إن المتأمل في واقع الكثير من أبنائنا عند تخرجهم من المرحلة الثانوية ليلحظ علامات الاستفهام والحيرة والتردد بادية على وجوههم، فهو لا يدري إلى أين سيذهب ولا إلى أين سينتهي به المطاف.. جامعات متعددة وتخصصات متنوعة وخيارات كثيرة زادته حيرة إلى حيرته، فلا لوحات ترشده ولا إرشاد يوجهه ولا معايير تعينه، فيقع في الفجوة الكبيرة بين مدرسته التي ودعته بلا توجيه وجامعته التي تفترض فيه القدرة على الاختيار.
وقد أشارت إحدى الدراسات أن اثنين من كل خمسة من طلابنا الجامعيين يغيرون تخصصاتهم في السنة الأولى، مما يدل على عدم قدرة الطالب على تحديد التخصص الأنسب له، وذلك لقلة الوعي لديه وغياب المعلومة عنده وندرة المرشدين له.
وقد عملت (وغيري) جاهدًا في السنوات الخمس الماضية على تجلية الرؤية أمام الطلاب عبر وسائل وآليات وبرامج وخطوات تعينهم على تحديد التخصص الأنسب لهم، وقد خرجت بنتائج إيجابية وبنسب وإحصاءات تظهر أبعاد المشكلة وعمق المعاناة لدى الطلاب والطالبات. وقد عمدت في هذه المقالة إلى تقديم بعض التوجيهات التي ينبغي للطالب أخذها في الاعتبار قبل اختياره لتخصص ما.
فيجب علينا عند اختيار التخصص الأنسب لنا أن نراعي ثلاثة أمور رئيسة؛ (الرغبة) و(الفرصة) و(القدرة)، وسأتناولها بشيء من التفصيل:
المحور الأول: الرغبة:
اسأل نفسك: (ماذا أريد أن أكون بعد عشر سنوات من الآن..؟)، وتأمل في إجابتك، وعش تلك اللحظات الجميلة، ثم اسأل نفسك: ما التخصصات التي أحبها وأرغب في الالتحاق بها؟ اكتب ثلاث تخصصات مرتبة بحسب أهميتها لك، مثلاً:
طب بشري ــ هندسة بترولية ــ حاسب آلي
ويجب التنبيه إلى ما يقع فيه الكثير من الطلاب والطالبات عند تحديد رغباتهم، فالكثير منهم يبني رغبته بناءً على رغبة والديه أو تمشيًا مع صحبته وأصدقائه أو بناءً على سمعة التخصص ونظرة المجتمع له.
كثيرًا ما أسأل الطلاب: لماذا اخترت الهندسة؟ فيقول: لأني أرغب أن أكون مهندسًا، فأسأله: ما الهندسة؟ وما أقسامها؟ وماذا تدرس؟ وما طبيعة دراستها؟ وما مستقبلها؟ فيقول: لا والله لا أدري ...! إذن بناءً على ماذا أحببتها ورغبة فيها؟!.
كثيرًا ما ينخدع الإنسان بالشكل الخارجي مثلاً لأكلة معينة، ويرى بعض الناس يأكلها ويحبها فإذا ما اشتراها وبدأ في أكلها تجده يضعها جانبًا ولا يستسيغ طعمها فخسر وقته وماله، والسبب أنه انخدع بشكلها أو بحديث البعض عنها ولم يسأل عن مكوناتها وطريقة إعدادها. ما أكثر من دخل الطب لأن المجتمع يحب ذلك وليس لأنه يحب الطب، وما أكثر من درس الهندسة ليقال مهندس فخسر جهده وأتعب نفسه لإرضاء غيره.
يجب عليك أخي الطالب أن تبني رغبتك في تخصص ما بعد أن تكتمل لك الصورة عن هذا التخصص. لابد أن تعرف ماذا تدرس؟ وكيف ستدرس؟ وما مستقبل ذلك التخصص؟ وما أنظمته ومتطلباته؟ ابحث عن معلومات عنه في مواقع الجامعات وعند المرشدين الأكاديميين. حاول أن تسأل الطلاب الذين سبقوك خاصة من هم في المستويات الأخيرة من الدراسة.
