تقديم:
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفُسِنا وسيئات أعمالنا، مَن يهْدِ الله فلا مضلَّ له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، وبعد.
قد يعتقد البعضُ أنَّ كلاًّ من التَّقوى والحضارة نشاطان مختلفان للإنسان ومتبايِنان، على اعتِبار أنَّ التَّقوى عبادة خالصة لله - تعالى - معْتمدُها النُّصوص الشرعيَّة، ولا يُرْجَى من ورائها إلاَّ النَّجاة من النَّار ودخول الجنَّة، بينما الحضارة انعكاس لجهود الإنسان ونشاطاته وأعْماله الدنيويَّة القائمة على التسابُق المادِّي، والتفوُّق التكنولوجي، ومعتمدها العلوم المادِّية والاستفادة من تجارب الآخرين واختراعاتهم، ولو كانوا كفَّارًا، وهذا الاعتقاد أو الظَّنّ مردُّه إلى الفهم القاصر والشائع عن مفهوم التقوى، والذي يعتبرها من أخلاق الزُّهَّاد الورِعين أو المتورِّعين عن المسؤوليَّات المشبوهة، ممَّا حرَّف مفهوم التقوى عن حقيقته وحمولته القرآنية الفعَّالة كما وقع لكثير من المفاهيم القرآنية بتأثير الفكر الدخيل على الإسلام.
غير أنَّ مَن تتبَّع آيات التقوى ودرس مفهومها في نصوص القرآن والحديث، واطَّلع على سيرة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو إمام المتَّقين، وعرف سير صحابتِه الكرام الَّذين شهد لهم القرآن بالتَّقوى، وشهِد لهم التَّاريخ بإرْساء أُسُس الحضارة الإسلاميَّة النموذجيَّة - سيُدْرِك مدى فعالية التَّقوى وإيجابيَّتها في بناء حضارة إيمانيَّة قائمة على تَحقيق التَّوازُن المادِّي والرُّوحي للإنسان، وهي الكفيلة بإنقاذ إنسان الحضارة المادِّيَّة المعاصرة من متاهات الضَّياع والصِّراع، ومن الأزمات النفسيَّة التي يعيشها.
ولا يخفى أن ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها من السقوط والنكوص الحضاري، سببه الأساس هو الانحراف عن منهج المتقين، منهج الرَّسول وصحابته الكرام، في العلم والعمل، وفي السِّياسة والاقتِصاد.
وما زالت الأمَّة الإسلاميَّة تعيش مرحلة الضَّعف والوهن الحضاري لأسبابٍ عديدة، أهمُّها ضعف التَّقوى وغياب دور المتقين في تسْيير شؤونِها؛ لأنَّ مَن يقوم بتسْيير دواليب الدُّول الإسلاميَّة في العصر الراهن، لا يهمُّهم من الشعوب إلا الخضوع والإسلام الظاهري، وحظ غالب المسؤولين أنفُسِهم من الإيمان لا يعْدو إيمان المرجئة قديمًا، أو إيمان العلمانيين وأشباههم حديثًا، وقد صدق المفكِّر الغيور الدكتور عبدالمجيد النجار في قوله: "وقد كان الخلل الذي أصاب الأمة الإسلامية في تحمُّلها لعقيدتها عاملاً حاسمًا في انحسارها الحضاري، سواء ما آل إليه الأمر من انحراف في التصور العقدي، أو من سطحية في التحمل الإيماني، تراخى بها الدَّافع الإرادي للعمل الحضاري، وهذا الخلل بِمظهريْه هو نفسه الذي يعوق الأمة اليوم عن الانطلاق من جديد للنهوض الحضاري"[1].
وعليه؛ فحاجة الأمَّة الإسلاميَّة حاليًّا إلى الأمناء الأتْقياء لا تقلُّ أهمِّيَّة عن حاجتها إلى العُلماء المخترعين والتقنيين.
وموضوع هذه الورقة هو بيان دور التَّقوى وقيمها في النُّهوض الحضاري للأمَّة، ويتمحْور على النقاط التَّالية:
1- مفهوم التَّقوى في القُرآن ودورها في العُمران الحضاري.
2- العمران الحضاري وخصائصه في القُرآن الكريم.
3- مفهوم الحضارة والتحضُّر في ميزان القرآن.
4- المتقون متحضرون وبناة الحضارة.
وفيما يلي تحليل لعناصر الموضوع حسب ما يسمح به مجال هذه الورقة:
1- مفهوم التَّقوى في القرآن ودورها في العمران الحضاري:
أ - مفهوم التقوى:
التقوى لغة: أصلها من وقاه يقيه وقاية، ومأخذ مصطلح "التقوى" من (اتقى يتقي اتقاء)، واتَّقى على وزن (افتعل) يفيد بصيغته الصَّرفية معنى الاتِّخاذ؛ أي: اتخاذ ما تتم به الوقاية.
التَّقوى اصطلاحًا: وفي الاصطِلاح تعدَّدت تعاريفها، وإن كان غالب التَّعاريف المعجميَّة ترتبط بأصلها اللغوي (الوقاية) الَّذي يحيل على معاني: الحفظ والصيانة، أو التحرُّز والابتعاد عن المحظور، وهو ما نقرأه في المعاجم الاصطلاحيَّة المشهورة؛ كمفردات الرَّاغب، وتعريفات الجرجاني، وغيرهما.
يقول الرَّاغب الإصفهاني مثلاً: "التقوى: جعل النفس في وقاية مما يخاف، والتَّقوى في تعارف الشَّرع: حِفْظ النَّفس ممَّا يؤثم، وذلك بترْك المحْظور"[2].
