اليوم نلمس بوضوح تقدم الفتى والفتاة في شتى ميادين المعرفة والعلم، ومختلف ميادين الفنون والثقافة، ونجاح كل منهما في هذه الإختصاصات المختلفة من طب، وهندسة، وفيزياء، وصيدلة، وآداب، ولغات، و... وحصولهما على مختلف الشهادات، ونيلهما أعلى درجات التحصيل في هذه الدراسات..

ولكننا نرى زيجات هؤلاء الفتيان إن حصلت، فإن معظمها فاشل، أو يتجرَّع الغَصَصَ فضلاً عمن فاتهن سن الزواج ودب اليأس إلى قلوبهن، وصار العَنَسُ ينخرُ حياتهن، فلماذا؟!

إن هناك أكثر من عامل، وأكثر من سبب لفشل هذه الزيجات، أو تأخّر مَنْ تَأخَّرَ عن ركب الزواج، فلم يصل إلى ظل الحياة الأسرية السعيدة.

إن الحياة اليوم قدمت إلينا علوماً وفنوناً، وثقافة ومعارف، وهيأت التقنية الحديثة مختلف الوسائل المادية، ولقد سبقت حضارة الجيران في نظم الحياة التي قدمتها للعالم ونحن منه، إذ سبقت بتقديمها كل ما يخطر بالبال؛ لزيادة ترفيه الجنس البشري، ولكن فاتها الشيء المهم في هذا كله! فاتها روح الحضارة وسر السعادة، فاتها أن تمد يدها إلى قلب الإنسان، وتنظر ما فيه، وتتفحصه جيداً، وتسأل ما الذي يسعده، وما الذي يشقيه؟

 لقد قدمت العلوم والفنون والمعارف، وكل وسائل الترف، وكل بهارج الحياة في الجامعات والمدارس، والأسواق والمتاجر، والمسارح والمسابح، ومجامع السياسة وملاعب الرياضة، أي أنها قدمت للإنسان الشيء الكثير لجسمه وشهواته، ولنفسه وهواه، ولكنها لم تقدم لروحه وفؤاده وقلبه وضميره، ما يسعده أو يريحه، ويطمئنه من قلق، ويؤمنه من خوف؛ لذلك بقي قلقاً ممزقاً، وخائفاً مضطرباً، يحسب السعادة في هذه اللذة فيعبَّ منها، فلا تروي ظمأه، وينتقل إلى أخرى، فيجدها سراباً يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ويظل ينتقل من لذة إلى أخرى، ومن شهوة إلى غيرها، ويحسب في كل منها رُوَاءَهُ ورِيَّهُ، فلا يجد إلا الظمأ القاتل، والقلق الفاتك!!

 إن هذه المفاسد والشهوات، والمظاهر والبهارج المختلفة، لم تلامس قلب هذا الإنسان ولم تَرْوِ روحه؛ لأن بين متطلبات الروح ومتطلبات الجسد أمداً بعيداً، وبوناً شاسعاً، وهل تطفأ النار بالنار، وهل يروى الظمآن بالماء الملح!!

إن شفاء أمراض الروح يكون بما يجانسها، وعافية القلوب تحصل بما يوافقها، وإن الإستقرار والطمأنينة، والسعادة السكينة لا تكون بالإنتقال من شهوة إلى شهوة أخرى، ومن لذة إلى غيرها.. أرأيتم إذا كان النهار سرمداً، فهل يرتاح الإنسان فيه؟
أم لابد له من ليل يسكن إليه؟!

أرأيتم من ليس له مأوى، هل يبقى متنقلاً من فندق إلى نُزُلٍ، ومن ظل جدار إلى آخر؟ أم لابد له من بيت يأوي إليه ويجد السكن فيه؟!

وكذلك الرجل والمرأة كلاهما لابد لهما من اقتران ببعضهما؛ حتى يجدا السكن في الزوج المستقر الدائم، ويحصلا على السعادة في اللجوء إلى كنف بعضهما بعضا..

ونعود إلى السؤال: لماذا لم تنجح معظم زيجات شباب العصر وفتياته؟ ها قد اقترنا وأوى كل منهما إلى حِجْرِ الآخر، ودخلا بيت الزوجية، فلماذا لا يجدان هذا (السَّكَن) الذي عاش فيه أبواهما؟ ولماذا لا يذوقان الحلاوة التي نعم بها والداهما؟! رغم أنهما متعلمان، مثقفان، واعيان لمعظم حاجات العصر، منفتحان على أغلب فنونه وبهارجه، وعندهما معظم وسائل الترف ووسائط المدنية الحديثة؟! وفي الغالب، فإن أبويهما أميّان، أوعلى درجة بسيطة من العلم والثقافة، ولا يملكان وسائل العيش المدني الحديث، كما يملكه أولادهما.

