التمثيل الايمائي (Pantomime) هو اظهار المشاعر على شكل حركات او انعكاسات للحس عوضا عن الكلمات . انه قريب الى النفس البشرية من كل محاولات التعبير الصوتي ، وهو فن يستطيع التعامل بدقة مع الطبيعة بكل عناصرها ومع البشر ايضا - كمتلقي - وبواسطته
(أي التمثيل الصامت ) يمكن التعبير عن امور غير مرئية لانه يتعامل مع الذات الانسانية بادق التفاصيل التي تصل الى اكثر من الهواجس احيانا او قد يصل الى مفاتيح السحر و الاستلاب الذهني ومن خلال هذا الفن الذي اطلق عليه في كثير من الاحيان تسمية ( فن التكوين الصامت تجد ان الممثل يستطيع ان يكون الاشياء من فراغ او فضاء المسرح ويضع لها ثقلا ووزنا يتعامل معه في ذهن المتلقي وليس في حركاته فحسب . . بل يتعدى ذلك في انشاء زمن للتعامل مع هذه التعبيرات وهذا الزمن الايقاعي المحسوس في نبض المتفرج وسرعة دورته الدموية . والتي تعمل كرقاص ساعة .. يكونها ذلك الفنان المسرحي لزمن الفعل الذي يقوم بأدائه دون الحاجة الى استخدام (الإكسسوارات ) او الاشياء كمادة ملموسة لان الممثل الصامت (The mime) مثل النحات تماما ، لكنه لايستعمل الازميل و المطارق و الشفرات وحتى الحجر ، بل يستخدم يديه او بقية جسده ليكون الاشياء و الافعال ويبني بها الحدث الدرامي الذي يريد اظهاره ، وبكلمة اخرى ان فن التمثيل الصامت قادر على ترجمة الاحاسيس البشرية بدقة وصدق وبتأثير مباشر في النفس والروح الانسانية في حين ما تزال اللغة المنطوقة غير كافية للتعبير بشكل نقي مبسط يترجم مكنونات البشر . فكلمة ( حب ) مجردة لا تصل الى ذهن المتلقي ما لم نعيشها او نطلع عليها .. ثم ما نوع هذا ( الحب ) وفي أي نفس ، او أي روح . . كل ذلك يستطيع الممثل الصامت احتوائه بتعبير بوجهه وروحه وبلا حروف تختلف من بلد الى اخر . . انه يستطيع اختصار كل تلك اللغات بلحظة تعبير لا تتجاوز بضع ثوان ، فلغة الكلمات ما تزال عاجزة عن ترجمة مكنونات البشر ، بل في كثير من الاحيان تصبح هذه اللغة بداية خلاف مقيت بسبب سوء الفهم في تحليل المعنى لتلك الكلمات المحددة بالحروف و المكبلة بالاصطلاحات بين السامع و المتحدث ، هذا برغم كل التطورات و التصاريف التي توصل اليها علم اللغة من قواعد وقوانين و التي اصبحت فيما بعد جزء من جملة تعقيدات واطارات وتقنيات جعلت من الكلمة حبيسة لها .


لو تسائلنا كيف يمكن ان يتامل الانسان القديم - وهذه اللغة ما زالت في بداية او قبل
تكوينها - والرد على هذا التساؤل يحيلنا الى ان الانسان ان ذاك قد اضطر الى استخدام اسلوب جديد من ابتداعه ، ذلك الاسلوب الذي كان يساعد على التنفيس عن مشاعره في اصدق ما يتمكن ان يعبر عنه من حالات واحداث - بواسطة الحركة و الفعل التجسيدي فكان عندما يسجل بطولة ما في صيد حيوان متوحش - على سبيل المثال - فلا بد ان يكون بحاجة لنقل تجربته الى افراد عائلته او قبيلته لكي يستفيدوا من هذه التجربة وليتعلموا منها اصول وفنون الصيد ، هذا اضافة الى هاجس (الأنا ) الذي كان وما زال متأصلا في النفس البشرية باشكاله المتعددة من فخر وبطولة وشهامة . . الخ ، فكان يمثل تجربته وبادق تفصيل - غير خال من التنميق و الجمال و المبالغة - لكي يعجب الاخرون بصفاته وبطولته وهم يتجمعون من حوله يتحمسون و يتفاعلون وينحازون لافعاله الجريئة و الذكية ويترقبونها على محيط دائرة من الارض و التي يوهم بها الممثل متفرجيه بانها مكان الحدث الذي جرى بمحاكاته لهذا الحدث امامهم ، وربما يستعين باحد او بعض اصحابه ليكونوا مساعدين له في تمثيل وحش او أي شيء اخر قد يحتاج اليه لتوضيح ، الفعل الذي يحاكيه .


ومن هذا نلاحظ ان المسرح نشأ - بدون قصد - على مساحة محددة من الارض وممثل يروي الاحداث (لفعل ماضي )بحركاته التجسيدية المفصلة و المبالغ بها احيانا وجمهور من المشاهدين .