غير أنَّ هذه الدِّلالة المعجميَّة الَّتي يوحي بها لفْظ (الاتِّقاء) لا تستوعب دلالة المفهوم الشرعي للتقوى وأبعادها، كما وردت في القرآن الكريم والحديث الشَّريف؛ لأنَّ النَّظر إلى التقوى من الزاوية المعجمية يحصر مفهومها في معاني: الوقاية والحذر، أو الإمساك عن الفعل والتورع، وهو المفهوم المتوارث عن عهد الانحِطاط والجمود الفكري، حيث سادت العقيدة الإرجائيَّة، والفكر الصوفي، وغيرهما من أنماط التَّفكير التي حرَّفت المفاهيم القرآنيَّة عن دلالاتِها الإيجابيَّة، ومنها مفهوم التَّقوى الَّذي صرفوه إلى معاني: الذُّلِّ والانكِسار، وشدَّة الخوف من الله - أو حتَّى ممَّن يدَّعي تمثيل سلطانه في الأرض - فيترجَّح في دلالة لفْظِها جانب التَّرك والإمساك، على جانب الفِعْل والمبادرة، وهو عكس ما تُثْبِته الدِّراسة المصطلحيَّة الاستقرائيَّة لمشتقَّات لفظ التَّقوى ودلالاتها في نصوص القُرآن والحديث، خاصَّة ما يتعلَّق منها بأعمال المتَّقين وأوصافهم التي تفيد أنَّ التقوى "وإن كان جوهرها خشية الله - تعالى - إلاَّ أنَّ هذه الخشية في القلب تجليها العبادات والأعمال الصَّالحة، وليست سرًّا مكنونًا في القلب"؛ أي: إن مفهوم التقوى إيمان وعمل قائمان على العلم بالله - تعالى - ومعرفة شرْعِه والعمل به، وليس تجريدًا مثاليًّا، ولا هو مفهوم سلبي يرتبط بالزهد والكف عن العمل تورعًا عن اقتِحام أمور الحياة وتحمُّل المسؤوليَّات.
وتُفيد الدِّراسة المصطلحيَّة أيضًا أنَّ جانب الفعل أقوى من جانب التَّرك في مفْهوم التَّقوى بقرائن ومؤشّرات لا يسعها المقام[3].
ب- التقوى أم القيم الخلقيَّة والحضارية:
إنَّ التَّقوى شعبة كبرى من شعب الإيمان التي تتفرَّع عنها قيم أخلاقية إيمانيَّة لا حصر لها؛ لذلك فهي أساس التزكية النفسية، وأمّ القيم الخلقية الإيمانية، كما يؤكِّده دارسو الأخلاق القرآنيَّة، والباحثون في أصول التزْكية النفسيَّة في الإسلام[4].
يقول المرحوم مصطفى صادق الرَّافعي مثلاً: "فكان الأصْل الأوَّل فيه لهذه الأخلاق (أخلاق القرآن) هو التَّقوى، وهي فضيلة أراد بها القُرآن إحْكام ما بين الإنسان والخلق، وإحْكام ما بين الإنسان وخالقه، .... ولا يفسر التقوى بالتَّحديد إلا الخلقُ الثَّابت ولا شكَّ أنَّ هذا الخلق الثابت هو أصْل الاجتِماع الَّذي انشعبتْ منه كلُّ فضائل المساواة والحرِّيَّة، وإنَّه (التَّقوى) لذلك مقدم على الإيمان؛ إذ لا إيمان لمن لا تقْوى له"[5]، هذا على مستوى الأخلاق النظريَّة، وعلى مستوى الأخلاق العملية يقول الدكتور محمد عثمان نجاتي: "يتضمَّن مفهوم التقوى أن يتوخَّى الإنسان دائمًا في أعماله الحق والعدل والأمانة والصدق، وأن يُعامل الناس بالحسنى، ويتجنَّب العدوان والظلم، ويتضمَّن مفهوم التقوى كذلك، أن يؤدِّي الإنسان ما يوكل إليه من أعمال على أحسن وجه؛ لأنَّه دائم التوجُّه إلى الله - تعالى - في كلِّ ما يقوم به من أعمال ابتغاء مرضاته وثوابه؛ إذ التَّقوى بهذا المعْنى تصبح طاقةً موجَّهة للإنسان نحو السُّلوك الأحسن والأفضل، ونحو نموِّ الذَّات ورقيّها"[6].
ج- دور قيم التَّقوى في العمران الحضاري:
دوْرها في بناء شخصيَّة الفرد المسلم:
التقوى كما يقول د. عثمان نجاتي: "من العوامل الرئيسة في نضوج الشخصيَّة وتكامُلها واتِّزانها، وبلوغ الكمال الإنساني"[7].
وذلك أنَّها قوَّة روحيَّة في القلب مستمدَّة من الارتِباط بالله القويِّ المتين؛ إنَّها تحْصين ومناعة داخليَّة ضدَّ الانحِراف، وليْستْ هروبًا من الواقع وما يكتنِفه من مغريات ومنزلقات، وبها تصحَّح العقيدة وتخلص من النفاق ومن رواسِب الإرْجاء وما أشبه.
- للتَّقوى دورٌ في تربية العقْل المؤمِن وتَحرير فكره من اتباع الهوى ومن الاستعباد للمادة أو لذوي السُّلْطان والجاه، وأثرها كبير في ترْبِية الضَّمير الحيِّ أو القلْب السَّليم للفرْد المسلم، ممَّا يجعله حارسًا يقظًا، يحرس صاحبَه أن يغفل، ويحرسه ألاَّ يضعف أو يحيد عن الطَّريق المستقيم، وهذه اليقظة والشُّعور بالمسؤوليَّة أهمّ وقاية من ظواهر الغشِّ والاختِلاس والتَّهاوُن في أداء الواجب.
- إجْمالاً، يمكن تلخيص دور التَّقوى وفعاليتها في حياة الفرد المسلم، في كونها: "قيمة عظمى توحّد الشخصيَّة الإنسانيَّة بكل نشاطها واتّجاهاتها، وتجعلها ترْقى سلَّم المجد والعزَّة، وتسلك سبيل التقدُّم والازدِهار وتحيل الإنسان قوَّة منتجة بنَّاءة[8].
- دورها في بناء المجتمع القوي:
لفضيلة التقوى وللقيم المتفرعة عنها دور كبير في تمتين العلاقات الاجتماعية، وفي تماسك المجتمع وبناء الأمة القوية، بدءًا بدورها في استِمْرار العشرة الزوجية وتمتين العلاقة العائلية، وقيامهما على المحبَّة وعلى العدْل والإحسان والتَّسامح وغيرها، وانتِهاء ببناء العلاقات بين الأمم والشُّعوب على التعارُف والتَّعاون على البرِّ والتَّقوى، وقد حثَّ الإسلام على قيم الأخوَّة والتوادّ والتراحُم والتعاون، وعلى الإنفاق والإحسان للضعفاء وكلّها من أخلاق المتقين.