(اسألهم عن طبيعة الدراسة ومستقبلها) لا عن رأيهم فيها أو في درجة صعوبتها وسهولتها، فما هو جيد لهم قد يكون سيئًا لك، وما هو صعب عليهم قد يكون سهلاً عليك.
اسأل كذلك المتخرجين من التخصص نفسه. اسأل: ما الوظائف التي تؤهلني لها هذا التخصص؟ (اسأل ثم اسأل واتعب في جمع المعلومات فهذا مستقبلك) لكي تكتمل الصورة في ذهنك ومن خلالها تحدد رغبتك في التخصص الذي تريد أن تلتحق به.
بعد أن تقوم بما سبق يمكنك أن تحدد رغبتك الحقيقية والتي بنيت من خلال معلومات متوفرة ومصادر متعددة.
المحور الثاني: (القدرة):
فبعد أن حددت تخصصين أو أكثر تشعر بميول لهما, يجب أن تعلم أخي الطالب أن كل مخلوق ميسر لما خلق له وأنك إنسان متفرد ومستقل, لك من القدرات ما ليس لغيرك، وأن لدى غيرك من الإمكانات ما ليس لديك، وأن ما يناسب غيرك ليس بالضرورة يناسبك، لذا ينبغي عليك أن تعرف إمكاناتك وقدراتك ثم تعرف متطلبات التخصص الذي تريد اختياره مثلاً.
هل أنت تجيد الفهم أكثر أم الحفظ؟ وهل التخصص الذي تريده يتطلب الحفظ أم الفهم؟ ما المواد التي تميزت وتفوقت فيها في المرحلة الثانوية؟ ما المواد التي تجد نفسك مرتاحًا ومستمتعًا في تعلمها وقراءتها؟ هل أنت تحب التفصيل والترتيب والتدقيق؟ أم تحب الإجمال والاستدلال والبرهان؟.
فمثل هذه التساؤلات تكشف لك عن استعداداتك وقدراتك عند اختيارك للتخصص الذي تريد، فمثلاً:
أنا لديّ ملكة الحفظ جيدة، وأحب التفاصيل والتنظيم والترتيب والحساب, فهل أختار تخصص الصيدلة أم التسويق مثلاً؟
قبل أن تحدد التخصص الذي ترغب يجب أن تعرف متطلباته أولاً، فالصيدلة تعتمد على الحفظ والتنظيم والمعادلات والاختصارات، فهي الأقرب لقدراتك واستعداداتك، بينما التسويق لا يتطلب ذلك وقد لا تناسبك طريقته.
وخلاصة القول في المحور الثاني أن تتعرف على قدراتك وإمكاناتك، وتتعرف على متطلبات التخصص الذي تود اختياره، وكلما توافقت قدراتك مع متطلبات التخصص كلما كانت نسبة تكيفك في التخصص أعلى واستمتاعك في التعلم أكثر وقدرتك على التفوق فيه أيسر.
المحور الثالث: (الفرصة):
جميل جدًا.. إذن انتهينا من المحورين الأول والثاني، فأولاً حددنا التخصصات بناءً على الرغبات ثم حاولنا معرفة مدى القدرة على الدراسة في أحد هذه التخصصات، وبعد ذلك ننتقل للمحور الثالث وهو الفرصة.
وهذا يعني أنه عند اختيار التخصص يجب أن نختار ما نرغب فيه وما نقدر عليه (كما ذكرنا سابقًا) وأن نختار كذلك ما توجد له فرص وظيفية في سوق العمل، فليس من المعقول أن أحب مثلاً قسم التأريخ وأعرف أن لديّ القدرة على التفوق فيه ثم بعد ذلك أتخرج منه ولا أجد عملاً يقبل شهادتي والسبب أن الوظائف لهذا القسم متعذرة أو ضئيلة.
لذا يجب أن أختار ما أحبه أنا وما أستطيع التفوق فيه وما توجد له فرص في سوق العمل، فقد أثبتت دراسة أمريكية في عام 2006 م أن 80 % من العاملين يعملون في وظائف لا تمت بصلة لتخصصاتهم الجامعية، وذلك بسبب سوء اختيار التخصص المناسب لكل فرد منهم.