وإن الجواب بسيط: لقد قدمت الحياة المعاصرة إلى أجيالنا من بنين وبنات، وشباب وفتيات مختلف العلوم والفنون، كما قدمت مختلف الوسائل المادية التي نستخدمها في طعامنا، وشرابنا، ونومنا، وركوبنا... إلخ.

فخرَّجَت الجامعاتُ والمدارسُ والمعاهدُ الأطباءَ، والمهندسين، والصيادلةَ، والمحامين، والمعلمين، والفنيين من الجنسين.. من الشباب والفتيات، وأعَدَّتْ من كليهما (بنين وبنات) كل ما تحتاجه الحياة المعاصرة؛ ليقوم هؤلاء بدورهم الفاعل، والمنتج في بناء الحياة العصرية، وكذلك قدمت المصانع، والمعامل مختلف وسائل الراحة والترفيه للبيت والمطبخ وللسفر والحضر، ولكن عندما أعدت الجامعات، والمعاهد، والمدارس هؤلاء الشباب والفتيات؛ ليكونوا كما أرادت لهم مناهج العلوم وبرامج الفنون، من ذوي الإختصاصات العلمية المختلفة..

وقد أغفلت هذه المؤسسات التعليمية ناحية مهمة في إعداد هؤلاء الشباب والفتيات.. هذه الناحية المهمة أغفلتها المناهج سهواً أو عمداً، لأنها في الغالب أخِذَتْ طبق الأصل عن مناهج غيرنا الذين ليس لهم في مناهجهم هذه الناحية المهمة، وهذه المادة التي يحتاجها جيلنا، وفقدتها أجيالهم.. فكان ما رأيناه، وصار ما أحسسنا به؛ من فشل زواج شبابنا وبناتنا وعنوسة معظم الفتيات، وبخاصة المتعلمات..!!

هذه الناحية المهمة التي كان الأبناء والبنات يُرَبَّوْنَ ويُنَشَّؤُون عليها في بيوت الآباء والأمهات الأميين، أو قليلي الثقافة والعلم، وهي أهم وأعظم ما يفقده جيل الشباب والفتيات المثقفين المتعلمين، ألا وهي: كيف نُعدُ شبابنا وبناتنا ليكونوا (أزواجاً صالحين وزوجات صالحات، ثم آباء مربين، وأمهات مربيات؟!).

والأمر ليس صعباً، وليس عسيراً، لأنه كما قلت: كان الآباء والأمهات الأميّون من الأميّات يربون أطفالهم، ويلاحظونهم في تكوينهم، كما يتعلم الولد مهنة أبيه، وتتعلم البنت تدبير المنزل من أمها..

لقد اكتسب أزواج وزوجات الجيل الماضي، جيل آبائنا وأمهاتنا مهارات آبائهم وأمهاتهم في الصناعات والمهن التي كانوا عليها في السوق والمنزل، واكتسبوا معها عملياً كيف يكون الرجل زوجاً صالحاً، والمرأة زوجة صالحة، وبالتالي كيف يكون الزوج أباً مربياً والأم أماً مربية، واكتسبوا هذا في البيوت التي كانوا يساكنون فيها آباءهم وأمهاتهم، دون أن يدرسوها في مدرسة، أو يتعلموها في الجامعة؛ لأنهم كانوا أميين وأشباه أميين..

ولكنهم كانوا مزودين بثمرة العلم ونتيجة المعرفة، ألا وهي الخلق الفاضل والسلوك المستقيم مع أنفسهم في نطاق الأسرة، ومع جيرانهم في نطاق الحي والقرية، ومع الناس كافة على مستوى المدينة، والبلدة والريف، والحاضرة.

المصدر: مقالات
Al-Resalah

الرسالة للتدريب والاستشارات.. ((عملاؤنا هم مصدر قوتنا، لذلك نسعى دائماً إلى إبداع ما هو جديد لأن جودة العمل من أهم مصادر تميزنا المهني)). www.alresalah.co

  • Currently 34/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
12 تصويتات / 543 مشاهدة
نشرت فى 25 إبريل 2011 بواسطة Al-Resalah

ساحة النقاش

الرسـالة للتدريب والاستشارات

Al-Resalah
مؤسسة مهنية متخصصة في مجالات التدريب والإستشارات والبحوث والدراسات، وتُعتبر أحد بيوت الخبرة متعددة التخصصات في العالم العربي.. ومقر الرسالة بالقاهرة.. إن الرسالة بمراكزها المتخصصة يُسعدها التعاون مع الجميع.. فأهلاً ومرحبا بكم.. www.alresalah.co - للتواصل والإستفسارات: 00201022958171 »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,041,424