يوما بعد يوم تتضح معالم الدور المهم الذي تؤديه وسائل الإعلام في توجيه المجتمع وإرشاده وتثقيفه، وتزداد الحاجة إليها في الإسهام في عملية التنمية في جميع مجالاتها، إضافة إلى الدور المألوف الذي تؤديه في تلبية حاجة الإنسان إلى الاتصال، وهي حاجة إنسانية نشأت مع نشوء المجتمعات البشرية، لكي يتصل الفرد بغيره من الأفراد ويتبادل معهم المعلومات والأفكار ويعبر عما في نفسه ،، و لقد عرفت البشرية الإعلام منذ نشأتها ووجودها، ومارسته بالأساليب التي تهيأت لها وارتأتها مناسبة لها، ثم تطورت هذه العملية مع تطور البشرية واكتشاف الوسائل والأساليب المختلفة.
وحديثا اتسع مفهوم الإعلام ليشمل كل أسلوب من أساليب جمع ونقل المعلومات والأفكار من طرف مرسل إلى متلق «مستقبل»، ويتخلل هذه العملية تفاعل ومشاركة من الطرفين، بحيث أصبح الإعلام علماً وفناً في آن واحد، فهو علم له أسسه ومنطلقاته الفكرية، لأنه يستند إلى مناهج البحث العلمي في إطاره النظري والتطبيقي، وفن لأنه يهدف إلى التعبير عن الأفكار وتجسيدها في صور بلاغية وفنية متنوعة بحسب المواهب والقدرات الإبداعية لرجل الإعلام.
وبعد أن كثرت مجالات الحياة وتشعبت ميادينها وتطورت حقولها، صار التخصص في مجال ما أمرا لا غنى عنه سعيا نحو الإبداع في هذا المجال والإلمام بكل ما يرتبط به، وتطوير آفاقه، والتركيز على جميع تفاصيله وجزئياته.
وانطلاقا من ذلك نشأت الحاجة إلى وجود أنواع من الإعلام المتخصص في ميادين تطلبت ذلك الأمر، وبات أمرا حيويا لها، وضروريا لفهم مكوناتها وأقسامها وموضوعاتها فهما عميقا شاملا، كالإعلام الاقتصادي والرياضي والأمني والعسكري والبيئي.
ويعرف الإعلام المتخصص
بأنه «رسالة ما تتخذ أشكالاً ووسائل مختلفة مقروءة، مسموعة أو مرئية، بهدف التعبير عن موضوع ما، يتسم بالاعتماد على الأبحاث والدراسات ذات التخصص الدقيق، أو موجه لفئة أو جمهور محدد أو كليهما معاً، في إطار أهداف، ووظائف محددة تتمثل في الأخبار، التثقيف، التعليم، الترفيه».
ويعرف أيضا بأنه «نمط إعلامي معلوماتي يتم عبر وسائل الإعلام المختلفة ويعطي جلّ اهتمامه لمجال معين من مجالات المعرفة، ويتوجه إلى جمهور عام أو خاص، مستخدماً مختلف فنون الإعلام من كلمات وصور ورسوم وألوان و موسيقى ومؤثرات فنية أخرى، ويقوم معتمداً على المعلومات والحقائق والأفكار المتخصصة التي يتم عرضها بطريقة موضوعية».
ولا يعني وجود إعلام عام وإعلام متخصص أن الأساليب العامة لكل منهما تختلف عن الأخرى، وأن كلا منهما يتجه في أداء دوره ومهامه وأهدافه مستعينا بوسائل وسبل تختلف عن الآخر بل إن كلا منهما يستخدم الأساليب والسبل نفسها مع مراعاة خصوصية وطبيعة كل نوع.
ويفرق الباحثون بين الإعلام المتخصص والإعلام الخاص، فالإعلام المتخصص يجب أن يكون موضوعياً لأنه يهدف إلى نشر الوعي والمعرفة والثقافة المستندة إلى الحقائق والمعلومات في مجال معين.
أما الإعلام الخاص
فهو إن كان يقوم في جانب منه على الحقائق والمعلومات، إلا أنه يقدم بصورة ذاتية تعبر عن وجهة نظر معينة بهدف تكوين رأي عام حول موضوع معين، أو توجيه الجماهير للتصرف بطريقة معينة.