- دور قيم التَّقوى على المستوى الحضاري والكوني:
تكْمن أهمِّيَّة التَّقوى الحضاريَّة والكونيَّة في كوْنِها تحدِّد للأفراد والجماعات مقاييس السُّلوك الصَّائب والعلاقات السليمة في كافَّة ميادين الحياة، ممَّا يجعل الإنسان منسجمًا مع قوانين الوجود في فِكْرِه ومشاعره وسلوكه، ويَجعل المجتمع الَّذي تشيع فيه قِيَم التَّقوى مجتمعًا متوازنًا مع مسيرة التَّطوُّر في نشاطاتِه ومساراته، وهذا يستلزم من الإنسان (المتَّقي) أن يقوم بِجميع المسؤوليَّات على أحسن وجه، ويتَّقي الاصطِدام بالقوانين الإلهيَّة والسنن الكونيَّة الَّتي توجِّه العلاقات بين الإنسان وخالقه، وبيْنه وبين الكون، وبيْنه وبين أخيه الإنسان، فيتَّقي الانحراف عن علاقة العبوديَّة مع ربِّه تعالى، ويتَّقي الانحراف عن علاقة التَّسخير مع الكون، ويتَّقي الانْحِراف عن علاقة العدْل والإحسان مع أخيه الإنسان[9].
والتَّقوى بهذا المنظور الشمولي بمثابة الإطار العام لعمل الإنسان وفق المنهج الربَّاني، الكفيل بتحقيق مهمَّة الاستخلاف والتَّعمير في الأرض عبادة وعملاً.
وفيما يلي أهم القيم الحضاريَّة المتفرعة عن التقوى:
- العدل:
العدل قيمة من قيم التقوى التي تتجسَّد في واقع حياتي محسوس، وهو أقْرب إلى التقوى؛ لأنَّه قائم على مخالفة هوى النفس ونُزوعها لحب الذَّات وتفضيلها على الغير، والعدْل من أرْقى صفات الإنسان المدني المتحضِّر؛ إذ فيه تتجلَّى إنسانيَّته وترفعه عن الدوافع الشخصيَّة والعصبيَّات العرقيَّة أو الحزبيَّة، وعن المطامع الذاتيَّة، وحتَّى عن الخلافات العقديَّة والمذهبيَّة؛ لأنَّ العدل مطلوب ولو مع الخصوم والأعداء؛ كما جاء في قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[10].
- التعارف والتواصُل الإنساني:
التعارف والتواصُل الإنساني ضرورة اجتماعيَّة وحضاريَّة أقرَّها الإسلام؛ بل دعا إليْها ليتحقَّق التعاوُن على الخير بين بني البشر؛ كما يفهم من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[11].
فالناس خلَقَهم الله شعوبًا وقبائل لأجل التَّعارُف، لا للتفاخُر والتَّنافر، ولأجل التواصُل الإنساني الَّذي يقرب بين أجْناس البشر، ويكون مفتاحًا للتَّعاون وتبادُل الخبرات والمنافع بين الناس؛ لاستثمار ما أنعم به الله على الخليقة من خيرات الأرْض ومسخَّرات الكون، وبذلك تتحقَّق أمانة الاستِخْلاف في الأرْض، وعمارتها على الوجْه الَّذي يرضي الله ويسعد الإنسانيَّة جمعاء.
- الوفاء بالعهود والمواثيق مع جَميع النَّاس:
الوفاء بالعهود والمواثيق من لوازم الصدق والعدل، هو بدوره واجب تجاه الصديق والعدو، مع المؤمن والكافر، خلافًا لليهود الذين لا يوفون بعهودِهِم، ويروْن أنَّ الوفاء مع غير اليهودي لا يلزَمُهم، بل يقولون: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، ويردُّ عليهم القرآن بقوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ}[12].
وقد أمر الله المسلمين بالوفاء بالعهد مع المشركين ماداموا على عهدهم، ولم يناوِئُوا المسلمين أو يقاتلوهم؛ فقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ}[13].
وعمومًا فإنَّ دوْر التَّقوى في البناء الحضاري يتجلَّى في أمرين:
في كونها الطَّاقة المحرِّكة للإنسان، للقيام بالمسؤوليَّات الخاصَّة والعامَّة، ولإنْجاز العمل الصَّالح الذي تنتفع به الإنسانيَّة جمعاء، وفي كونِها حصانة ووقاية للحضارة من الشُّرور والمفاسد الَّتي تؤدِّي بها إلى الانهيار والسُّقوط، كما سيتَّضح ضِمْن خصائص العُمْران الحضاري في القُرآن الكريم.
2- مفهوم العمران وخصائصه في القرآن الكريم:
أ - مفهوم العمران في القرآن:
لفظ (العمران) لم يرد في القرآن، وإنَّما ورد فيه ما يفيد الإعمار والتَّعمير، أو الإسْكان بألفاظ وعبارات، مثل: (استعمركم فيها – وعَمَروها؛ أي: الأرض - عمارة المسجد الحرام - أسكنت من ذريتي...)، وكلها تفيد عمران (تعمير) الإنسان لمنطقة معيَّنة بقصد العيش وعبادة الله تعالى، والعُمران في اللِّسان العربي: نقيض الخراب، وهو اسم للبُنيان ولمن يعمر به المكان ويحسن حاله، بواسطة الفلاحة، وكثرة الأهالي، والأعمال والتمدُّن.
والعمران في الاصطِلاح اقترحه المفكِّر العلامة ابن خلدون في مقدّمته؛ للدّلالة على نمط الحياة بوجه عام، جاعِلاً إيَّاه أحد الخواصّ التي تميَّز بها الإنسان عن سائر الحيوانات، وهو: "التَّساكُن والتَّنازُل في مصر أو حلَّةٍ للأنس بالعشير، واقتِضاء الحاجات لما فيه من طباعِهِم من التعاون على المعاش"[14] وقدِ استلهمه ابن خلدون من قوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[15]، والعُمران عند ابن خلدون: إمَّا أن يكون حضريًّا أو بدويًّا.
