تتواجد الطحالب الدقيقة فى كل البيئات المائية متى سمحت الظروف المحيطة بذلك، وهي في انتقالها من هنا وهناك رهينة لحركة رياح وتبعاتها من تيارات في المياه وهكذا لم يكن صعباً على العلماء أن يطلقوا عليها "الهائمات النباتية أو العوالق النباتية". وتلعب هذه الكائنات الحية الدور الأساسي فيما يعرف بالسلسلة الغذائية وتشكِّل المصدر الرئيسي لتغذية الأسماك ويرقاتها وغيرها من الكائنات مثل القشريات والرخويات والتي تعتبر في مجموعها غذاء لا غنى عنه للإنسان. وجاء الإنسان الذي أراد أن يجد حلولاً يواجه بها الزيادة السكانية المتعاقبة، فألقى بمخلفاته وكذا من مصانعه وأراضيه الزراعية، والتي يتعاظم مقدارها من جيل إلى جيل، في مياه المسطحات المائية. وارتفع معدل التلوث فأشاع بذلك العبث، بقصد أو بغير قصد، في البيئة المائية، واختلت الموازين وبدا الضرر وشيكاً. وساعد ذلك بالتأكيد على التواجد الكثيف لنوع من الطحالب أو اكثر عن غيره في الجماعة نفسها وتحت الظروف نفسها فيما يعرف بظاهرة "الازدهار". ويحدث في كثير من الحالات أن يكون ازدهار نوع أو اكثر، في آن معاً، من الهائمات النباتية مصحوباً بتلون واضح في لون المياه من بين الأخضر، الزيتوني، الأصفر، البني، لون طوب البناء الأحمر أو حتى لون الدم. ومن هنا جاء ما يعرف مجازاً بظاهرة "المد الأحمر"، والتي لا تعني في مضمونها اكثر من ظاهرة ازدهار لهائمات نباتية مصحوب بتلوُّن يمكن تمييزه بالعين المجردة. وهذه الظاهرة هي أيضاً بمثابة سلاح ذي حدين للإنسان والحياة في البحار. وظاهرة الازدهار في مضمونها العام تشكل عاملاً مهماً في زيادة الثروة السمكيَّة، إلا إنها تخلق في الوقت ذاته مارداً جباراً شديد البأس ليس فقط على الحياة البحرية بمختلف صورها بل على صحة الإنسان والتي قد تودي بحياته وتدمر اقتصاده ودخله القومي، وهو ما سنتعرض إليه لاحقاً. ومن بين حوالي 5 آلاف نوع من الهائمات النباتية والتي أمكن التعرف عليها في المسطحات المائية على مستوى العالم، فإن هناك حوالي 300 نوع قد تم رصده قادراً على تكوين هذه الظاهرة، ومنها 40 نوعاً يمتلك القدرة على إفراز مواد سامة تحت ظروف بيئية معينة أو فسيولوجية خاصة بالطحلب ذاته المسبب للظاهرة، قد تصيب الإنسان في مقتل متى وصلت إليه عبر تناوله لأسماك أو غيرها من الكائنات البحرية والتي تحمل بين أنسجتها هذه السُّموم. وترجع الحالة الأولى المسجلة تاريخياً لتسمُّم الإنسان عقب تناوله لمحاريات وأسماك ملوثة بسموم أفرزتها طحالب دقيقة أثناء فترة مد أحمر إلى عام 1793 عندما نزل الكابتن جورج فونكوفر مع طاقمه على أراضي كولومبيا البريطانية في منطقة تعرف حاليا باسم "خليج السم" وأصاب بحارته التسمم ومات بعضهم. وعرف ومن معه أن أفراد القبائل الهندية التي تستوطن هذه المنطقة تحظر على أفرادها، بل تحرِّم تناول المحاريات خلال الفترة التي يظهر خلالها وميض من مياه البحر أثناء الليل عند السباحة أو تحرك السفن، وهي أعراض تعرف بظاهرة الفسفرة والتي تصاحب بعض فترات المد الأحمر. وهذه الظاهرة عرفها أيضاً الصيادون على السواحل البريطانية منذ أواخر القرن الثامن عشر. ورغم أن ظاهرة المد الأحمر تعتمد في تواجدها واستمرارها على عوامل شارك الإنسان في صنعها، إلا أن هناك عوامل أخرى ليس له شأن بها. فقد لوحظ أن ظهور مد أحمر يتعاقب مع فترات من هطول أمطار غزيرة وخاصة على مرتفعات منزرعة وغابات، تصب مياه أمطارها في البحر وما تحمله من مواد عضوية، هي بمثابة الغذاء الوفير للطحالب. إلا أن دور الإنسان الواضح قد ينحصر في الصَّرف الصحِّي المباشر على المجاري المائية والتي تصب