أما كيف يعرف الإنسان الفرص الوظيفة فهذا ما لا يمكن الجزم به لتسارع الحياة وتقلب الأحوال واتساع سوق الأعمال ولقلة بل ندرة مصادر المعلومات حول الوظائف والأعمال وعدم تقديم الدعم الأكاديمي اللازم للسائلين.
ولكن هناك بعض الطرق التي يمكن اللجوء إليها:
مثلاً الجامعات الأهلية عادة ما تفتتح أقسامها بناءً على احتياج سوق العمل ومعرفتك لهذه الأقسام يعطيك بعض المؤشرات لمدى الاحتياج في بعض التخصصات.
ومن الأساليب المجدية أن تسأل الطلاب الذين تخرجوا عن مدى فرصهم وتوفر الوظائف المناسبة لهم والمتوافقة لما درسوا.
ويبقى أن هناك تخصصات معلومة ضاقت مساحة الفرص فيها، كالمكتبات وقسم الآثار والاجتماعيات والتربية الخاصة وتخصصات ما زال الطلب عليها جاريًا، كالطب وبعض أقسام الهندسة والحاسب الآلي والمحاسبة وإدارة الأعمال والتسويق وكلية الشريعة والقانون.
ودعني اضرب لك مثالاً يشتمل على كل ما سبق ويلخص الفرصة:
لنفترض أنني حيران بين المحاسبة والتربية الخاصة وكلية حربية وكيمياء وكلية الشريعة والاقتصاد المنزلي للطالبات, وبعد أن سألت عن هذه التخصصات اكتشفت أنني أميل وأرغب في التربية الخاصة والشريعة والكيمياء (فهذه الرغبة)... وبعد ذلك بدأت أنظر في متطلباتها وفي قدراتي فوجدت أن التربية الخاصة وكلية الشريعة تناسبني أكثر (وهذا هو محور القدرة)... ثم بدأت أنظر في الفرص الوظيفية فوجدت أن التربية الخاصة مثلاً مجالات العمل فيها أضيق وأن الشريعة تمكنني بعد التخرج من العمل في التعليم وفي القضاء وفي البنوك وفي الشركات، لذا فكلية الشريعة بناءً على (الرغبة) و (القدرة) و(الفرص) أنسب من غيرها.
تساؤلات
هل عدرة يعني أنني لا يمكن أن أنجح في هذا التخصص؟
جـ: بالطبع لا، فالقدرة تعني أنك قادر على دراسة وتعلم هذا التخصص وأنك لن تحتاج إلى جهد مضاعف لتسير فيه، بينما عدم القدرة تعني أنك ستبذل جهدًا أكبر من المعتاد لتتمكن من النجاح في هذا التخصص.
فمن لديه قدرة بلا رغبة قد لا يستمر في هذا التخصص، وإن استمر فلربما لن يبدع ويستمتع, ومن لديه رغبة بلا قدرة فإنه سيستمر ولكنه سيحتاج لجهد مضاعف مقارنة بتخصصات أخرى, ومن كانت لديه الرغبة والقدرة فهو بإذن الله سيبدع وسينجح وسيستمر, ولكن لابد أن تختار تخصصًا تتوفر فيه الوظائف حاليًا حتى لا تكون ممن جهد ودرس ثم عمل في وظيفة لا تناسب تخصصه فأضاع ما استفاد من دراسته وقصّر في تأدية وظيفته.
خواطر
* من عمل بلا رغبة فلن يستمر.
* ومن عمل بلا قدرة فلن يبدع.
* ومن فقدهما فلن ينتج.
* ومن ظفر بهما فقد امتطى صهوة النجاح بإذن الله.
* الشهادة الجامعية ليست الطريق الوحيدة للنجاح في الحياة، ولكنها قد تكون الطريق الأقصر والأقل جهدًا.
* اختيارك التخصص الأنسب لك قرارٌ لن يؤثر على حياتك فقط بل على حياة أسرتك وأبنائك.
* الحياة الجامعية تحدد جزءًا كبيرًا من ملامح مستقبلك.
* ماضي مَن سبقك قد يكون فيه مستقبلك فاستشر ثم استخر.
ساحة النقاش