أمَّا العُمران الحضاري عند أحد الباحثين المحدثين، فيقصد به: "التوظيف الإيجابي للمنجزات الحضاريَّة"[16].
والعمران البشري في القُرآن - كما استنْتجه المهندس والباحث الجزائري تومي إسماعيل - هو: "إسْكان في منطقة معيَّنة لهدف معيَّن يتطوَّر مع الزمان، إلى اجتِماع بشري يسوده الأمن ويتوفَّر على أسباب العيش"[17].
ومن خلال هذا التعريف يظهر أن العمران البشري في القرآن يقوم على أسس مادِّيَّة أهمُّها: الإنسان والمكان وما يتبعه من شروط العيش والإقامة، وعلى أسس معنوية هي: الفكرة أو المبدأ الذي يشكل الهدف الداعي، وما يرتبط به من ثقافة، وديانة، وخبرة حياتية، وغيرها، وإن كان هذا العمران بسيطًا وبداية للعمران الحضاري المتطوِّر.
ب - خصائص العمران القرآني:
- أسس العُمْران في القرآن:
كما سبقت الإشارة فإنَّ أسُس العمران البشري والحضاري في القُرآن الكريم هي: الإنسان، والمكان (الأرض)، والرِّسالة السماوية، بقطْع النَّظر عن وجود عمران مادي بمستوى حضاري معيَّن أم لا.
كما نقرأ ذلك في دعاء نبي الله إبراهيم - عليْه السَّلام - لمَّا قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[18].
حيثُ أسكن إبراهيمُ - عليْه السَّلام - أهلَه وابنَه إسماعيل بوادي أمِّ القُرى بجوار الكعبة، وذلك بوحي من الله تعالى، ثمَّ دعا ربَّه أن يهيِّئَ لذريَّته ما يعينهم على القيام بعبادة الله تعالى، من أمنٍ بجوار البيت الحرام، وتعارُف ومحبَّة بينهم وبين الوافدين عليْهم مستقبلاً، وأن يرزُقَهم من الثمرات ما يحقق حاجتهم من الطعام والعيش الكريم، وبذلك وضع إبراهيم - عليه السلام - الأسُس المادِّيَّة والروحيَّة للعمران البشري، وكأني به - عليْه الصَّلاة السَّلام - لمَّا أسكن ذريَّته بجوار البيت ودعا لهم بمقوِّمات الحياة الضروريَّة التي توجب شُكْر الله وعبادته، يضع تخطيطًا مستقبليًّا لعمران أمَّة مسلمة ذات رسالة حضاريَّة متميِّزة.
- العُمران الحضاري مقصد عام من مقاصد استخلاف الإنسان في الأرض:
لقد استخلف الله الإنسان في الأرض واستعْمره فيها؛ لغاية كبرى أو لغايتين، هما: تحقيق العبودية لله تعالى، بمفهومها الشَّامل وفْق ما أمر وشرع، وإقامة العدْل والإصْلاح في الأرْض، وهو مقتضى قوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61].
فمعنى (استعمركم) في الآية: جعلكم عمَّارها، أو طلب منكم أن تعمروها، وهو كقوله تعالى: {جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} [الأنعام: 165]، واستِعْمار الإنسان في الأرض من لدن الخالق يعْني: تفويضَه لعمارتِها بإصْلاح حالِها لتصير قابلةً للانتِفاع بها، ويُستفاد منه أنَّ الإنسان مستخْلَف في الأرض ومكلَّف بعمارتها وفْق شرْع الله، وعلى هدْي أنبيائِه - عليْهم الصَّلاة والسَّلام - واستِخْلاف الإنسان في الأرْض تشريف وتكليف له بتحمُّل الأمانة العُظْمى الَّتي لم تحتمِلْها السَّماوات والأرض؛ لذا كان الأحقُّ بالاستِخْلاف هم المؤمنين الصَّالِحين المصْلِحين، تبعًا لسنَّة الله في الأُمَم، فكلَّما أهلك الله أمَّة كافِرة طاغية، جعل أمَّة المؤمنين خلائفَ في الأرْض؛ مصداقًا لقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14].
وقد استفاد العلماء والباحثون من آيات الاستِخْلاف والتَّمكين: أنَّ عمران الأرْض مأْمور به شرعًا، وأنَّه من أصول الدِّين ومن مقاصِد الشَّريعة الكُبْرى؛ بل هو مقصدُها العام.
- العمران القرْآني قائمٌ على الإيمان والعمل الصالح (أي: على التقوى):
وإذا كانت غاية استخلاف الإنسان في الأرض هي عبادةَ الله - تعالى - وتعمير الأرض وإصلاحها، فالتعمير والعمران لا يكون إلاَّ وفق الشرع الحكيم والهداية الربَّانية، وهو مُحْتوى الإيمان والعمل الصَّالح اللَّذيْن جعلهما الله شرْطًا للتَّمكين والاستِخْلاف في الأرْض؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وممَّا يؤكد ارتِباط العمران بالإيمان في القُرآن: اقْتران دعْوة الرُّسُل أقوامَهم إلى توحيد الله وعبادته في آياتِه الكريمة، بالدَّعوة إلى الإصْلاح في الأرْض والنَّهي عن الفساد فيها؛ إذ ما من رسولٍ إلاَّ كان داعيةَ قومِه إلى عبادة الله - تعالى - وحْده وترك الأوثان، والإقْلاع عن الظُّلْم والفساد الشَّائع بين النَّاس، ولا يتَّسع المقام للإتيان بالأمثلة والشَّواهد.
