ما هو أرقى خير يمكن أن يبلغه المرء بجهده؟ يتفق عامة الناس وصفوتهم على أنه "السعادة"، ولكنهم يختلفون في تحديد كنهها.
هذا ما قاله أرسطو قبل آلاف السنين، ولكن لازال السؤال قائماً، ولازال الناس يبحثون عن طرق اكتساب السعادة، وقد يصرفون الأعمال والأموال دون أن يحصلوا على ما يريدون، فما هي السعادة؟ وأين نحصل عليها؟
الدراسات والبحوث التجريبية، توصل إلى وجود عامل عام للتعبير عن السعادة وهو الشعور بـ "الرضا الشامل"، وقد يفسّر هذا العامل بالشعور بإعتدال المزاج والتعبير بالرضا عن الحياة.
والناس قد يصفون السعادة إمّا على أنها شعور بالرضا والإشباع وطمأنينة النفس وتحقيق الذات، أو أنها شعور بالبهجة والإستمتاع واللذة.
والجامع لكل هذه المشاعر، كما سبق، هو الشعور بالرضا - وإن اختلفت أحوال الناس وأوضاعهم وأفكارهم - فإذا قال بعض الناس إنهم راضون جداً عن معيشتهم في كوخ من الطين، فلابدّ أن نفترض أنهم راضون بالفعل.
وذلك لأنّ السعادة هي ما يشعر به الإنسان في داخله، فالعالم هو عالم النفس، لا العالم الخارجي، فإذا ما تنوّر القلب، كانت الدنيا منيرة في نظر الإنسان.. والعكس صحيح، فالظلمة تعني قبل كل شيء العتمة في عالم النفوس والأرواح.
في الفكر الإسلامي: الفلاح هو الظفر بالسعادة، وإدراك بغية النفس، أي تحقيق رضاها، وهي كذلك حالة نفسيّة ولكنها قد تحصل بالفوز بمغنم أو مكسب، وذلك شعور موقت، وقد تحصل بالتضحية بمغنم أو مكسب، مع رضا النفس ولذتها بهذه التضحية، لذلك عبّر القرآن الكريم عن الأنصار الذين قدّموا الأموال والمساكن وغيرها للمهاجرين، بأنهم مفلحون، كما قال تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر/ 9).
للسعادة في القرآن مراتب، كما هي في الحياة ولدى سائر الناس، فالإنسان في تعبير القرآن: كادح إلى ربّه (الإنشقاق/ 6)، ساعياً إلى لقائه، من خلال التمثل بأسمائه وصفاته.. إنّه يريد أن يتخلّق بأخلاق الله، ليكون ودوداً، رحيماً، رؤوفاً، كريماً، عالماً، مقدّساً، في أخلاقه وعاداته.
والدرجة العليا من السعادة هي النفس المطمئنة المتجلية في قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنّتي) (الفجر/ 27-30).
إنّه الأمن والإطمئنان الذي يطبع النفس فيملأها رضا عن ذاتها ورضا عمّا حولها.. وليس الرضا رضاها فقط، بل إنها مرضية أيضاً، فالله تعالى رضي عنها، والكون كلّه يعلن رضاه أيضاً لأنها لم تسلك طريقاً خاطئاً ولم تعمل عملاً سيِّئاً، بل كانت كلّها خير ومنفعة للناس جميعاً.. أليس الرسول الكريم (ص) يقول: "خير الناس أنفعهم لهم"؟.
- ما هي الطمأنينة؟
بعض الأسماء والأوصاف سهلة ولطيفة، ولكن استحصالها ليس بالسهل، فمن يا ترى يعيش الطمأنينة في هذا العالم الذي يعجّ بالخوف والإضطراب؟
قال الراغب: "الطمأنينة والإطمئنان: السكون بعد الإنزعاج، قال تعالى: (ليطمئنّ قلبي) (البقرة/ 260)، (يا أيتها النفس المطمئنّة) (الفجر/ 22)، وهي أن لا تصير أمّارة بالسُّوء. وقال تعالى: (ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب) (الرعد/ 28)، تنبيهاً أن بمعرفته تعالى والإكثار من عبادته يُكتسَبُ إطمئنان النفس...
