إدا اعترفنا بأن العالم الحديث لم يعد قادرا على الإنخراط في الأشكال الدرامية الموجودة فما هدا إلا لأن هده الأشكال الدرامية لم تعد تتلاءم مع عالمنا .."
على هدا النحو راى بريشت بأن وظيفة المسرح المتمثلة في المعالجة النقدية للمشاكل الحياتية بغية تغييرها ، هي السبيل لبلورة شكل درامي خاص يتلاءم والوضع الإجتماعي الناشىء ، ومن هنا تحركت آلة مسرحه الملحمي بترسانة مفاهيمية لاستيعاب الواقع الإجتماعي الدي أصبح من المتعدر في عصرنا الحديث – حسب رأي بريشت – أن ننظر إليه نظرة ميتافيزيقية .. فما الإنسان إلا نتاج لبنية فكرية / إديولوجية معينة وجب إدراك القوانين الإجتماعية المتحكمة فيها والإيمان بإمكانية تغييرها.
إن جوهر المسرح الملحمي كما نظر له صانعه يكمن في نبده لما يعرضه لنا "المسرح الدرامي الأرسطي" من قوانين لأخلاق أبدية تربط الإنسان بالآلهة وصراعه مع القدر الدي يتعدر تحاشيه ، هده الرؤيا للعالم تجعل الكائن البشري كائنا ثابتا غير تجاوزي ولا قابلية له للتغيير، زج به في عالم مغلوق مجهول دو بنية دائرية ، تتقادفه أيادي خفية وقوى غيبية لا مهرب له من الرزوح تحت عبىء سيطرتها.
لقد عمل بريخت جاهدا على معالجة الظاهرة الإجتماعية كمعطى مادي وجب على الدراما تشريحه وكشف متناقضاته " فالعلاقة الإجتماعية " – في نظره – وحدها تمنح المسرحية حركيتها .. لكن أن تظهر رجلا يخاف الكلاب ، أمر ليس فيه من الحركية الإجتماعية في شيء .. بل الحركية الإجتماعية تكمن في إظهارنا لرجل يرتدي الأسمال وهو على الدوام عرضة لهجوم كلاب الحراسة عليه . بريشت بهدا لا يستخدم الكتابة الدرامية واسطة بل يوجه مسرحا حيا لمشاهدين أحياء، فهو من زمرة المسرحيين الدين فكروا بالبنية الدرامية في تعالقها النصي والحكائي بالإخراج والتمثيل على حد سواء.
النص البريختي / الملحمي لا يتساوق كمنجز مسرحي على الركح ، إلا مع قراءة إخراجية بنفس ملحمي ؛ ولعب مسرحي تكون فيه نظرية المسرح الملحمي على مستوى الأداء التمثيلي نقطة ارتكاز الممثلين.
كانت الدراما ولزمن طويل تتبنى الأصول الدرامية الأرسطية كأساس لقيمها الجمالية والفكرية ، لكن مع بريشت نجد رفضا للمحاكاة الأرسطية دات " الطابع الدرامي " والتي تقوم على " الفعل" ، ليتبنى " الحكي" كطابع ملحمي يميز مسرحه "اللاأرسطي".
ومعلوم أن الإغريق عرفوا نوعا من المحاكاة جنحت للسرد والحكي ، والمتجسدة مثلا في الملاحم الإغريقية - كالإليادة والأوديسة لهومروس - والتي اشتق منها لفظ " ملحمي".
والملحمة كما عرفها أرسطو " تتميز عن المأساة بطولها وبتناولها عدة أجزاء للفعل في وقت واحد ودلك بفضل كونها حكاية"
لقد قدم بريشت الأدوات و العناصر المحورية في نظرية مسرحه الملحمي، كوسائط وبدائل لما تأسست عليه الدراما الأرسطية من أصول وقواعد. ندكر منها :
- حضور "البعد الإجتماعي"[ والدي سبقت الإشارة إليه]
- "مبدأ التغريب" : وهناك مجموعة من الآليات كوسائط لبلوغه وتتجسد في : التقطيع النصي – السرد – التعليق – الغناء – والطابع الجدلي " الديالكتيكي" ..إلخ
يقول بريشت " أن تغريب حادثة أو شخصية، يعني ببساطة تخليص تلك الحادثة أو الشخصية مما هو ظاهر بديهي ومعروف ، وإيقاظ الدهشة والفضول بدلا عن دلك."
