ماذا تعني الــ 600 مليار جنيه فساداً....
بالتأكيد صدمك الرقم الذي كشف عنه الجهاز المركزي للمحاسبات لحجم الفساد في مصر ... لكن ماذا لوعلمت أن هذا الرقم لا يعبر فقط عن ذاته ؟ فهو ليس 600 مليار وحسب ... لذلك لا تتعجب إذا عرفت أن أكاديمي إقتصادي أو دارساً للإقتصاد أو حتى شخصاً متفهم للدائرة الإقتصادية والعلاقات المترابطة بين متغيراتها المختلفة أُغشي عليه عند سماعه هذا الرقم "600 مليار فساداً " وتعالى نلقي نظرة خاطفة "وغير معقدة يمكن لغير المتخصص أن يفهمها " لتعرف ما الذي يمكن أن يكون دار في رأس أهل الإقتصاد حين سمعوا هذا الرقم
لا شك ان حسرة كبيرة أنتابت كل دارس للإقتصاد او متفهم لدائرة متغيراته والعلاقات المتبادلة بينها عندما سمع عن 600 مليار جنيه فساداً والامر بالنسبة له لا يتوقف عند حدود المبلغ ذاته ...كيف؟ ولماذا؟..
سأتحدث معك فقط عن مفهومين وبشكل مبسط بعيداً عن تعقيدات التخصص كما أنني لن أتطرق معك إلى الربط بين الوضع الإقتصادي وكل من الوضع السياسي والإجتماعي والتأثير المتبادل بينهم
المفهوم الأول : المضاعف... أو ما يمكن أن نسميه تبسيطاً "بإعادة تدوير الأموال" والأمر هنا يشبه ان شخصين كل منهما أمتلك في وقت واحد 10000 جنيه أحدهما " X " قام بتوجيهها للإنفاق على إحتياجاته اليومية بينما الآخر " Y " قام بإستثمارها في مشروع صغير أصبح يدر عليه ربحاً قام بأستخدام جزء من هذا الربح في توسيع المشروع رويداً رويداً حتى أصبح يدر عليه ربحاً ضخماً قام أيضاً بضخ هذا الربح في إنشاء مشاريع أخرى ثم أستخدم أرباحها في توسيعها وهكذا ... أظنك الآن فهمت أخي الكريم ماذا كان يعني إعادة تدوير 600 مليار جنيه وكم كان سيدر من الأرباح ويفتح من المشاريع ومن ثم تخفيض للبطالة وتأثيراً على الأسعار" بزيادة حجم العرض من السلع" وقيمة مضافة في الهيكل الإقتصادي .... الخ من دائرة التأثيرات في المتغيرات الإقتصادية الجزئية " على مستوى الفرد" و الكلية" على مستوى الدولة" .. لذلك قلت لك في صدر حديثي أن هذا الرقم لا يعبر فقط عن ذاته
المفهوم الثاني : النقطة الزمنية .... هناك بعض المصطلحات والمفاهيم الإقتصادية التي تنكد على الإقتصاديين دائماً حتى أنهم في كثير من الأحيان لا يشعروا بحلاوة النجاح وكثير ما ينظروا إلى بعض النجاحات على أنها نجاح بطعم الفشل وربح بطعم الخسارة ، وأبرز هذة المفاهيم " تكلفة الفرصة البديلة ، والنقطة الزمنية" .... وتكلفة الفرصة البديلة يمكن توضيحها ببساطة بإستخدام التحليل البسيط السابق لمفهوم المضاعف فهي تعبر عن حالة المقارنة بين ذلك الشخص الذي وجه ماله للأستهلاك فقط وبين ذلك الشخص الذي وجه ماله للأستثمار ، فما وصل له حال ذلك الشخص الإستثماري " Y " وما حققه من أرباح وأموال يعبر عن تكلفة الفرصة البديلة لذلك القرار الذي أتخذه الشخص الإستهلاكي " X "، ومصدر النكد في هذا المصطلح أنه لا يستخدم فقط للمقارنة بين نتائج النجاح والفشل بل يستخدم أيضاً للمقارنة بين مستوى وتأثير النجاحات المختلفة ،فأحياناً تحقق نجاحاً لكن يقول لك الإقتصاديون أنه نجاح بطعم الفشل لأنك كان يمكنك أن تحقق نجاحاً أكبر منه ....