بالتبعية في أنهار وبحار، وهذه المخلفات، وإلقاء المخلفات الصناعية. ولوحظ في بداية الستينات أي منذ قرابة الخمسين عاماً أن بعض الموانئ التي تقوم بجانبها صناعات سفن خشبية تشهد تواجداً كثيفاً للمدِّ الأحمر، يتمثل بأنواع معينة من الهائمات النباتية يطلق عليه الطحالب الذهبية "الدياتومات" وهو ما استتبعه اهتمام من الباحثين بمدى تأثير مخلفات هذه الصناعة على استفحال الظاهرة. وتم رصد ذلك أيضاً بخصوص مخلفات صناعات الورق، والكيماويات وحتى الصناعات الثقيلة. واعتمد الإنسان لمواجهة اعداده المتزايدة بشدة على تنمية إنتاجية أرضة المزروعة، مما استوجب ذلك استخدام أنواع متعددة من الأسمدة الكيميائية تحوي في المقام الأول عنصري النتروجين والفوسفات، والتي تنتقل عند صرف مياه الري بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى مياه البحر. ولوحظ أن هناك فترات لتواجد مد أحمر يعقب عمليات الري في فصول معينة. وتشكل إقامة المزارع السمكية ايضاً عاملاً مهماً حيث أوضحت الدراسات أن إنتاج المزارع السمكية على نطاق العالم يستطيع خلال 10-20 سنة القادمة أن يسد النقص الواضح والمتوقع في المصايد الطبيعية. إلا أن مثل هذه المزارع السمكية ورغم أهميتها تشكل بيئة خصبة وصالحة لتوالد الهائمات النباتية واستنباط أنواع جديدة لم يكتب لها النجاح سابقاً كمد أحمر. إن إقامة المشاريع الاستثمارية المتمثلة فى المنتجعات السياحية تستوجب بالضرورة توفير الظروف المناسبة للاستمتاع بالسباحة والغوص في مياه هادئة، والذي يعني إقامة حواجز الأمواج و بحيرات صناعية محدودة. ورغم بساطة التفكير فإن ذلك قد ساعد بوضوح في انتشار المد الأحمر بإيجاد ظروف بيئية مناسبة لتواجده. وتتمثل المخاطر التي يسببها المد الأحمر على صحة المواطن وهو ما يشكِّل بؤرة الاهتمام في بلدان العالم المتقدمة في عدة عناصر نذكر منها: 1- تلوث مياه الشرب في الكثير من البحيرات، وبخاصة ببعض الأنواع السامة من الطحالب الزرقاء المخضرة، وهو ما قد يسبب صراعات إقليمية حول مصادر المياه في المستقبل القريب. 2- تناول المحاريات والقشريات والتي لها القدرة ليس فقط إلى امتصاص السموم التي تفرزها بعض الطحالب الدقيقة بل يتعدى الأمر الاحتفاظ بها وتجميعها حتى بعد طبخها بالغليان. إن هناك حوالي ألفي حالة تسمم تسجل سنوياً على مستوى العالم، منها 15 في المائة قد لقوا حتفهم. وحوالي 100 غرام من لحم هذه الرخويات المصابة قد يكون كافياً أحياناً لموت إنسان تبعاً لنوع الهائمات النباتية المفرزة للسموم، وكذا نوع السموم ذاتها ودرجة تركيزها. 3- إن أعراض الإصابة بالتسمم تبدو في مطلعها وبدايتها متشابهة مع تلك المصاحبة لنزلات البرد، ولكن سرعان ما تتفاقم وتسبب صعوبة التنفس والوفاة إذا لم يتم الإسعاف السريع. 4- تناول اسماك قاع من مناطق الشعاب المرجانية، والتي تتغذى على الأصغر منها وهذه تعيش بدورها على بعض الأنواع من ثنائية الاسواط من الطحالب الدقيقة والقادرة على إفراز سموم قاتلة فيما يعرف بمرض "سيغوترا"، ويعاني المصاب آلاماً شديدة بالمعدة وصعوبة في التنفس وربما فشلة. 5- تسبب بعض الإفرازات المصاحبة لبعض أنواع المد الأحمر حروقاً للجلد والحساسية الصدرية لروَّاد الشواطئ. 