فالتغريب إدن هو العملية التي تخول لنا النظر إلى الظواهر والمشاهد العادية والمألوفة وكأننا نراها لأول مرة ، معيدين بدلك اكتشافها ، "إن تعريف إنسان الإسكيمو – السيارة بأنها طائر بلا أجنحة ، يزحف على الأرض ، تعريف كهدا كفيل بتغريب السيارة".
- هدا بالإضافة إلى الهدف التعليمي " الديداكتيكي" .
إدا كان التعريف الشهير الدي وضعه أرسطو للمحاكاة ينص على أنها " فعل نبيل تام [...] تتم بواسطة أشخاص يفعلون لا بواسطة الحكاية، لتثير الشفقة و الخوف اللدان يؤديان إلى التطهير" ومعنى كلام أرسطو المسطر بكتابه " فن الشعر" ،
أن المشاهد يتماهى مع أحداث المأساة ويحس بأنه على شاكلة أبطالها – أوديب مثلا -فيتعاطف مشفقا من حالهم ، خائفا من ان يمسه دات مصابهم ..
فبريشت على النقيض من دلك ، لا يهب المشاهد المسرحي فرصة الإندماج ببساطة مع الشخصيات مستسلما لعواطف تشل حاسته النقدية وتحول دون استخلاص نتائج عملية ، فدلك من شأنه جعل الجمهور مستهلكا للمادة الدرامية في حين عليه أن يكون هو أيضا منتجا . فما يجري "مع" المتفرج أهم عند بريشت مما يجري "داخله"
إنه عامل أساسي والمصب الجوهري للعملية المسرحية ،على اعتباره مشارك يمنح الحرية لمخيلته وردود أفعاله لتبرز فاعليتها ، وأن يعوض عن إحساسه بعاطفتي "الشفقة والخوف" بما يسميه بريشت رغبتي "المعرفة والتغيير".
إدن لدينا نوعين من المتتفرجين يميز بينهما بريشت :
- متفرج المسرح الدرامي [ بالمعنى الأرسطي ] يقول لسان حاله : " نعم ، شعرت أنا أيضا بمثل هدا ، هكدا أنا ، إنه أمر طبيعي ، وسيكون دائما هكدا آلام هدا الإنسان تحزنني لأنه لا خلاص له منها ، هدا فن عظيم ، كل شيء يفهم تلقائيا ، أبكي مع من يبكي وأضحك مع من يضحك."
- أما متفرج المسرح الملحمي فيقول : " لا ، لم أتخيل قط شيئا كهدا ، لا يحق لنا ان نتصرف كدلك ، هدا غير مألوف ، لا أصدق عيني ، يجب أن يتوقف كل هدا ، آلام هدا الإنسان تحزنني لأنه يستطيع التخلص منها ، هدا فن عظيم لا شيء يفهم تلقائيا، أضحك ممن يبكي ، وأبكي على من يضحك."
يركز بريشت في تمييزه هدا على واسطة عقد مسرحه إن لم تكن أيقونة نظريته
".La distanciation كلها : "التباعدية /
أي تلك المساحة من اللاتماهي أودلك التيار النقدي المرافقة للنص الملحمي،وللأداء التمثيلي مرورا بالإخراج المسرحي ، لتُخلق في النهاية حالة فرجوية خاصة تضع المشاهد في صلب العملية المسرحية من حيث هي لعبة وتمسرح ، ولتضع المسرح في صلب وظيفته الإجتماعية ولتمكن الجمهور من الحفاظ على مسافة بين الخشبة والصالة حتى لا يتوحد بالأحداث ويصير جزءا منها وبالتالي يكون عاجزا على إصدار أي حكم .- ينبغي على الممثل أن لا يفكر بنقل المشاهدين إلى عالم من الغيبوبة، أو أن يسمح هو لنفسه بالإنغماس في عالم من الغيبوبة أيضا - و أن يحافظ دائما على مسافة بينه وبين الشخصية التي يمثلها ليعطي الجمهور الإحساس بأن ما يجري أمامه ليس إلا لعبة مسرحية ،موجها إياه إلى رد فعل انتقادي.
وهناك وسائل عدة يضعها بريشت في متناول الممثل لاستعمالها أثناء التمارين لمساعدته على تغريب الشخصية وإبعاد اندماجه معها :
1- النقل على لسان شخص ثالث [غير المشاركين في الحوار]
2- النقل بالزمن الماضي.
3- قراءة الدور / الحوار إلى جانب التعليقات والملاحظات.