- العمران الحضاري تحصِّنه التقوى ويسقِطُه الظلم والفساد:
العمران الحضاري إذا قام على الحقِّ وعلى التَّقْوى والصَّلاح يباركه الله، ويَحيا به أهلُه حياة طيِّبة، وإذا قام على الشِّرْك والظلم والاستِكْبار في الأرض، دمَّره الله، كعمران أقوام: هود وصالح وفرعون وأمثالهم، فعمران هؤلاء الكفَّار زائل وخراب؛ لأنَّه استِخْراب في الأرْض وليس استِعْمارًا لها، فحقَّ عليهم القول بالدَّمار بمقتضى سنَّة الله في الأمم الكافِرة؛ كما قال - تعالى - في شأْن عاد وثمود: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 6 - 13].
وما فتئ القرآنُ ينبِّه المكذِّبين برسالة نبيِّنا محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ويدْعوهم إلى النَّظر والاعتِبار بعاقبة سلفهم في الكفر وتكْذيب الرسل، الذين لم تنفعهم قوَّتُهم ولم ينفعهم عمرانهم ولا ما بنوه من قصور ومصانع، وما زرعوا وغرسوا من زروع وأشجار، إذ كل ذلك صار آثارًا وأطلالاً، تذكر النَّاظرين والمعتبرين بمصير تاركيها.
وهكذا نجد أنَّ العمران الذي لم يكن معه الإيمان والتَّقْوى مآله الدمار والخراب، ومآل أهله الهلاك والخسران، وتلك سنَّة الله في الأمم والحضارات.
- العُمْران القرآني عمران حضاري رسالي:
إذا كان العمران مرتبِطًا بعبادة الله تعالى، وكلاهُما غاية استِخْلاف الإنسان في الأرض، فإنَّ هذا العُمْران لا يكون بالضَّرورة إلاَّ عمرانًا بشريًّا إيمانيًّا - وليْس عمرانًا مادِّيًّا - وبالأحْرى فهو عمران حضاري ورسالي، بالمعنى الإسلامي للحضارة والرسالة؛ لذلك جاءت رسالة نبيِّنا - عليه السلام - الخاتمة في سياق دعْوة أبي الأنبياء إبراهيم - عليه السَّلام - الذي خطَّط لعمران الأمَّة المسلمة، فكان اهتمامه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أوَّلاً ببناء الإنسان قبل العمران، وإعداده إعدادًا قويًّا بالإيمان وبالقرآن، حتَّى إذا أنشأ هذا الإنسان عمرانًا مادِّيًّا أنشأه على التَّقوى والصلاح، فيكون عمرانًا حضاريًّا حقًّا، يكفل لأهلِه الحياة الطيِّبة في الدنيا والآخرة.
3- مفْهوم الحضارة والتحضر في ميزان القرآن:
أ- تعْريف الحضارة:
لفظ (الحضارة) لَم يرد في القرآن الكريم، وإنَّما وردت مشتقَّات (حضر) في عدَّة مواضع منه، بمعنى الحضور والشهود؛ أي: ضد الغياب، ولم يرد بالمعنى الاصطلاحي للحضارة.
وعليه؛ فلا نجد في القُرآن مصطلحًا يدلُّ على مفهوم محدَّد للحضارة بصورة ما، لكن مؤشِّرات المفهوم وعناصره تُستفاد من مفاهيم أخرى تشترك معه في الدلالة، كالأمَّة، والعمران، والاستِخْلاف، والشهود، وغيرها من المفاهيم التي تتأسَّس عليها رسالة الإسلام للبشريَّة منذ آدم إلى خاتم الأنبياء محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - هذا فضلاً عمَّا ورد في القرآن من المبادئ والقِيَم والتَّشْريعات، كلُّها تشكِّل أُسُسًا ومرتكزاتٍ لبناء حضارة إنسانيَّة وإيمانيَّة متميِّزة، كما سيأتي بيانُه لاحقًا.
أمَّا (الحضارة) بِمعناها الاصطِلاحي عند المختصِّين، فلها تعاريف عدَّة، تَختلف باختِلاف مذاهب الباحثين واتِّجاهاتهم، وتتعدَّد بتعدُّد الجوانب الحضاريَّة الَّتي يركِّز عليْها كلُّ باحث، غير أنَّ المهتمِّين بالموضوع - مسلمين وغير مسلمين - يكادون يتفقون على أن الحضارة لا تقوم إلاَّ على فكرة فلسفيَّة أو عقيدة دينيَّة، أو مذهب أخلاقي، تنبثِق عنها مبادئ وقيم وآداب تتجلَّى في أفْكار النَّاس وفي سلوكِهِم وإنتاجاتِهم العلميَّة والفنِّيَّة وغيرها.
يقول المفكِّر والدَّاعية المسلِم مالك بن نبي - رحِمه الله -: "ومن المعلوم أنَّه حينما يبتدِئُ السَّير إلى الحضارة لا يكون الزَّاد بطبيعة الحال من العُلماء والعلوم، ولا من الإنتاج الصناعي، تلك الأمارات التي تُشير إلى درجةٍ ما من الرقيِّ؛ بل إنَّ الزَّاد هو المبدأ الَّذي يكون أساسًا لهذه المنتجات جميعًا[19].
وهو ما يؤكِّدُه المفكِّر الألماني مؤرِّخ الحضارات (ألبرت أشفيتسر)، الَّذي يعرف الحضارة تعريفًا موجزًا بقوله: "الحضارة هي التقدُّم الروحي والمادِّي للأفْراد والجماهير على حدٍّ سواء"[20]، ويضيف قائلاً في مكانٍ آخَر: "ولما بحثت في ماهية الحضارة وطبيعتها تبيَّن لي في ختام المطاف أنَّ الحضارة في جوهرِها أخلاقيَّة"[21].
وعلى منواله درج باحثون ومفكِّرون مسلمون، كالمفكر التربوي د. مقداد يالجن، الَّذي يرى أنَّ أهم ما يميز الحضارة في نظر الإسلام هو: "تقدُّم المجتمع وتفوقه من الناحية المادِّيَّة والمعنويَّة في جميع مناحي الحياة الإنسانية، بروح خيرة، ونحو غاية خيرة في ضوء القيم الإسلاميَّة"[22]، وكذا د. هاشم بن علي بن أحمد الأهدل في قوله: "الحضارة تتمثَّل في تقدُّم المجتمع وتفوُّقه من النَّاحية المادِّيَّة والمعنويَّة والتنظيميَّة، في جميع مناحي الحياة الإنسانيَّة؛ لإعْمار الأرْض وفْق حاجات الأمَّة في ضوء المنهج الإلهي"[23].
