على الرغم من اتفاق معظم علماء النفس على تحديد مفهوم التعلّم حسب التعريف الذي قدمناه في مكان سابق من هذا الفصل ، إلا أنهم يختلفون على نحو كبير من حيث تفسيرهم لطبيعة التعلم ، الأمر الذي أدى إلى جدل طويل بين العاملين في ميدان سيكولوجية التعلم ، حول ما يتم تعلّمه أو اكتسابه نتيجة عملية التعلم .

تشير وجهة النظر التقليدية إلى أن التعلم عبارة عن تكوين ارتباطات بين المثيرات والاستجابات. ويعنى الارتباط في أبسط صوره ، أننا نتعلم متى وأين تقوم بالاستجابة، ويحدث عندما يغدو المثير قادراً على ضبط الاستجابة ، فتحدث في حضوره وتختفي في غيابه . فعندما يتعلم الطفل ربط اسم ما ، بشيء ما، ويغدو قادراً على الاستجابة باسم ذلك الشيء في حال وجوده ، يكون قد تعلم "ارتباطاً " بين المثير " الشيء" والاستجابة " النطق باسم هذا الشيء" . لذا يتعلم الفرد في ضوء وجهة النظر هذه تكوين ارتباطات بين مثيرات معينة واستجابات معينة. وتختلف هذه الارتباطات من حيث الكم "العدد" والنوع "القوة" باختلاف عدد الأوضاع التي تتيح للفرد تكوين مثل هذه الارتباطات ، ومرات تكرار تعرّضه لمثل هذه الأوضاع .

وهناك اتجاه آخر ضمن إطار وجهة النظر الارتباطية ، ينزع إلى استخدام بعض المصطلحات المعرفيّة على نحو أكثر وضوحاً، ففي الوقت الذي يرى فيه أصحاب هذا الاتجاه أن التعلم هو تكوين ارتباطات فعلاً ، فإنهم لا يقولون بالارتباطات بين المثيرات والاستجابات ، بل بالارتباطات بين المثيرات وبعضها البعض ، حيث يتعلم الفرد "توقع" حدوث مثير معين لدى حدوث أو حضور مثير آخر، أي أن الفرد يتعلم معنى المثير أكثر مما يتعلم استجابة معينة لهذا المثير . ويمكن إيضاح الاختلاف بين ارتباط المثير–  الاستجابة ، وارتباط المثير– المثير بالمثال التالي : إن الطفل الذي لا يتجاوز الخامسة من عمره ، والقادر على الذهاب من منزله إلى مدرسته بمفرده ، يتعلم طبقاً لنموذج ارتباط المثير– الاستجابة ، سلسلة من الاستجابات المحددة التي تمكنه في نهاية المطاف من الوصول إلى مدرسته ، كالانعطاف نحو اليمين ثم نحو اليسار.. ثم نحو اليسار مرة أخرى.. ثم نحو اليمين.. وهكذا. أما طبقاً لنموذج ارتباط المثير – المثير، فالطفل لا يتعلم استجابات ، بل يتعلم " موقع " المدرسة، أي مجموعة الارتباطات بين مثيرات معَّينة تمكنه من الوصول إلى المدرسة، وبتعبير آخر، يمكن القول بأن الطفل يتعلم حسب نموذج ارتباط المثير – الاستجابة ، مجموعة استجابات ، في حين يتعلم طبقاً لنموذج ارتباط المثير – المثير تكوين "فكرة " عن موقع المدرسة، الأمر الذي يمكنه من الوصول إليها من اتجاهات مختلفة وسلوك دروب مختلفة .

على الرغم من سيادة التفسير الارتباطي للتعلم سنوات طويلة من القرن العشرين، إلا أن اتجاهاً معارضاً ينحو منحنى معرفياً في تفسير السلوك ، بدأ بالظهور على نحو متزايد خلال السنوات العشرين الماضية، متسائلاً عن مدى قدرة الاتجاه الارتباطي على تفسير العديد من الأوضاع التعلمية التي لا يمكن إرجاعها إلى الارتباطات فقط . لذا يرى أصحاب الاتجاه المعرفي أن العلميات المعرفيّة المعقدة ، وبخاصة الرمزية منها، كالتفكير والاستدلال والتجريد والتنظيم، هي عمليات ضرورية من أجل فهم طبيعة التعلم وتفسيره، ويؤكدون على أن الكائن البشري ليس مجرد عضوية سالبة ، تتلقى المعلومات ، وتستجيب لها على نحو آلي ، بل هو معالج فعال لهذه المعلومات، يقوم بفهمها وتنظيمها ودمجها في بنائه المعرفي .

يغدو البحث في سيكولوجية التعلم ، طبقاً للاتجاه المعرفي، بحثاً في كيفية اكتساب المعرفة وتشكيل البنى المعرفية، لأن الكائن البشري لا يتعلم " استجابات " فحسب، بل يدرك الحقائق ويفهمها ويكتسب معلومات ومعارف مفهوميّة، ويتعلم تكوين " البنى المعرفيّة " التي تتبدى في نشاطاته المعرفيّة ، كالفهم والتذكر والإدراك المعرفي والاستدلال وحل المشكلات.. الخ .

يرتبط بالمفاهيم المعرفيّة للسلوك، اتجاه آخر برز حديثاً نتيجة تأثر بعض علماء النفس بنظام عمل الحاسب الالكتروني ، وطريقته في إدخال البيانات ومعالجة المعلومات وإخراج المخرجات، وأخذ أصحاب هذا الاتجاه بالنظر إلى السلوك الإنساني على أنه نوع من نظام معالجة المعلومات Information Processing System، حيث تأخذ المعلومات شكل مدخلات Inputs صادرة عن البيئة الخارجية، فتتلقاها العضوية وتعالجها عبر سلسلة من المراحل المتتابعة ، ثم تصدرها على شكل مخرجات Outputs .

يرى أصحاب اتجاه معالجة المعلومات، أن الإنسان يعمل بطريقة مشابهة لعمل الحاسب الالكتروني، من حيث استقبال المعلومات ومعالجتها وإصدارها ، إلا أنهم يعترفون بأن الإنسان ليس حاسباً الكترونياً، ولكن يمكن تحليل جوانب السلوك الإنساني، كالإدراك والتذكر والتجريد والتعلم طبقاً لنظام معالجة المعلومات المتبع في الحاسبات الالكترونية  .

 

المصدر: مقالات
Al-Resalah

الرسالة للتدريب والاستشارات.. ((عملاؤنا هم مصدر قوتنا، لذلك نسعى دائماً إلى إبداع ما هو جديد لأن جودة العمل من أهم مصادر تميزنا المهني)). www.alresalah.co

  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 806 مشاهدة

ساحة النقاش

الرسـالة للتدريب والاستشارات

Al-Resalah
مؤسسة مهنية متخصصة في مجالات التدريب والإستشارات والبحوث والدراسات، وتُعتبر أحد بيوت الخبرة متعددة التخصصات في العالم العربي.. ومقر الرسالة بالقاهرة.. إن الرسالة بمراكزها المتخصصة يُسعدها التعاون مع الجميع.. فأهلاً ومرحبا بكم.. www.alresalah.co - للتواصل والإستفسارات: 00201022958171 »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,027,175