قال الله تعالى (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) (الجاثـية:6)
الإلهام هو أبلغ دليل على وجود الملهم فلو رأيت طفلاً يسير في طريقه، من منزله إلى مكان يبعد كثيراً عنه، وهو يلتزم جانب الطريق الصحيح، وإذا حاول عبور الطريق التفت يمنه ويسره فلم يخطئ .. عجبت من حسن استعداده، وأثنيت على من أرشده !!.
وإذا وجدت طفلاً قد حسن هندامه، ونُظفت ملابسه، وتناسقت ألوانها، أعجبت بنظافتها، وأثنيت على راعيه !! وإذا رأيت أُماً تُرضع أبنها في حنان، انتشرت الغبطة إذا ما رأيت ما يدعو إلى الغبطة .. أو ألهمك الغضب، إذا ما رأيت ما يثيرك أو يحرك استياءك .. أننا نسر ونحزن وننشرح وننقبض ونثور ونهدأ، وتمتلىء صدورنا بالمشاعر والأحاسيس التي لا سلطان لنا عليها، إنما هي إلهام من الخالق الأعظم .
و إن كافة الكائنات الحية، لتأتي بأعمال لا إرادية لها فيها، إنما تقوم بما نسميه إلهاماً فلابد من وجود الملهم إذن، وفيما يلي بعض عجائب الإلهام في الأحياء .
تناسل الأحياء
ينشأ الطفل ولا تربطه بغيره من أفراد الجنس الآخر أية رابطة، سوى رابطة الطفولة فلا يرى الولد في البنت إلا رفيقة لهوه ولعبه، لا فرق بينها وبين زميلها .. فإذا ما شب عن طوقه، وبدأ يقرب من طور الشباب، يرى فيها شيئاً مخالفا عما كان يراه . لم تعد زميلته في لعبه ولهو . وإنما هي دنيا جميلة، ينجذب إليها ولا سلطان له على ذلك، وإذا به يرى فيها أشياء لم يكن يراها رغم وجودها، أصبحت في نظره الجديد جميلة الطلعة، حسنة المنظر .. يديم النظر إليها، فيرتاح لوجودها، حتى إذا اكتملت رجولته، ونضجت أنوثة الفتاة، إذ بإرادة الله تناديهما، أن حي على الزواج السبيل الوحيد للتناسل للإبقاء على حياة الإنسان .. ويتم كل ذلك خضوعاً لقوة قهرية لا يستطيع الرجل أو المرأة لها قهراً.
و لم ختلف هذه الحالة في الإنسان عن آخر، بل لم تختلف في الإنسان منذ كان يعيش في عصر الحجر بل منذ بدء الخليقة حتى الآن، لا فرق بين رجل ورجل . وأنثى وأنثى، مهما اختلفت الفواصل الاجتماعية التي يعشون فيها .
و للرجل وسائل لا حصر لها لإبداء الرغبة في التزاوج .. وتختلف هذه الوسائل في شبابه عنها في طفولته وفي شيخوخته .. فهو دائم العناية بمظهره وهندامه في شبابه ورجولته، يحاول أن يلفت نظر أنثاه بأناقته، وهي كذلك تتخذ كل ما يمكن من سبل لإظهار محاسنها وفتنته، اجتذاباً للرجل نزولاً على رغبة خالق السموات والأرض .
و قد هيئت الأجهزة التناسلية للذكر والأنثى، تهيئة متلائمة لحفظ النوع، حفظاً تاماً بل أحيطت عملية التزاوج بكل ما يضمن الحياة ويحافظ عليها .
فالحيوان المنوي، الذي يحاط بكمية من سائل يحفظ عليه درجة حرارته ويمنع عنه الهواء، هيئ بذيل يتحرك به الحيوان . والبويضة التي تهبط إلى مكانها في الرحم لملاقاة الحيوان المنوي، ثم تتحد نواة الحيوان بنواة البويضة ثم تنقسم إلى اثنتين، فأربع، فثمان، لتكون الكائن الحي، الذي ينموا ليكون طفلاً يخرج إلى الحياة، فتستقبله عاطفة الأبوة، وحنان الأمومة وتبذل الأم من رعايتها، والأب من كده وعنايته، لا فرق بين إنسان وآخر، ولا بين جيل وجيل، وإذ بالطفل يشب ليتخذ دورته، لا فرق في الحياة، ويعيد الدورة التي مر بها من قبل أبوه لا دخل للإنسان في شيء إلا التسليم بأن هناك قوة علمت فقدرت، وكتبت فألهمت !
قال تعالى:(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس:8)
الحيوانات
لا يختلف معظم الحيوان عن الإنسان في التزاوج، فهو دائب البحث عن أليفه، وإلفات نظره إليه . وهو دائم الرعاية لصغاره بعد التزاوج .. ولعل أدلة الإلهام في تناسل الحيوان أبلغ من أدلتها في الإنسان، لطرافتها وكثرتها مما حوت مجلدات عديدة في دراستها .
فطائر البطريق له أسلوبه في الغزل لا يحيد عنه، فإن أراد التودد إلى أنثاه، اختار حصاة تقدم بها في زهو وحنان، ووضعها تحت قدميها، فإذا التقطتها ،كان ذلك دليل قبولها له زوجاً لها، فيتزوجان . وإذا لم يمس وتراً في فوادها، تركت الحصاة ولم تمسها، وعندئذ يعود فيلتقط حصاه وينصرف بها إلى أخرى ...!!