وبخصوص تقنية لعب الممثل أيضا، يجدر بنا أن نورد ما اصطلح عليه بريشت
" والدي يقصد من ورائه " مجموع الحركات والتعابير Gestus "الغستوس /
اللا لفظية " وقد تكون مصاحبة بحوار أو بدونه، متخدة شكل استجابات من شخصية أو أكثر اتجاه بعضها أواتجاه الاحداث والمواقف ، فشخص يبيع السمك – يشرح بريشت- يُظهر لنا بشكل أو بآخر "الغستوس" المرتبط بعملية البيع [...] قد تستبدل الحركات والكلمات بحركات وكلمات أخرى، دون إحداث أي تغيير ب"الغستوس". الغستوس إدن دلك المرجع الإجتماعي لما يستعمله الفرد في حياته اليومية من حركات ورموز مستقاة من الوسط الإجتماعي أوالعالم المهني أوخصوصية ما يتطلبه الموقف مما يجري أو طبيعة العلاقات مع الأشخاص..إلخ
المسرح الملحي يرفض بالبت والمطلق "الأسلوب المغناطيسي " للتمثيل حيث تتسربل الأحداث بالحقيقة التي لا حق للجمهور في التساؤل حولها، فالأحداث متغيرة بطبيعتها وغير ثابتة لدا فهي محط فضول ودهشة وقلق حتى نعيد اكتشاف المعطيات التي أفرزتها والظروف الكامنة خلف تمظهراتها.
فبريشت كما يقول روبرت ل.هيلر: " يرغب في جعل المشاهدين ينظرون إلى العالم – وخاصة الظواهر الإجتماعية – بالعين "المغربة" التي نظر بها "نيوتن" إلى التفاحة الساقطة ."
فالأشياء التي تبدو لنا الأكثر بداهة قد تكون الأكثر غموضا، لو نحن فحصناها مجردين من نظرتنا المسبقة عنها - فالمعروف مجهول - كما يقول هيجل، و لإدراك شيء معروف يجب إزالة التصور الدي يزعم بأن هدا الشيء لا يحتاج إيضاحا.وهنا تبرز فاعلية "علة التغريب" ،فبتغريب المعتاد والجاهزوالعام نجعله يظهر كمعطى غريب ومتميز وخاص يتسم بطابع فريد يمنحنا القدرة على تعميق الوعي به والإدراك له.
وعلة التغريب إدا ما عدنا إليها قد تتحقق بإضفاء الطابع التاريخي على الأحداث الراهنة، بغية مناقشتها وكشف القناع عن التقاطعات بينها.
من العناصر الملحمية الأخرى – السابق دكرها- نورد عنصر "التقطيع" :
ففي الوقت الدي تعتمد فيه الدراما الأرسطية على محاكاة فعل تام له بداية ووسط ونهاية بحيث تتسلسل الأحداث بشكل عضوي، لينتج عن دلك الإرتباط السببي بين أجزاء الحكاية التي يولد بعضها بعضا، نجد العمل الملحمي كما أشار إلى دلك -دبلين- بإمكاننا تقطيعه إلى أجزاء ، ومع دلك يحافظ كل جزء في حدود معينة على قدرته الحياتية، وما يؤكد، هو ثورة بريشت على الشكل الكلاسيكي "المغلق" مستعيضا عنه بشكل "مفتوح" مبني على حرية الحركة والتجزييء، فجل مسرحياته عبارة عن لوحات لكل منها عنوانها الخاص ، [الأم شجاعة تحتوي على اثنتي عشر لوحة]
ومن العوامل التي يوظفها بريشت لقطع استمرارية الحدث نجد المقاطع الغنائية . مسرحية "رجل برجل" على سبيل الدكر تتضمن أغاني مفصولة عن حبكة الحكاية، حيث يتوجب على الممثلين التوقف عن التمثيل لأداء الأغاني التي تتخد شكل التعليق، مانحين للجمهور فرصة استيعاب ما فات من الأحداث وليستعدوا للأحداث القادمة [ممثلين ومشاهدين]
إلى جانب الغناء هناك السرد فمع بريشت أصبح المسرح يروي وهكدا لم يختفي "الراوي" باختفاء الجدار الرابع.
أما عن الديالكتيك :
فقد استطاع بريشت، ولتأثره بالفكر الماركسي والفلسفة الهيجلية ، أن ينقل وبشعرية مرهفة الديالكتيك إلى المسرح ودلك لما يخوله هدا الأسلوب من فهم لحركية المجتمع ولتحولات وتطورات أوضاعه الناجمة عما يحمله من تآلفات وتناقضات.
