) ومن ثم كونت لنفسها جملة من الأعراف والتشريعات التي تنظم عملها لصالح الظرف الجديد والديمقراطيات الناشئة ،فكانت محاربة الفساد تتركز بشكل أساس على ثلاثة محاور منها المنظمات الدولية لرصد الشفافية ودرجات وضوح متعلقات التغيير الإنمائية وغير الإنمائية ، والثانية منظمات المجتمع المدني وقوى المعارضة السياسية ، والمسند الأهم والثالث ...وسائل الإعلام عن طريق النمط الاستقصائي ، وقد نجحت بالفعل دولاً متعددة في اعتمادها هذا على مكافحة بؤر الفساد بكل إشكاله، منها أوكرانيا ، الهند ، صربيا،جنوب أفريقيا ،تركيا مروراً بعض الدول التي شكلت لنفسها إعطاء مقود المكافحة بشكل شبه موجود ، كمصر ولبنان وتونس .
لكننا في العراق كانت ولازالت وسائل الإعلام تملكها الطبقة المتحكمة على مستويين ، الجانب المالي ( التمويل ) ام على مستوى التوجيه، وهذا بالطبع يتنافى مع شروط العمل بحالات الكشف والتحري حول الكثير من القضايا والملفات التي يمكن للحفي العراقي ان يخوضها تحت حماية الحريات الصحفية ونظم حرية الوصول للمعلومات .وبالتالي لا نجد على خارطة المعالجة الإعلامية للملفات الساخنة مصطلحا يقترب من مصطلحنا بشروطه المتكاملة للتحري وللكشف ولمراقبة الأداء الحكومي والمؤسسي .
فلا يزال الواقع الإعلامي يرزح تحت المطالب الأدنى في الحماية للعمل الإعلامي او ضمانة الحقوق المهنية وغيرها من التي لا تفتح آفاقا كبرى لذهنية وآلية العمل الإعلامي الاستقصائي فلم يدخل الإعلام العراقي الى الآن الباب الواسع لهذا النمط واعتقد انه مرتبط الى حد كبير بالماكينة السياسية والتشريعية وذهنية وتقبل السياسي أكثر منه بالقدرة والرغبة الاحترافية للصحفي العراقي .فلدينا طاقات جبارة ومتوالدة لكنها مكبوتة تحت نمط الإعلام السياسي الخبري أكثر منها مفتوحة الخطى لتتكبل بالصراع مع مناطق النفوذ . وكنا قد أعطينا ومنذ أعوام الوصفة السحرية للقضاء على الفساد ، ليس على طريقة النفس الأخير التي نعمل بها الآن ، بل على طريقة إجراء حملات(*) استقصائية عبر وسائل الإعلام الوطنية لفضح كل حالات الفساد وإبطالها ...فهي الوحيدة القادرة على التعجيل بالحد أو الانحسار لتلك الافة التي توكلنا على قضائها بتوسلات إعلانية خاطفة أكثر ما توسلنا على المسند العلمي .
أنموذج التناول الاستقصائي في التحرير ( مراحل العمل ):
المرحلة الأولى : الفهم العام للبيئة : عملية الرصد والفهم العام لكل متعلقات القرارات السياسية والاقتصادية والشؤون العامة. أي الثقافة الموسوعية لكل متعلقات التغيير،ليس فقط في الجانب ألمعلوماتي بل القدرة على ربط الأحداث واستنباط مجاوراتها من الظواهر .
المرحلة الثانية : تحديد القضية او الموضوع او الظاهرة وهذه ترتبط بها جملة التساؤلات:
• لماذا هذه القضية دون القضايا؟
• ماذا سأضيف في على استقصائي لهذا الموضوع ؟
• من المستفيد ؟
• من المتضرر؟
• هل هناك قاعدة معلومات او بيانات؟ وكيف سأصل الى الحقائق وبأي طريقة ؟
• هل التناول يثير إشكالية قضائية ؟
• من هم الخبراء المساعدون ؟
• هل أنا مستعد للإجابة والتبرير والإثبات بوثائق واسانيدكافية ومقنعة .
• هل تثير الرأي العام ايجابيا ؟
• كم ستكلف مؤسستي ( ماليا ومعنويا )
• كم من الوقت ستستغرق عملية التقصي والكشف وربط الأحداث والتحرير ؟
• كيف سأمتص الصدمة ...ما هي تبريراتي؟
• بأي شكل إعلامي سأتناول الموضوع ؟وكيف
• رصد التأثير او الاستجابة ....
مثال /
من خلال الملاحظة والاستطلاع في المجال التنموي وإعادة الأعمار ...كنا قد
حضرنا مؤتمرا يعالج ويعرض أولويات المشاريع التنموية في إحدى
المحافظات ، ومن خلال مجريات المؤتمر تبين ان الموضوع ...إعلامي
ترويجي لمصلحة معينة ...وليس بما كان من المفترض ( إشراك المؤتمرين
بتلك الأولويات ).
• هنا بدأت دائرة التساؤل ؟ لماذا جرى تحفظ على كلفة المشروع ...ولماذا تمت مناقشة التكلفة والتصاميم في وقت سابق ...ولماذا كان العرض بهذه الطريقة ...الخ .