أما النقطة الزمنية وهي بيت قصيدنا فهي بوضوح تعبر عن حسرة دائمة ولا يمكن إستعادتها وأن " شيئاً ما جيد تم فقده للأبد "، وهو مفهوم مؤسس على أن الوقت له قيمة " بالطبع لا أقصد القيمة المجازية التي نعرفها لكن أقصد قيمة إقتصادية مادية " وهذة القيمة الإقتصادية للوقت لا تقف عند تقدير ساعات العمل مثلاً بالنسبة للعامل"كوحدة لتقدير الدخل" أو بالنسبة لصاحب العمل "كعنصر من عناصر التكلفة " ، لكن لها وجه آخر يمكن تبسيطه بالنظر إلى سنوات عمر الإنسان فإن العام الذي ينقضي من عمر الإنسان لا يمكن ان يعود كذلك فإن الفرص الإقتصادية عند نقطة زمنية معينة إذا ذهبت لا يمكنك إستعادتها مرة أخرى إلى الأبد حتى لو قمت بتدارج الوضع في وقت لاحق فإن هذا التدارج لا يعني إستعادة الفرصة التي ذهبت ولكن فقط أنت تريد ألا تذهب فرصة أخرى في نقطة زمنية جديدة ، بمعنى وإسقاطاً على لب موضوعنا فإننا إذا أستعدنا مبلغ الـ 600 مليار جنيه من أولئك الفاسدين هذا لا يعني أننا قد أستعدنا كل تلك التأثيرات الإقتصادية التي كان سيحدثها الأستخدام الأمثل لهذة الأموال في الإقتصاد لو لم يتم سرقتها في حينها ، كل ما هنالك أننا سنوقف هذا الإهدار عند حد ونقطة معينة " وهي نقطة البدء في إستخدام هذة الأموال إستخداماً أمثل " ، وهذا يعني أن كل ما يمكننا أن نفعله إقتصاديا بهذة الأموال في "2016" سيكون هو بداية الإستفادة من هذة الأموال ، لكن لو أننا كنا قد إستفدنا من هذة الأموال في "2012" فهذا يعني أن تأثيراتها الإقتصادية بداية من النقطة الزمنية "2016" فصاعداً كانت ستكون بمثابة قيمة مضافة لتأثيراتها الإقتصادية منذ النقطة الزمنية "2012" وعلى هذا فإن تأثيراتها الإقتصادية منذ النقطة الزمنية "2012" إلى النقطة الزمنية "2016" فقدناها للأبد ولذا أخبرتك أن هذا الرقم لا يعبر فقط عن ذاته
وربطاً لهذا الكلام النظري بالواقع العملي الملموس حتى يكون اكثر وضوحاً ونكون أكثر إدراكاً لمعنى أن هذا المبلغ " لا يعبر فقط عن ذاته" فإني أشير إلى تجربتين في إيجاز شديد ويمكنك أنت بعد ذلك البحث فيهما أكثر وصولاً لإدراك أكثر للأمر
الحالة الأولى : هي فكرة " بنك الفقراء " التي قام بها الأكاديمي الإقتصادي محمد يونس في بنجلاديش والتي حاز بها على جائزة نوبل .. فهي توضح لك ماذا نعني بإعادة تدوير الأموال وقيمة وأهمية وتأثير ذلك وما يمكن ان يحققه من خطوات ولك ان تعرف أن هذة الفكرة لم يكن رأس مالها 600 مليار جنيه مصري ولا حتى رقم أقرب من ذلك بل هو عدة ملايين قليلة من الدولارات .. ولك ان تعلم أنها نقلت الآلاف من الأسر من تحت خط الفقر إلى مستوى حياة كريمة
الحالة الثانية : هي ما تابعنا الحديث عنه في الأيام الماضية عن "تجربة المهندس صلاح عطية" الذي إستطاع بفكرة إعادة تدوير الأموال أن يبني فرع لجامعة الأزهر بتفهنا الأشراف ناهيك عن عدد كبير من المعاهد الأزهرية والجمعيات الخيرية التي تخدم ألاف من الأسر الفقيرة وبالطبع فإن بداية رأس ماله كانت أقل من أن نذكره حتى ، فما بالك بـ 600 مليار جنيه ماذا كانت ستفعل وتغير في هذا الوطن البائس !!
في الأخير وتصديراً للنكد الذي تعود عليه أهل الإقتصاد فإن حجم الفساد هذا الذي كشف عنه الجهاز المركزي للمحاسبات لا يعني أنه هو الحجم الحقيقي والنهائي لهذا الفساد " بالنسبة للإقتصاديين " فهناك فساد لا يمكن أن تطوله الأرقام يمكن التعبير عنه بذلك المفهوم الذي أسلفنا توضيحه "تكلفة الفرصة البديلة" لكل القرارات الإقتصادية الخاطئة التي تهدر موارد هذا الوطن وأوضح مثال على ذلك الفساد الذي لا تطوله الأرقام هو طريقة التعامل مع تجربة شركات توظيف الأموال في مصر وكيف وأدت الحكومة هذة التجربة " وإن كنا نعترف ببعض القصور فيها لكن كان يجب إصلاح القصور وليس وأد التجربة " لصالح البنوك التجارية التي تأثرت أثر بالغ ، وبالبحث في هذة التجربة " شركات توظيف الأموال " ستعرف حينها ذلك النوع من الفساد الذي لا تطوله الأرقام