وإذا كانت الحضارة أنماطًا ومستوياتٍ، ولها تعاريف عدَّة، فالسؤال الَّذي يفرِضُ نفسَه إذًا هو: ما حقيقة التحضُّر في السُّلوك الإنساني؟ وهل للتحضُّر معيار محدَّد؟
وحيث إنَّ "المقام يحرز" - كما يقال - فلا يَعنينا التحضُّر بمعناه العصري الذي يفيد مواكبة التمدن الصناعي الغربي، وما يرتبط به من القيم الاستهلاكيَّة والمظاهر المادية؛ بل الذي يعنينا هنا هو التحضُّر بالمقياس الإسلامي العميق والشامل لما هو: (فكري، أخلاقي، اجتماعي).
ب- معيار التحضر الإيماني:
وعليه؛ فالتحضُّر في ميزان الإيمان والتَّقوى هو: بلوغ أقصى درجة من السموّ الروحي والرقيّ الأخلاقي؛ أي: بلوغ درجة (الإحسان) في كل شيء، في العبادة وفي العمل الصَّالح والخلق الحسن، والمحسنون هم الذين يجسِّدون قيم التقوى في أداء الحقوق والواجبات؛ أي: في القيام بالإنجاز الحضاري النَّافع للإنسانيَّة جَمعاء.
4- المتَّقون متحضِّرون وبناة الحضارة:
مَن هم المتَّقون؟
المتَّقون عرَّفهم القُرآن الكريم بأعمالِهم وأخلاقِهم الفاضِلة في مواطن عدَّة من القُرآن الكريم[24] نُوجِزها في القول بأنَّهم: المؤمنون الصَّادقون في إيمانهم، الَّذين اهتدَوا بهدي القرآن، واتَّصفوا بكل أنواع البِرِّ والإحسان، فقاموا بأداء الفرائض والطَّاعات والقرُبات، واتَّصفوا بالأخلاق الحسنة، فصدق عليْهم الحكم بأنَّهم: هم الَّذين آمنوا وعمِلوا الصَّالحات، الموعودون بالتَّمكين والاستِخْلاف في الأرْض، وبرضوان الله - تعالى - في الجنَّة.
الأخلاق الحضارية للمتقين:
لا يشك مؤمن في أنَّ كلَّ أخلاق المتَّقين أخلاق حضاريَّة، إنَّما القصد هنا من التَّمييز هو الاقتِصار على ما له حمولة حضاريَّة بارزة من هذه الأخلاق، وأهمُّها ما يلي:
الصِّدْق في القول والعمل:
لا شكَّ أنَّ الصدق في القول والعمل دليلُ قوَّة الشخصيَّة، والثِّقة في الله وفي النَّفس، وأوَّل ما يتحقَّق لدى المتَّقين هو صدق الإيمان بالله وتقواه؛ اقتداءً بالصَّحابة الكرام الَّذين مدحهم الله بها في قولِه تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الفتح: 26].
وتنتج عن هذه التقوى محبَّة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وطاعته، فما أن يسمع المتَّقون منه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أمرًا من وحي أو سنَّة، حتَّى يسرعوا في الاستجابة والامتثال، فلا يتلكؤون ولا يتردَّدون في الاستجابة لأمر الله ورسوله، وذلك أساس كلِّ الفضائل والقيم التي تجعل دأب المتَّقين هو العمل الصالح، النَّافع للأمَّة دنيا وأخرى.
الاعتِدال والاتِّزان في الشخصيَّة:
إنَّ مما يميِّز شخصيَّة المتَّقي أنَّه ذو شخصيَّة سويَّة معتدلة، يتَّصف بالتَّوازُن والاعتدال بين التكبُّر والتذلُّل، وبين الاعتِزاز بالعبوديَّة لله وحده، والتحرُّر من عبوديَّة المخلوقات، وبين التَّواضُع مع عباد الله الصَّالحين، وعدم التذلُّل للطُّغاة أو ذوي الأموال، وذلك ناتج عن ثِقَتِه في الله والرِّضا بما قسم وقدر له من العطايا والأرْزاق.
السَّمت الحسن والنَّقاء في الظَّاهر والباطن:
المتَّقون يجمعون بين الأناقة المظهريَّة في اللباس النقي والسَّمت الحسن، والأناقة المعنوية في طهارة القلب وصفاء الطوية؛ {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، فكانوا بذلك أفضل الناس؛ مصداقًا لقول الرَّسول لما سئل - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: أي النَّاس أفضل؟ فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((كل مخْموم القلب صدوق اللسان))، قالوا: صدوق اللِّسان نعرفه، فما مَخموم القلب؟ قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((هو التَّقي النَّقي، لا إثْم فيه ولا بغْي، ولا غلَّ ولا حسد)).[25].
نعم، التَّقي النقي هو أفضل النَّاس وأسماهم خلقًا، وأرْفعهم تحضُّرًا؛ لأنَّ قلبه سليم من الحِقْد والحسد ومن التكبُّر واحتقار النَّاس، وغيرها من الأمراض التي تؤدي إلى الحروب والصِّراعات، والاعتِداء على حقوق الآخرين.
وهل هناك تحضُّر أسمى وأرقى من تحضُّر الأتقياء؟! وأيُّ تحضُّر هذا الَّذي يزعُمه صنَّاع المدنيَّة الحديثة المستكبرون في الأرض، المحتكِرون لخيراتها، أو العنصريون الحاقدون على مخالفيهم في العرق أو الملَّة؟!
- حب العمل وعدم التَّواكل:
وذلك عملاً بدعْوة القُرآن والسنَّة، واقتِداء بالصَّحابة الكِرام؛ لأنَّ من شأْن التَّقوى أن تدفع صاحبَها لأخذ الحيطة والحذَر من كلِّ ما يضرُّه أو يهدِّد سلامته الجسديَّة والعقليَّة والروحيَّة، ومن شأنِها أيضًا التَّواضُع ومخالطة النَّاس في شؤون الحياة، والصبر على أذاهم.