إلى جانب رفضه للقواعد الأرسطية رفض أيضا وظيفة المسرح البرجوازية والدي يسعى إلى حجب التناقضات الإجتماعية، من أجل إعادة إنتاج داتها البرجوازية، الشيء الدي يشيع الوهم بوجود الإنسجام، وبإظهار العلاقات الإنسانية والإجتماعية على أنها ثابتة وغير خاضعة لأي شروط تاريخية تحكم مجرياتها - يقول بريشت:"لأجل أن نبحث الطبيعة التغييرية للعالم علينا أن نفهم قوانين وقواعد تطوره، وفي هده الحالة فإننا نعتمد الديالكتيك" .
ومعلوم ان هيجل وضع ثلاث حالات للديالكتيك :
Synthese - التركيب/ Antithese /المناقض الطرح - These/الطرح
فتزاحم وصراع الأضداد هو المحرك الاساسي للتطور الإجتماعي وللصيرورة التاريخية ككل فعلى أنقاض أنظمة ورؤى مضمحلة تنشأ أنظمة ورؤى جديدة لتضمحل بدورها مؤشرة بولادة أنظمة أخرى.
مسرحيات بريشت يحطمها المنطق الجدلي المبني على متتاليات من المتناقضات باتجاه الكشف عن الحقيقة الإجتماعية وكدا السياسية وتعريتهما من كل ما هو زائف.
ولقد كان "لبسكاتور" تأثيره الكبير على بريشت ، إلا أن هدا الأخير ورغم بعض الرسائل السياسية التي تحملها أعماله المسرحية نجده مختلفا،فالهدف السياسي جزء من كل، بريشت لا يأخد الوقائع السياسية كغاية يجب إيصالها للجماهير فحسب وإنما كوسيلة أيضا للإشتغال الدرامي والصياغة الفنية "فالأحداث السياسبة بالنسبة له – كما يقول أحمد عثمان في كتاب "البريختية والشيوعية"- مصدر إلهام كما تكون الطبيعة بالنسبة للشعراء".
ومع أن بريشت أدرك الوظيفة الإجتماعية للمسرح كقيمة ، لم يهمل المتعة كقيمة إنسانية أيضا، فهو يربط جمال المسرحية بفائدتها ،وإدا كان علينا أن لا ننهار أمام سحر أي مسرحية في حين ندرك أن فائدتها قد انتهت مند زمن، فالمسرح في بعده "الديداكتيكي /التعليمي " عند بريشت ليس مسرحا في خدمة التعليم [كما هو عليه الأمر في بعض المدارس التي تستعمل المسرح وسيلة للتبسيط] كما أنه ليس تعليما في خدمة المسرح [حيث يكون الهدف تلقين التلاميد أو المشاركين أسرار الفن، لأجل التكوين المسرحي] بل مسرح يكون هو نفسه تعليما ، للمشاركين فيه مهمة التعليم والتعلم في الآن داته ، بحيث تختفي الفوارق بين الممثلين والجمهور "فأن تفعل أفضل من أن تحس".
وكما ورد في كتاب " مسرح التغيير" ليس هناك من قيمة للفن الدي لا يهدف سوى للتعليم ، ويعتقد أنه سيفعل دلك باستعمال العصا،متجاهلا كل الأساليب المختلفة الموضوعة تحت تصرف الفنون،وهدا لن يعلم الجمهور بل سيضجره ،إن للجمهور الحق في المتعة.
وتجدر الإشارة - وكما جاء في تصريحات بريشت - إلى أن الإتجاه التعليمي في مسرحه الملحمي ليس جديدا فقد سبق للمسرح "الديني" في القرون الوسطى أن أظهر اتجاهات تعليمية، كالمسرح المسرح الإسباني الكلاسيكس والمسرح اليسوعي.
يبقى أن نورد هنا بأن بريشت في إضافته الأخيرة بكتابه "الأرغنون الصغير" أقر بأن " المسرح الملحمي " كمصطلح فقير جدا وعام بالنسبة للمسرح الدي كان ينشده فهو في حاجة إلى تعريف أكثر دقة وإلى تطعيم أكثر.
وإدا كان رأس بريشت برج نار بحيث جعل فتيلة أسئلة عديدة تحرق كل ما هو جاهز من أشكال المسرح القديم – بل وكاد يحرق مصطلح مسرحه الناشىء أنداك – ألا يحق لنا أن نتساءل نحن :
- ما موقع المسرح الملحمي الآن ؟ والدي تحول بدوره إلى شكل مسرحي كلاسيكي
وكيف يمكننا تناوله و توعية جمهور تداهمه الشاشات الإلكترونية وميديا البشاعة والبلادة كل يوم ؟
هل يمكن أن يكون للمسرح فاعليته داخل أمة لا تميل إلى مناقشة مشاكلها ومختلف أمورها في المسرح؟