منذ ذلك الحين غرست اول بذره للمسرح على الارض وكان بلا كلمات ، ببساطتة تعلق بالروح حتى غدى مكانا مقدسا لطقوس تلك الروح بأصدق تعبير يمثل اصدق وادق الهواجس خاليا من التعقيدات التي اكتسبها فيما بعد من قوانين الحضارة اللاحقة و التي ما انفكت تكبل كل شيء باطار محدد المعالم اجوف الحدود والتي استغلت لهاث الانسان لتحوره الى حرف ثم الى كلمة تناقلها البشر كل على هواه ليجعل منها ومن غيرها ادخل عليها وجهات نظره وتوقعاته وتقنياته لتكون مختلفة عن غيرها من اللغات الاخرى لتحفظ سر ما يمكنه عن غيره حتى غدت لا تستسيغ كلمة ( حب ) بلغتين او بين شخصين على الاقل تلك العلاقة .


ان ما اردت القول بهذا المقدمة لا انكارا للغة بل توضيح لمنشأ وجذور فن التمثيل
الصامت باعتاره فن ذو اصالة وصدق ، وانوه الى انه ليس بديلا عن (المسرح الحواري ) بل هو فن من فنون المسرح العديدة كما ان الرسم من (الفنون التشكيلية ) فالرسم ليس بديلا عن فنون النحت و السيراميك والكرافيك . . . الخ ، فان فن التمثيل الصامت أو المسرح الصامت ليس بديلا عن المسرح الحواري أو المسرح الغنائي أومسرح البالية . . .


كان التمثيل الصامت هو الطابع الذي اعتمد عليه فن المسرح في عروضه بعد ان وجد
الانسان اول طريق الى المسرح وتطورت اساليب العرض البسيط مع تطور تعقيدات الحياة حتى اصبح هنالك اماكن محددة تقام فيها الاحتفالات بالمناسبات الدينية و الموسمية وانتشر هذا الفن مع تنقل القبائل واحتكاك الحضارات ببعضها البعض - من مكان لاخر - وقد لاحظ الباحثون في علم الاثار ان الرسوم التي وجدت عل جدران الكهوف و البنايات في مصر و العراق وجنوب فرنسا وشمال اسبانيا ، كلها تشير الى وجود نسق مكرر في كل الحضارات القديمة لانها تعتمد على شكل واحد من العروض الدينية و القبلية تقريبا .


اذن هكذا ابتدأ المسرح - بالصمت - فحالما خلق الانسان احس برغبة في التعبير تلقائيا بواسطة مجموعة من الحركات و التعبير بايمائة الجسد . . أنه فن يعود ال اغوار تلك السنين العتيقة من حياة الانسان ولقد كانت بداية نضوجه كفن له اسسه ومبادئه واصوله عند اليونان القدماء (الإغريق ) حيث وجدت الميمودراما * جمهورها الغفير فجاء نشاطها واضحا واصبح لها كتاب معروفين امثال (تايوكريت )و الذي كان معروفا ان ذاك .


وعن تقنية وضبط قواعد هذا الفن ومبادئه في زمن الفيلسوف اليوناني ( ديوقراط ) في القرن الخامس قبل الميلاد حيث كتب في مذكراته : ( أنه ذات يوم وهو يشهد عرضا مسرحيا صامتا سخر من ذلك العرض لانه عزا كل المؤثرات الى الالات الموسيقية و الاصوات المعبرة عن الاشياء_ أي المؤثرات الصوتية - و الديكور في حضرة ممثل تخصص في هذا الفن . . فرد عليه الممثل الصامت قائلا :- أنظر الي وانا امثل بمفردي بمعزل عن جميع المؤثرات وبعد ذلك قل عن فني ما تشاء ، فصمت المزمار ومثل الممثل الايمائي ، فصاح الفيلسوف وقد تملكه الاعجاب :- (انا لا أراك فحسب بل أسمعك ايضا تحدثني بيديك ..) ، كان ذلك اعترافا قد انتزعه فنان التمثيل الصامت عن لسان الفيلسوف ( ديموقراط ) ببراعته وامكانيته في اتقان ودراية هذا الفنان لفنه واحتوائه للأصول التقنية التمثيلية بشكل واف جعلت منه ممثلا بارعا وقادرا على ان يسحر مشاهديه . وذلك بالطبع لم يات من شيء ، بل هي اسس مدروسة وقوانين قد جد واجتهد فناننا هذا حتى تمكن من ضبطها حد الدهشة التي بانت على الفيلسوف . . فكيف اذن مع المتلقي البسيط الذي لم يشأ أن يتدخل في حرفياته كممثل .





* الميمودراما . . اصطلاح اخذ من كلمتي (mime) و التي تعني الممثل الصامت و (Drama) و التي تعني الفعل المسرحي .

<!-- / message -->
المصدر: منتدى جريدة شروق الاعلامى
Arabmedia

ان تعثرت فلا تقعد... بل قم وانطلق نحو القمه

  • Currently 176/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
50 تصويتات / 430 مشاهدة
نشرت فى 12 فبراير 2010 بواسطة Arabmedia

صفاء السيد

Arabmedia
صفاء السيد باحثة ماجستير قسم الإعلام - كلية التربية النوعية - جامعة المنصورة , اهتم بكل ما هو جديد ومثير فى مجال الاعلام عموما والصحافه على وجه الخصوص تم انشاء الموقع 2010/2/11 »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

526,570

لا حياة مع اليأس

عندما تيأس، وتقرر الاستسلام والتوقف، فاعرف أنك على بعد خطوات من هدفك. استرح، فكر في شيء آخر، ثم عاود المحاولة من جديد
د. ابراهيم الفقى