- التَّفكير الصَّائب والقوْل السَّديد:
لأنَّ المتَّقين هم أولو الألباب الَّذين يتفكَّرون في آيات الله الكونيَّة، ويعقلون آياتِه القرآنيَّة، فلا يتبعون الأهواء ولا يقولون عليْه بغير علم؛ بل يلتَمِسون الحجَّة والبرهان، ويَحرصون على القوْل السَّديد؛ عملاً بقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 70].
- القُدرة على حلِّ المشكلات وتجاوُز الواقع المهين:
وذلك لأنَّهم يتوكَّلون على الله حقَّ توكُّله، معتمدين على توفيقِه، فيبصِرون الأمور على حقيقتِها بدون تضخيم ولا تحقير، والله يمدُّهم بنورٍ يبصرون به، وفرقانٍ يُميِّزون به الحقَّ عن الباطل، كما ييسِّر أمورهم؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2]، ولقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4].
- الإحسان المستمِر والعفْو عن المسيئِين:
وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمَِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].
ج - الصَّحابة هم النَّماذج القدْوة لبناة الحضارة الإيمانيَّة:
الصَّحابة جيلٌ من المؤمنين المتَّقين الَّذين تربَّوا في مدرسة النبوَّة، فنهلوا من معين الوحْي، وأخذوا العِلْم والعمل عن الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فكانوا سادة الأتْقياء المتحضِّرين، وفيما يلي بعض أخلاقهم ومواقفهم الحضاريَّة:
- حبُّهم للعلم وإيثاره على متاع الدنيا:
وخاصَّة الفُقَراء منهم، أمثال أبي هُرَيْرة وابن مسعود وغيرِهِما، ممَّن لم يشغلْهم الصَّفَق في الأسْواق عن طلب العلم، ولم يكْتفوا كلهم بعلم القُرآن والسنَّة؛ بل منهم من تعلَّموا العبريَّة، وكذا لغات الأمم المجاورة؛ ليبلغوا رسالة الإسلام لغير العرب.
- الإيثار والتَّضحية في سبيل الله:
إنَّهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليْه، لا يهمُّهم الطَّمع، ولا تشغلهم الأموال والأولاد عن تلْبية نداء الجهاد ونصرة الإسلام - مهاجرين وأنصارًا - فلم يصِبْهم ما أصاب عموم المسلمين في العصْر الراهن من الوهن النَّاتج عن حب الدنيا وكراهية الموت؛ بل هُم نصروا الله بالجهاد فنصرَهم، واعتزُّوا بدينهم فأعزَّهم الله.
- العمل لصلاح الدين والدنيا:
إنَّهم تربَّوا في مدرسة النبوَّة على الجهاد وعلى العمل للدنيا والآخرة، فهم فرسان بالليل رهبان بالنهار، في حياتهم الخاصَّة يتَّصفون بالزهد في الرفاهة والمتاع المؤدِّي إلى الترف والكسل، وفي حياتهم العامَّة يحرصون على فعل الخيرات والأعمال الصَّالحة، فأخذوا بما كان في عصْرِهم من التقنيات والصِّناعات، فاهتمُّوا بالضروريَّات وبالأولويات في عهدِهم، كصناعة السيوف والأذرع الضروريَّة للجهاد، ولم يهتمُّوا بالمقتنيات الترفيهيَّة، وبالمشتهيات النفسيَّة.
- العدْل في القضاء وفي الشَّهادة على غير المسلمين:
وقد وردتْ في سيرهم وأخبارهم قصص ومواقف عديدة تشْهد بنزاهتهم وعدالتهم، وخاصَّة مع يهود المدينة، سواءٌ في حياة الرَّسول أو بعد مماته - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وأشهرُها حكم القاضي العادل (شريح) في قضيَّة الدرع التي ضاعت من علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيرها من الوقائع.
- الاستفادة من حضارة الأمم الأخرى:
اشتهر بذلك أيضًا الخليفة الرَّاشد عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - في تدْوين الدواوين، وترتيب الجيش، واتِّخاذ حدث للتَّأريخ وهو (حدث الهجرة النبويَّة)، وإنشاء بيت المال، وتَمصير الأمصار وغيرها، فبالسَّير على المنهجِ القُرآني والهدْي النبويّ يهتدي الإنسان للَّتي هي أقْوم في العبادة والعمل وفي البناء الحضاري والرقي الإنساني وغيرها.
- التَّسامح والمعاملة الحسنة لأهل الكتاب:
وخاصَّة المعاهدين والذميِّين منهم، وموقف عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنْه - من وضع الجِزْية عن فقراء الذميين وعجائزهم، وإعطائهم من بيت مال المسلمين - ما زالت مفْخرة للمسلمين ومواقفهم الحضاريَّة، بينما حاملو شعارات (حقوق الإنسان) في العصر الرَّاهن لم يتخلَّصوا بعد من النزعات العنصريَّة والطبقيَّة.
الخلاصة:
في هذه الخلاصة يمكن القول: إنَّ إصلاح حال أمَّتنا الإسلاميَّة وإخراجها من مرْحلة الوهن والنكوص الحضاري، والدَّفع بها إلى استِرْداد عزها ومكانتها الخيرة المتميِّزة - أمر يحتاج إلى جهود ومجاهدة في ميادين عدَّة، أهمُّها - في نظرنا المتواضع - الميدان التربوي التعليمي، وذلك باستقلاليَّة النظم التعليمية من التبعيَّة التي تملي عليْها تجديدًا في المناهج يسعى للتَّخفيف - أو ربَّما للتخلُّص - من قيم الالتزام والتميُّز، وضمنها (قيم التَّقوى والإخلاص والجهاد وما أشبه)، لصالح قيم التَّسامح والاعتدال والانفتاح، التي لم يُقْصَد بها إلاَّ التَّصالُح مع قيم الكفر والمزيد من الانحلال والتبعيَّة، أو الدخول رسميًّا في العولمة والتَّطبيع مع الصهيونيَّة العالميَّة.