ظهور الإعلام المتخصص ونشأته :
يشكل الإعلام المتخصص ظاهرة ذات طابع تاريخي- اجتماعي ويعتبر ظهوره وتطوره عملية معقدة وممتدة حصلت في التاريخ والمجتمع ويمكن تحديد العناصر المكونة لظاهرة نشوء الإعلام المتخصص وتطوره على النحو الآتي:
1ـ يأتي الإعلام المتخصص تعبيراً عن التقسيم الاجتماعي للعمل وانعكاساً له ويرتبط التقسيم الاجتماعي للعمل موضوعياً بمستوى التطور الحضاري العام للمجتمع، وتطور قوى وعلاقات الإنتاج، وانعكاس ذلك كله في الحياة المادية والروحية للمجتمع.
2ـ اتساع مجالات المعرفة بصورة لم تعرفها البشرية من قبل.
3ـ اتساع الإطار الجغرافي الذي تشمله التغطية الإعلامية ويرتبط الإطار الجغرافي لهذه التغطية بمستوى التطور التكنولوجي وتطبيقاته في مجال الإعلام واتساع الإطار الجغرافي للتغطية الإعلامية يعكس تزايد الاهتمامات والحاجات، وظهور مصالح يعجز الإعلام العام عن الاستجابة لها وخدمتها.
4ـ فقدت الأحداث والظواهر والتطورات بساطتها الأولى وأصبحت بفعل عوامل ذاتية وموضوعية مختلفة أكثر تعقيداً وتنوعاً وتشابكاً ولم يعد بوسع الإعلام العام تقديم المعالجة المطلوبة ووفق المستوى المطلوب الأمر الذي دفع باتجاه ظهور إعلام متخصص، يستطيع أن يقدم معالجة نوعية تتميز بمستوى من الجدية والعمق والشمولية.
5ـ انتشار التعليم واتساع مجالاته بصورة غير مسبوقة.
6ـ ازدياد الحاجات الإعلامية للشرائح المتعلمة والمثقفة المتعددة والمختلفة، وتعثر خطوات الإعلام العام في تقديم مادة قادرة على إشباع هذه الحاجات بالصورة المطلوبة.
7ـ تطور وغنى المعطيات في مجالات ونشاطات معرفية ومجتمعية وعلمية، وتحولها إلى حياة كاملة غنية، أمر جعل الإعلام العام يرتبك في تقديم المعالجة الإعلامية المناسبة لها، ويدفع باتجاه ظهور الإعلام المتخصص.
أهمية الإعلام المتخصص
تظهر الأسباب التي ذكرت آنفا عن نشأة الإعلام المتخصص الكيفية التي انطلقت فيها بدايات هذا المجال، والأمور التي استدعت توسعه وتطوره المواكب للتطورات التي شهدتها البشرية في شتى الميادين ويوما بعد يوم أخذت تتضح أهمية الإعلام المتخصص والدور الذي يؤديه تواكبا مع الإعلام العام من جهة ومتميزا عنه من جهة أخرى.
ويمكن توضيح أهمية الإعلام المتخصص من خلال الأمور الآتية:
1ـ إذا كان هناك اتفاق عام على أهمية الإعلام في حياة الشعوب والدول على اختلاف درجات وعيها وتميزها، فإن أهمية الإعلام المتخصص تصبح قضية لا جدال حولها وتصبح عملية توظيف وسائل الإعلام في هذا المجال، لا تخرج عن طبيعة الدور العام والهام لهذه الوسائل.
2ـ إن الإعلام المتخصص بطبيعة الحال هو إعلام موضوعي دقيق لأنه يقدم المعلومة المتخصصة إلى الناس، وهي مسألة تزيد من درجة الوعي والمعرفة وبخاصة في المجتمعات النامية التي تحتاج شعوبها إلى تحسين واقعها نحو الأفضل.
3ـ إن الإعلام المتخصص إذا بُني على أُسس سليمة مدروسة وموظفة، فإنه بذلك يزيد من قوة المشاركة الجماهيرية في خدمة قضايا المجتمع، وذلك من منطلق أن الإعلام يؤدي دوراً مهماً في تقارب وجهات النظر وبناء رأي عام موحد ـ تقريباً ـ تجاه هذه القضايا بما يدعم الجهود الرسمية الرامية لمواجهتها.