الإطمئنان يعني الأمان، فكيف يمكن أن ننتقل بالنفس من عالم مضطرب إلى جزيرة آمنة مستقرة؟
وللحصول على الأمن، لابدّ من الإبتعاد عن مصادر الخوف والقلق، والتي يمكن أن تهاجم النفس الآمنة من كل صوب، لتحوِّل بحرها الهادئ إلى بحر لجيّ مضطرب الأمواج، فلا يستقر لها حال ولا بال.
ومصادر الإضطراب نوعان:
الأولى: فكريّة، وهي التي تسبِّب الشكّ والإرتياب.
والثانية: حياتيّة تسبِّب الخوف والحزن.
وعلاج الأولى، أن تكون النفس متيقنة بالحق، فتطمئن ولا تشك ولا ترتاب.
ولا يحصل ذلك إلا بذكر الله، إيماناً وتصديقاً، ذلك أنّ الإنسان يُفكِّر دوماً في الأسباب والمسبِّبات.. "فكلّما وصل إلى سبب يكون هو ممكناً لذاته، طلب العقل له سبباً آخر، فلم يقف العقل عنده، بل لا يزال ينتقل من كل شيء إلى ما هو أعلى منه، حتى ينتهي في ذلك الترقي إلى واجب الوجود لذاته – الله تعالى – مقطع الحاجات ومنتهى الضرورات.. فلمّا وقفت الحاجة دونه، وقف العقل عنده واطمأن إليه ولم ينتقل عنه إلى غيره.. فثبت أنّ الإطمئنان لا يحصل إلا بذكر واجب الوجود"(2)، وهو الله.
وهكذا فإنّ آلاف الأسئلة، بل ملايينها لا تنقطع ولا تتوقف ولا تصل إلى نتيجة إلا إذا آمن الإنسان بالله ولجأ إليه.. وبذلك يخرج من بين أمواج الريبة واضطرابها إلى برِّ الأمان.
لنضرب مثلاً، إذا سأل سائل: ما مصدر المياه في الأنهار والمحيطات؟ أجيب بأنه من المطر، فيقال: من أين يأتي المطر؟ قيل من السحاب، فمن أين؟ من بخار الماء، فما الذي يبخره؟ قيل حرارة الشمس، فمن أين؟ قيل من حريقها، فمن الذي جعل الشمس محرقة ولم يجعل الأرض كذلك؟ وهكذا تنهمر الأسئلة وتنهال، بلا نهاية، ما لم يأتي الجواب: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء...) (الرُّوم/ 48).
(الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار *وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الليل والنهار) (إبراهيم/ 32-33).
(الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً...) (غافر/ 64).
(الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) (الزمر/ 62).
الله... الله... الله.
ثمّ ننتقل من عالم الطبيعة إلى عالم الحياة الجارية وما فيها من حوادث سارّة وضارّة، مفرحة ومقرحة، مفاجئة وحزينة، لتأتي الأسئلة تترى وحيرى، فَمَن الذي يدبِّر الوجود؟ مَن الذي يديره؟ مَن الذي ينعم على الناس ويوزِّع بينهم الأرزاق؟ مَن الذي يهب لمن يشاء الذكور ويهب لمن يشاء الأناث؟ مَن الذي يهب الحياة؟ ومَن الذي يأخذها؟
والجواب: هو هو، ولا جواب غيره: (الله الذي خلقكم ثمّ يرزقكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم.. هل من شركائكم مَن يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عمّا يشركون) (الرُّوم/ 40).
(الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر...) (الإسراء/ 30).
(والله الذي خلقكم وما تعملون) (الصافّات/ 96).
لقد قالها أحد فلاسفة الغرب: "لو لم يكن هناك إله لوجب أن نخلق إلهاً لأنّ الكون لا يستقيم له حال من غير إله".
وقال ربّ العزّة من قبل: (ولئن سألتهم مَن خلق السموات والأرض ليقولنَّ الله...) (الزمر/ 38).
وهكذا يجول العقل ويصول، ولا يهدأ له بال، ولا يستقر به حال، ولن يهدأ ولن يطمئن، إلا بالإيمان بالله تعالى وذكره، ولكن يبقى هناك سؤال: كيف يمكن تدعيم الإطمئنان بالإيمان؟
ساحة النقاش