والأمَّة لكي تكون مسلمة حقًّا ينبغي لها أن تربِّي ناشئَتَها على قيم التَّقوى بمفهومها الواسع والعميق؛ لتنْقية عقائِدِهم من رواسبِ الفِكْر الإرجائي والخرافي من جهة، وتحرير أخْلاقهم من التَّواكُل وآثار الفكر العلماني/ الإباحي من جهة أخرى.
إنَّ التَّربية على نهج المتَّقين (الرَّسول والصَّحابة) هي الكفيلة بتكْوين جيل قادرٍ على تَجاوز الذَّات وتحمُّل المسؤوليَّات، جيل متحرِّر من عبادة الطَّواغيت والأهْواء، ومن اللهاث وراء المتع والمقتنيات الترفيهيَّة، جيل لا يخاف إلاَّ الله، ولا يخشى فوات الرِّزْق أو المنصب، فلا يحتال ولا يكذب، ولا يخادع، ولا يُساوِم على دينه أو كرامته، جيل يمثِّل أو يحتوي الطَّائفة المنصورة القائمة على الحقِّ لا يضرها من خالفها، كما بشَّرنا ووعدنا الصَّادق المصْدوق، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى من اتبعه واهتدى بهدْيِه إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــ
[1] - في مقال: دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية مجلة (إسلامية المعرفة) العدد الأول، المحرم 1416 ص: 57.
[2] - مفردات ألفاظ القرآن، الرَّاغب الإصفهاني، تحقيق صفوان عدنان داودي، ط دار القلم، دمشق، والدَّار الشَّاميَّة، بيروت 1992 ص: 881.
[3] - ممَّا توصَّل إليه كاتب المقال في بحثه لرسالة الدكتوراه بعنوان: (مفهوم التقوى في القرآن والحديث) دراسة مصطلحيَّة وتفسير موضوعي، تحت إشراف الدكتور الفاضل الشَّاهد البوشيخي - بخصوص النقطة أعلاه ما يلي:
- أوصاف المتَّقين في القرآن والحديث هي أعمال، وعبادات، وأخلاق حسنة شاملة لكل خصال البر.
- ارتفاع نسبة المشتقَّات الفعليَّة لمصطلح التقوى عن المشتقات الاسميَّة منها - (70% من مجموع المشتقات في القرآن، و63% من مجموعها في الحديث) - يدل على أنَّ مصطلح التَّقوى مصطلح عملي وحركي وليس مصطلحًا سكونيًّا.
- تفيد الدراسة الاستقرائيَّة أيضًا أنَّ صيغ (فعل الأمر) من التقوى: (اتَّقُوا، اتق، اتَّقون) تأتي في القرآن مقترنة بالأفعال – أي: بالأوامر - أكثر من اقترانها بالنواهي، ممَّا يؤكِّد رجحان جانب الفعل على جانب الترك في دلالة التقوى، هذا فضلاً عن كون شرائع التقوى هي نفسها شرائع الإسلام والإيمان؛ إذ هي شعبة من شعب الإيمان الكبرى.
[4] - أمثال المرحوم: د. محمد عبدالله دراز، في كتابه القيم: "دستور الأخلاق في القرآن" والمرحوم العلامة الأديب مصطفى صادق الرافعي في كتابه: "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية"، الدكتور محمد عثمان نجاتي في كتابه: "القرآن وعلم النفس" .. وغيرهم.
[5] - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ط دار الكتاب العربي، الطبعة التَّاسعة، ص 100 - 102 بتصرُّف.
[6] - القرآن وعلم النفس، ط 5 دار الشروق 1993، ص: 262.
[7] - المرجع السابق، ص: 263.
[8] - محمد إبراهيم الشافعي في مقال: (الإحسان في بيان القرآن سبيل إصلاح الأمة) نشر في مجلة (الأمة) القطرية، ع: 29 فبراير 1983 ص: 30.
[9] - ماجد عرسان الكيلاني في كتابه (فلسفة التربية الإسلامية) ط مؤسَّسة الريان بيروت، 16 - 1998 ص: 349. بتصرف.
[10] - سورة المائدة آية: 8.
[11] - سورة الحجرات آية: 13.
[12] - سورة آل عمران آية: 76.
[13] - سورة التوبة آية: 4.
[14] - مقدمة ابن خلدون، ط دار الفكر، بدون تاريخ ولا تحقيق، ص: 32.
[15] - سورة هود آية: 61.
[16] - اقترحه الدكتور أحمد صدقي الدجاني في بحوثه.
[17] - في بحثه العمران في ظلال القرآن.
[18] - سورة إبراهيم آية: 37.
[19] - شروط النهضة ص 55 عن د. هاشم بن علي بن أحمد الأهدل في كتابه: "أصول التربية الحضارية في الإسلام" طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة ضمن (سلسلة الرسائل الجامعية) المملكة العربية السعودية 1428 هـ / 2007 م ص: 224.
[20] - فلسفة الحضارة، ترجمة د. زكي نجيب محمود، ص 34 عن د. مقداد يالجن في كتيب: "دور التربية الأخلاقيَّة الإسلاميَّة في بناء الفرْد والمجتمع والحضارة الإنسانية"، ط دار الشروق أولى 1983 ص: 83.
[21] - نفس المرجع والصفحة.
[22] - في نفسه.
[23] - في بحثه القيم: "أصول التربية الحضارية" سبق ذكره.
[24] - من هذه المواطن: سورة البقرة، آيات: 2 - 6 و 177 و180 و 194، آل عمران: 76 و133 - 136 و .... إلخ.
[25] - أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - صحَّحه الألباني رقم 4216.
مخموم القلب: لفظ (مخموم) من خمَّ المكان أو البيت إذا كنسه من الأوساخ، ومعناه في الحديث يشرَحُه ما بعده، قلبه سليم وخالٍ من الضَّغائن والأحْقاد، ومن التكبُّر والطماع وكل ما يؤدِّي إلى الصِّراع أو احتِقار النَّاس أو الاعتِداء عليهم، وهل هناك معنى للتحضُّر أسمى من هذا؟! وأيُّ تحضُّر هذا الَّذي يتَّصف به متمدنو الحضارة الماديَّة المعاصرة المتَّصفون ب�
ساحة النقاش