4ـ تتضح أهمية الإعلام المتخصص من تعاون وسائل الإعلام مع المتخصصين في المجالات المختلفة بتطويع مختلف العلوم لخدمة المجتمع ، فالمجتمع البشري يزخر بالمشكلات التي تتطلب المواجهة والحل باستخدام العلم وتعاون أفراد المجتمع من المتخصصين على أداء دورهم لحل هذه المشكلات على أساس معرفتهم بها وسبيل الفرد العادي الذي يشكل السواد الأعظم من الجمهور إلى هذه المعرفة هو وسائل الإعلام المختلفة.
5ـ تتضح أهمية الإعلام المتخصص في الارتباط بين المجالات المعرفية المختلفة ووسائل الإعلام، ذلك أن غياب هذا الارتباط يفقد المجتمع عنصراً أساسياً من العناصر المطلوبة لوعيه وتقدمه.
6ـ يشكل الإعلام المتخصص مدخلاً مناسباً إلى ترقية العقول، وبقدر البساطة والصدق في أسلوب التناول والعرض لموضوعات الإعلام المتخصص، يكون الترحيب والقبول والتفاعل مع ما تطرحه وسائل الإعلام من موضوعات.
7ـ يعمل الإعلام المتخصص على تضييق الهوة بين الثقافة العامة والمعرفة العلمية التخصصية، التي ظلت مدة طويلة حكراً على المتخصصين في مجالها.
8ـ يشكل الإعلام المتخصص علامة من علامات انتقال المجتمعات من المرحلة التقليدية إلى مرحلة أكثر تطوراً، وانتقال الممارسة الإعلامية من الشكل التقليدي إلى شكل أكثر عصرية يتسم ويحترم التخصص في مختلف المجالات.
9ـ يوفر الإعلام المتخصص للمتخصصين فرصاً متعددة لنشر دراساتهم والتعبير عن أفكارهم، وتسليط الضوء على إبداعاتهم وابتكاراتهم.
وظائف الإعلام المتخصص وأهدافه :
يستنبط الإعلام المتخصص أهدافه ووظائفه ويستمد تفاصيلها من الأهداف والوظائف العامة للإعلام العام، ولا يخرج عنها إلا بقدر ما تتيح له الموضوعات المرتبطة بالمجالات التي يرتبط بها، وبقدر ما تستدعي تلك الميادين إضافة تفاصيل لا ترد في الوظائف و الأهداف التي ينشدها الإعلام العام.
ووظائف الإعلام المتخصص مشابهة تقريبا لوظائف الإعلام العام وأهمها الإخبار والتثقيف والتوجيه والإرشاد والتربية والترفيه، أما أهم الأهداف التي يسعى الإعلام المتخصص إلى تحقيقها فيمكن إجمالها في النقاط الآتية:
1- نقل رسالة محددة، مدعومة بالحقائق العلمية والتاريخية وعلاقتها بالأمور الحياتية للمستقبل عن طريق مباشر أو غير مباشر سواء كان إعلاما داخليا أو خارجياً في شكل خبر أو حدث أو فكرة أو ظاهرة لها علاقة باهتمامات المتلقي.
2- تناول القضايا المتخصصة على اختلافها وتقديمها بأسلوب سهل وبسيط وشامل، لرفع وعي الجماهير المستهدفة بأبعاد القضية وأسبابها وآثارها على كل المستويات.
3- التعريف بالمستجدات التي تطرأ على موضوع التخصص، محلياً وإقليمياً ودولياً ليواكب الجمهور المستهدف التطور الحادث ولا يتخلف عن الركب الحضاري.
4- استحداث قنوات اتصال حوارية بين كل من الجمهور المستهدف ومتخذي القرار لتعزيز المشاركة في اتخاذ القرار المناسب وإيجاد الحلول.
5- تهيئة الجمهور المستهدف لتقبل تغيير مزمع لسلوكيات سلبية وتنمية الوعي وتكوين الاتجاهات الإيجابية الداعية لأهمية تغيير السلوكيات.
6- استمرار الحوار بين جميع فئات الجماهير المستهدفة، وإيضاح الآراء والأفكار والمشكلات ومقترحات المواطنين.
7- التحفيز إلى التغيير للأفضل عن طريق خلق طموحات مشروعة وممكنة وإذكاء روح التغلب على العقبات.
8- فتح قناة اتصال بين العلماء والخبراء ومراكز البحوث العلمية وبين الجمهور المستهدف.
