يعد برتولد برخت من اعظم الشعراء المسرحيين في القرن العشرين، فكانت شهرته تصل الى انحاء العالم كافة، حتى يمكن القول ان مسرحه من الثورات المهمة في تاريخ المسرح العالمي التي قلبت كيان المسرح من حيث الشكل والمضمون وقد تأثرت به اغلب المدارس المسرحية الحديثة.

عكست مسيرته الفكرية الاحداث المتلاطمة التي شهدها النصف الاول من القرن العشرين في اوروبا، ففي ظل الفساد السياسي وغياب الوعي الشعبي في المانيا ايام الحكم النازي بلور برخت فكرته عن المسرح الملحمي كمقابل للمسرح الدرامي المعتاد وسعى من خلال هذا اللون المسرحي الى ان يخلق جمهوراً يستطيع التفاعل مع الاحداث ليتحرر من دوره كمشاهد سلبي .ولد برخت في العام 1898 في اوجسبورغ جنوب المانيا، وانتقل الى برلين في العام 1924 ليعايش التطورات المعاصرة في مجال المسرح والادب، حيث شهد التاريخ الالماني عن قرب، فابنه فرانك جند في الجيش الالماني وقتل في الحرب العالمية الثانية على الجبهة الروسية، فهجر برخت المانيا في العام 1933 بعد وصول الحكم النازي الى السلطة واتخذ من الدنمارك منفى اختيارياً له وعاش فيها ست سنوات، ثم قام بنزوح طويل عبر عواصم المهجر الاسكندنافية حتى انتقل الى روسيا ومنها الى اقصى الشرق حيث ركب باخرة ووصل الى كاليفورنيا على الساحل الاميركي الغربي هناك قضى بضع سنوات عصيبة، شعر فيها بعزلة شديدة حيث لم تعره الحياة الثقافية الاميركية اي اهتمام يذكر وفي خاتمة المطاف اتهمته لجنة مراقبة النشاطات المناهضة لاميركا بالشيوعية وذلك ايام المكارثية الشهيرة.
طبعت السياسة معظم اعمال برخت المسرحية والادبية وكان لكتابات ماركس وهيغل التحليلية بالغ الاثر فيه، حيث استمد فلسفته من فلسفة كارل ماركس الذي يدعو فيها الى” فلسفة تغيير العالم لا تفلسفه“.
فحاول برخت خلال مسيرته الفنية مخاطبة اكبر عدد من الجمهور، لاقناعهم باهمية تحرير ادوات انتاجهم من سيطرة رأس المال اولى مسرحياته التي لاقت نجاحاً كبيراً كانت ”اوبرا القروش الثلاثة“، وتضمنت المسرحية نقداً لاذعاً لاوضاع النظام البرجوازي ايام جمهورية فايمر. وكان من الطريف ان تلقى المسرحية هذا النجاح والاعجاب من قبل من تعمد برخت انتقادهم مسرحية ”اوبرا القروش الثلاثة“ هي واحدة من امهات الاعمال في المسرح الحديث، ونادراً ان يوجد مسرح في العالم لم يقدم صياغة لها بشكل من الاشكال، فنجد برخت يستخدم ثلاثة مصطلحات اساسية هي: التأرخة” Historisierung “والتغريب”Verfremdung “ والملحمة”Episierung “.
 المسرح الملحمي:” Epic Theatre  “
ثار المسرح الملحمي عند برخت على كل القوانين المسرحية والقواعد التي ظل المسرحيون يسيرون بموجبها ردحاً طويلاً من الزمن فجاء برخت واطلق على مسرحه بـ”المسرح الملحمي“ وادخل بذلك هذا المصطلح الجديد مجال الادب والنقد.
برغم الطابع السياسي لاعمال برخت نجت هذه الاعمال من الفجاجة والمباشرة التي تعيب عادة المسرحيات السياسية حتى برخت نفسه كان ينحى بنفسه جانباً عن الايديولوجيات في اعماله الادبية ولم يعرف عنه القيام بتعليقات مباشرة صادمة، فقد كان يفضل تجنب المواجهات الانتحارية مع الانظمة التي كان يعيش في كنفها، كما يلمح المرء عنده محاولة مستمرة لمراجعة وتنقيح افكاره وعدم الارتكان على فكرة واحدة منتهية كما ان مسرحياته الملحمية تسعى الى تحفيز الجمهور على امعان التفكير حتى يكون وعياً خاصاً به تجاه ما يراه.
فرفضت نظرية المسرح الملحمي عند برخت مبادئ المسرح الدرامي او الارسطي فاصبحت المسرحية مشاهد غير مرتبطة مستغنياً بذلك عن الاثار التقليدية مستخدما الاغاني كعنصر متكامل، كما اهمل فكرة الدراما التي يجب ان تبحث عن خلق وهم للحقيقة اي ”التطهير“ لذلك نجد موضوعاته ضد الرأسمالية وبعضها الاخر ضد النازية وبعضها الاخر مرتبط بشكل مباشر بالفكر الشيوعي.
كما تمتد افكار المسرح الملحمي الى دور الممثل على خشبة المسرح، محاولة تغيير طابع وظيفة الممثل من مؤدٍ الى عنصر ايجابي في المسرحية، حيث كان برخت يدعو ممثليه الى جعل قدر من المسافة بينهم وبين النصوص واتخاذ مواقف نقدية منها اثناء ادائها وليس فقط تكرارها بشكل ميكانيكي.
عاد برخت الى برلين في العام 1949 وشارك في تاسيس المسرح البرليني او برلينير انسامبل”Berliner Ensamble “واصطدمت بعض اعماله مع العقلية البيروقراطية لموظفي الهيئات الثقافية، حتى ان بعض اعماله رفضت في اواخر حياته استطاع تأسيس مسرحه الخاص، وفضل استثمار معظم وقته في التركيز على كتابة اعمال جديدة واخراجها للمسرح، وفي تلك المدة نجح برخت في اجتذاب عدد كبير من المواهب الى مسرحه فاصبح المسرح مصنعاً للافكار الجديدة.
ومن اهم اعمال برخت:” الام شجاعة، دائرة الطباشير القوقازية، جاليلو، بنادق الام كرار، الانسان الطيب، السيد بونتيلا، طبول في الليل “.
توفي برخت في العام 1956 عن عمر ناهز الـ” 58 “ عاماً ودفن في برلين تاركاً ما بناه طوال هذه السنين من منفعة فنية عرفها كل من دخل عالم المسرح.

المصدر: جريدة الصباح
Arabmedia

ان تعثرت فلا تقعد... بل قم وانطلق نحو القمه

  • Currently 75/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
25 تصويتات / 472 مشاهدة
نشرت فى 12 فبراير 2010 بواسطة Arabmedia

صفاء السيد

Arabmedia
صفاء السيد باحثة ماجستير قسم الإعلام - كلية التربية النوعية - جامعة المنصورة , اهتم بكل ما هو جديد ومثير فى مجال الاعلام عموما والصحافه على وجه الخصوص تم انشاء الموقع 2010/2/11 »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

526,596

لا حياة مع اليأس

عندما تيأس، وتقرر الاستسلام والتوقف، فاعرف أنك على بعد خطوات من هدفك. استرح، فكر في شيء آخر، ثم عاود المحاولة من جديد
د. ابراهيم الفقى