• مرحلة الاهتمام ( جمع المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع ) قد تكون من مواقع الكترونية ، تصريحات سابقة ، أرقام منشورة ، مقابلة إذاعية ، منشور صادر عن جهة حكومية .أرقام وإحصاءات منشورة في مواقع منظمات غير حكومية ، أصدقاء ، مقربون حكوميون ....الخ
• رصد حالة التطابق والتباعد فيما جرى من أرقام أو أقوال او صور مع ما موجود من وثائق ، وهنا تبدأ مرحلة دراسة وتقصي أمور مختلفة منها :
• من حدد المشروع ؟ من عارضه ؟ لماذا ؟ متى ؟ أية جلسة ؟ الحاضرون ؟ ردود الأفعال ؟ الطريقة ؟ النهاية ؟
• كيف تم تقييم المشروع ماليا ؟ لجنة مالية ؟ من ؟ مستشارون ؟ من كيف ؟ أي وثائق مصدقة ؟ مقارنة بواسطة خبير ؟
• كم المدة الفعلية لاستكمال المشروع ؟ المعلنة ؟ مواصفات المواد ؟ التطابق مع المواصفات ؟ عدم التطابق ؟ السبب ؟ مارد فعل المشرفين ؟
• من سيستفيد من المشروع ؟ كم ؟ كيف ؟ بعد سنوات ؟ إستراتيجية المشروع ؟
• من ساعد على إرساء المشروع ؟ كيف
• هل هناك بديل ( ضمن الأولويات ) ما هو ؟ رأي من ؟ كيف نثبت ذلك
هذا التراكم في التساؤلات يبين لنا احترافية وصعوبة المعالجة الاستقصائية لموضوعات وقضايا الشؤون العامة ، وترتبط الصعوبة في ذلك بمديات تفهم المسؤولين في الحكومة او مراكز صنع القرار لأهمية وصواب مثل هذا الكشف ، والأحرى القوانين والتشريعات التي ترتبط بتلك الحالات .
مؤشرات في التحرير الإعلامي الاستقصائي:
- أخلاقيات جمع المعلومات وطرقها ؟ فقد تشوبها السرقة ، او التجسس، او الرشوة مما يفقدها مشروعية أخلاقية .
- مدى تقبل المجتمع على المستويين المحلي او الوطني بإثارة مثل تلك الموضوعات والتي ربما تخدش السمعة .والنزاهة ، والشرف ، والقيم .
- إذا كان لا يوجد قياس يحدد مقدار حدوث الظاهرة بمستواها الكلي _ اذا كان الشفافية منعدمة وحرية الوصول للمعلومات معطلة _ فيبدو الأمر وكأنه خارج عن المألوف ويسير على مستوى تخلخل البناء السياسي وليس أخذه على انه أداة تصويب وبناء اجتماعي لتصحيح المسار .
- يتطلب العمل بميدان الصحافة او الإعلام الاستقصائي التحايل ( الفن ) في استخدام المعلومات وترميز المعطيات بالشكل الذي لا يربك المتلقي ولا يطيل قدر الإمكان الكاتب قضائيا ، أي التحرير على مستوى الحقيقة والمعلومات المتوفرة .
- إيجاد المشروعية بجدوى النشر من المؤسسة او القناة الإعلامية بشكل أولي ، لوضع حلبة التصادم مع الآخر ( موضوع الاستقصاء) بعداً مؤسسيا لا فرديا .
- تستلزم الصحافة الاستقصائية وبكل قنواتها سلوكيات هادئة غير منفعلة تتعامل مع الظواهر بشكل عقلاني إحصائي رقمي موثق _ وليس من باب التصور او رد الفعل الاجتماعي .
- الإعلام الاستقصائي يستلزم ميثاق شرف او تكتل او تضامن للإعلاميين الذين يرومون الدخول الى معترك التصدي الشائك للقضايا الحساسة في الحكومة او مؤسساتها .حتى لا تأخذ القرارات مأخذاً فرديا تجاه هذا الإعلامي او ذاك .
- يمكن البدء بهذا النمط ، على شكل مراحل يأخذ طابعها الأولى فتح ملفات مقبولة سياسيا واجتماعيا ، ثم يكتمل بتحقيق ( ترويض المؤسسات الحكومية ) بتقبل كشف المستور او مابين الكواليس ، عندها يغدو عملاً يمثل الرأي العام بشكل حقيقي ، وتصبح وسائل الإعلام سلطة رابعة حقيقية .
- يمكن إنشاء تجمع او جمعية او تشكيل يحمل تسمية الصحفيين الاستقصائيين ، يتبنى التصدي لظواهر متعددة تعود للمجتمع والحكومة بالنفع العام ، على ان لا تعمل على إرباك العملية السياسية والوضع الأمني .
- يمكن للإعلام الاستقصائي ان يتحرك ويتفاعل بشكل متوازي مع جميع أشكاله المقروءة والمسموعة والمرئية والالكترونية الأخرى ، بالشكل الذي يحدث طفرة نوعية على مستوى محاسبة الحكومة ومتخذ القرار باتجاه التصحيح .
- المواد الخبرية والذاكرة الصحفية مواد خام ، لمرحلة الإحساس بموضوع الاستقصاء
- يتراجع الخبر عن فاعلية فن الاستقصاء ، لان فوريته تتعارض مع عملية التقصي المتزامن والمتأني في جمع المعلومات ، فهنا يصبح محط إثارة ، ومقارنة ، وذاكرة أكثر مما يغدو جوهر القضية .
- يأخذ التقرير والتغطية الخبرية الميدان الثاني من تسلسل الاهتمام نحو الموضوع الاستقصائي ،ثم الى الحديث ( المقابلة ) ثم يتطور الى التحقيق ثم القصة الخبرية الموسعة ذات النشر المتواتر .وربما يقود ذلك الى الحملة إذا تعاضدت المؤسسات الأخرى .