9- فتح نافذة على العالم وللعالم ليتعرف الجمهور على كل ما هو جديد وليرى العالم ما وصل إليه المجتمع.
10- تنمية النواحي المعرفية والوجدانية والمهارية والثقافية لدى شرائح محددة لتكون على علم بما يدور حولها من خلال ما تتضمنه الرسالة الإعلامية من حقائق محلية وخارجية.
11- تنمية الوعي الوقائي والعلاجي تجاه القضايا الحياتية.
المحددات الأساسية لدور الإعلام المتخصص :
تتصل هذه المحددات بالدور المتوقع للإعلام أن يقوم به في التأثير وهذا يتطلب بدوره معرفة وخبرة بإمكانات الوسائل الإعلامية والمؤسسات التي تدعمها والكوادر البشرية التي تضطلع بها وأهم هذه المحددات:
1- إن دور الإعلام في التأثير في الجماهير لم يعد موضع شك،إلا أن درجة التأثير ترتبط ارتباطاً كبيراً بالفروق الأساسية بين البشر، وإطاراتهم المرجعية، واهتماماتهم التي تحدد درجة تقبلهم لما يقرأون ويسمعون ويشاهدون.
2- إن دور الإعلام في التأثير في النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية يتوقف إلى حد كبير على وضعية وسائل الإعلام من نظام إلى آخر، وهي وضعية تحدد طبيعة ونوع واحتياجات كل مجتمع لوسائل إعلامه والدور المنتظر منها وهي مسألة تختلف من مجتمع إلى آخر.
3- إن التحديد الدقيق والواعي لإمكانات كل وسيلة من وسائل الإعلام في التوعية بالقضايا وطرح الموضوعات والإقناع بالرؤى الخاصة، ونشر الثقافة والمعرفة يتطلب مراعاة خصائص كل وسيلة ومدى ملاءمتها لمعالجة قضايا وموضوعات معينة من حيث نوع الرسالة، ومصدرها وخصائص الجمهور المستهدف.... وما إلى ذلك.
4- التخطيط العلمي للدور المنتظر إحداثه للإعلام في مجال معين يختلف من مجال إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى.
5- ضرورة وجود مؤسسات إعلامية متخصصة بقنواتها وبرامجها وكتبها وصحفها ومجلاتها، وهذا يتطلب إعادة النظر في البناء المؤسسي لوسائل الإعلام بما يتلاءم مع روح التخصص التي تعتبر إحدى السمات الأساسية لهذا العصر.
6- التأكد من وجود كوادر إعلامية متخصصة في المجالات المختلفة من حيث الحرفية والخبرة والدراسة والإلمام بالمجالات المعرفية المتخصصة.
7- إن تطوير الأداء المهني للإعلاميين العاملين في مجالات الإعلام المتخصص يتطلب على المدى القريب تدريبهم وتأهيلهم واحتكاكهم بالعلماء والخبراء في المجالات المتخصصة من خلال المؤتمرات وورش العمل وحلقات النقاش التي تجمع الإعلاميين بالعلماء في مختلف المجالات، وبذلك تتكون لديهم قاعدة معرفية متخصصة ،، أما على المدى البعيد فإن الأمر يتطلب الاهتمام ببرامج التدريس في الكليات والمعاهد الإعلامية المتخصصة وعلى مستوى الدراسات العليا، بفتح المجالات أمام الخريجين من مختلف التخصصات للجمع بين تخصصاتهم وفنون الإعلام وحِرفياته.
8- مصادر معلومات عصرية ومتطورة عن المجالات المتخصصة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، ذلك أن مهام الإعلام والشرح والتفسير والتسلية والإقناع وغيرها من وظائف الإعلام، تحتاج بالضرورة إلى عرض المعارف والمعلومات على الناس. فأهمية المعلومات في عصر المعلومات مسألة لا تخفى أهميتها على أحد ولهذا فإن إعلاماً متخصصاً فاعلاً يحتاج بالضرورة إلى مصادر معلومات عصرية ومتطورة تزود القائمين بالاتصال في مجالات الإعلام المتخصص بالمعلومات المتجددة في مختلف مجالات العلوم والمعارف.9- إن رسالة الإعلام المتخصص تحتاج بالضرورة إلى التعرف إلى الفروق الأساسية القائمة بين الوسائل التي تقوم من خلالها، والخصائص الذاتية الكامنة في كل وسيلــــة إعلاميـــة.