6- يعوق تواجد المد الأحمر ممارسة رياضة الغطس التي تتطلب مياه صافية وذلك لانعدام الرؤية وكذا بعض الرياضة البحرية. وهناك ظاهرة معروفة على امتداد شواطئ الادرياتيك في البحر الأبيض وهي ما يطلق عليه ظاهرة المخاض المائي. وفي هذه الظاهرة، التي تمثل نوعاً من مد أحمر يقوم الطحلب المتواجد بكثافة عالية بإفراز بعض من مواد كربوهيدراتية وبروتينيات، والتي تجعل ماء البحر ثقيلاً يشبه المخاط. إن هذه الظاهرة تبعث في نفس السائح شعوراً بعدم الراحة والرضى ويجعله عازفاً عن ممارسة رياضته البحرية. إن الأضرار بالسياحة البحرية له بطبيعة الحال مردود سيئ على الدخل القومي، وإن ما تتكبده الحكومات من خسائر مادية نتيجة انتشار المد الأحمر يؤثر بالسلبية على الخدمات التي تقدمها لمواطنيها. ولك أن تتخيل مدى ضخامة هذه الخسائر إذ أن التكلفة الفعلية لمكافحة هذه الظاهرة حوالي مليون دولار لكل كيلومتر مربع في بعض البحيرات الأوربية. ويتعلق الأمر بالطبع بمدى صلاحية المياه للشرب والاستخدام الآمن. إن الموت الجماعي للأسماك التي في مياه البحر وفي مزارعها أثناء بعض فترات المد الأحمر تشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي لبعض البلدان التي تعتمد على الأسماك لمصدر رئيسي للغذاء وعلى الصناعات القائمة عليها. وقدِّرت الخسائر التي سببها نوع واحد سام من الهائمات النباتية بأكثر من 250 مليون دولار في اليابان عندما دمر تواجده المزارع السمكية في المنطقة المحيطة، وامتد تأثيره لسنوات متعاقبة. وهناك خسائر أخرى يمكن رؤيتها على أمد أطول نذكر منها فقد مصائد أسماك القاع ذات القيمة الاقتصادية العالية ولفترات طويلة، تهديد الصناعات القائمة على إنتاج القشريات والرخويات والتي تقدر بالمليارات من الدولارات. دراسة ظاهرة المد الأحمر في مياه الإسكندرية تواجدت هذه الظاهرة بصورة مستمرة ومنتظمة في مياه الإسكندرية اعتباراً من نهاية الربيع وحتى الخريف وتزايدت من حيث التواجد والامتداد وظهور أنواع جديدة قادرة على إفراز سموم قاتلة، الذي كان سبباً في الموت الجائر والمفاجئ للأسماك وحيوانات قاعيه والذي يشكل في مضمونة خسائر اقتصادية كما حدث أعوام 1987، 1994، 1998، 2000، 2002، 2004-2005. وتم رصد اكئر من عشرة انواع من الطحالب القادرة على افراز السموم خلال الاعوام ما بين 1998-2005. وكانت هناك شواهد مؤكدة لحدوث حالات من التسمم أصابت الأسماك الموجودة في أحواض الأكواريوم الخاصة بالمعهد القومي لعلوم البحار والمصائد بالإسكندرية عام 1994. وجدير بالذكر أن هناك نقصاً واضحاً في توعية المواطنين بخطورة الوضع، وما يطلق علية عبثاً بأمراض الصيف. إن أعراض الإصابة بالتسمم تبدو في مطلعها وبدايتها متشابهة مع تلك المصاحبة لنزلات البرد، ولكن سرعان ما تتفاقم وتسبب صعوبة التنفس والوفاة إذا لم يتم الإسعاف السريع. وأصبح من المؤكد أن ما يقوم به الإنسان من إفساد لبيئته البحرية قد سبب الضرر الكثير له ولغيرة من الكائنات وانه قد حان الوقت لاتخاذ إجراءات حاسمة لتدارك الموقف و محاولة التقليل من الآثار الضارة لتواجد المد الأحمر. وأصبح التحكم في كميات المياه المنصرفة والعمل على معالجتها ومحاولة إعادة استخدامها في ري بعض المحاصيل ضرورة ملحة. إن العمل على تطبيق القوانين التي تنظم إقامة المنتجعات السياحية على امتداد الشاطئ، وما يتبعها من إنشاء حواجز للأمواج، وضرورة توقيع اتفاقات دولية بين الدول المطلة على نفس الساحل للتنسيق فيما بينها قد اصبح قضايا قومية. ان التوعية المستمرة عبر وسائل الإعلام المختلفة لجميع المواطنين والصيادين تعمل مع غيرها على التقليل من الآثار الجانبية للمد الأحمر.
|
Akrum Hamdy [email protected] 01006376836
نشرت فى 11 يناير 2009
بواسطة AkrumHamdy
أ.د/ أكـــرم زيـن العــابديــن محـــمود محمـــد حمــدى - جامعــة المنــيا
[email protected] [01006376836] Minia University, Egypt »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
1,789,210