و مما يؤكد أن هذه العملية التي يقوم بها البطريق عن إدراك، ما رواه " تشايمان آندروز " في أحد كتبه العلمية، من أنه قد حدث ذات يوم أن جاء بطريق عجوز إلى الدكتور "روبرت مورفي " أحد علماء متحف التاريخ الطبيعي في أمريكا، وألقى تحت أقدامه في حديقته حصاة كبيرة، فلما التقطها الدكتور، صار البطريق والعالم صديقين حميمين ولم يغادر البطريق حديقة العالم حياً.
و يعتبر طائر الروبين، من أوضح الأمثلة على ما تتخذه الطيور من خطوات طويلة للزواج . ففي صيف السنة السابقة لبناء العش، يستولي الذكر على قطعة من الأرض كبيرة المساحة في حقل أو غابة، وحين يحط عليها يأخذ في الدفاع عنها، ومهاجمة أي طائر أو حيوان يحاول أن يستولي عليها أو يحط عليها فيها، وحين يأمن وتثبت ملكيته لها، يقبع على شجرة قريبة، ويأخذ في الصياح إعلاناً وإشعاراً لباقي الطيور بامتلاكه الأرض . ويظل على هذا الإعلان ستة أشهر كاملة . وفي منتصف الشتاء ينقلب صياحه إلى تغريد عذب، فتنجذب إليه الأنثى التي تعيش معه إلى الربيع بعدئذ يتعاونان في بناء عشيهما، ثم يتلاقحان وتضع الأنثى البيض الذي يفقس بعد ذلك . فالتزاوج قد سبقته مقدمات منتظمة مقصودة الغرض، دامت ما يقرب من العام . وكافة أفراد هذا النوع من الطير تتفق في دون شذوذ أو تغيير . إن هذه الحيوانات تتلقى كل ذلك في مدرسة واحدة هي مدرسة الإلهام !.
و قد لوحظ أن الطيور المهاجرة، ترجع إلى موطنها في مواعيد تكاد تكون محددة مهما كانت المسافات التي تفصل بين الطير ووطنه ليتم التزاوج والتناسل .
الأسماك
و من أعجب أدلة الإلهام، تلك التي نراها في تنافس بعض أصناف السمك التي تعيش في الأعماق الغائرة، واهتداء ذكور كل صنف إلى أنثاه في هذا الخضم الهائل، ووسط الظلام الدامس !!
و كانت هذه إحدى دراسات العلماء ، التي أتضح منها أن الأسماك التي تعيش في الأعماق السحيقة تنبعث من أجسامها أشعة لامعة قوية، تشابه أشعة النجوم في شدة تألقها، وجمال بريقها . وقد عرفوا أن هذه الأشعة بمثابة إشارات ضوئية ، وتتشابه في نظامها، وطريقة إشعاعها، وذلك في كل من الأنواع الواحدة، فبعضها يحمل صفاة واحدة من بقع مضيئة ممتدة على طول أجسامها، وفي البعض الآخر نجد صفوفاً متراصة فوق بعضها، وفي غيرها تشع أنواع زاهية كأنها الألعاب النارية، وهكذا يعرف كل نوع أليفه ويتم التناسل .!!
و قد أثبت العلماء أن توليد الحيوانات للضوء ظاهرة شائعة في ما لا يقل عن ست وثلاثين رتبة من رتب الحيوان . وهذه الظاهرة واضحة في الحيوان المسمى ( ضوء الليل ) وهو الذي يجعل البحار تتألق بالضوء ليلاً في الصيف، وكذلك في (قلم البحر )، و( نجمة البحر ) .
و يستطيع الإنسان أن يقرأ ويكتب ليلاً على ضوء حيوان (الاسيكيدا ) . وفي أمريكا حشرات تشع ضوءً أبيض براق، جعل الأهالي هناك يتخذون منها مصابيح في الليل، وهذه الأضواء الحيوانية تفوق الأضواء الصناعية . وقد ثبت أن الحيوان لا يبذل في إحداث الضوء أي مجهود يذكر، ولذا يسميه العلماء الضوء البارد، لأنه يحدث دون ارتفاع في الحرارة . .
و دليل الإلهام في ذلك، أن صنف السمك لا يمكن ِأن يرى شكل الضوء الذي على ظهره حتى يمكن أن نقول أنه يبحث عن الضوء المماثل وينجذب إليه ..!! فهو إذاً يذهب إلى ضوء معين ...!! رغم تعدد الأضواء وتباين قوتها ..!! إنه الإلهام ...
قال تعالى:(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (يّـس:36)
النبــات
أول من اكتشف أن الحشرات تنقل حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى، هو القس (كرستيان شبرنجل ) في عام 1793 بألمانيا . وقد اعترف أن هذا العمل من معجزات الله وقضى كثيراً من الوقت يدرس الزهر والحشرات حتى أشغله ذلك عن كنيسته التي يتولى الوعظ فيها فانصرفت عنه رعيته .
و جاء " داروين" بعده بستين سنة يعلن أن النباتات لها وسائل معقدة، بعضها تمنع التزاوج بين أعضاء تذكير وتأنيث نفس الزهرة، وإذا لقحت صناعياً لا تنتج بذوراً . ففي بعض الأزهار نرى عضو التذكير يبلغ نضجه قبل عضو التأنيث، فلا يتم التلقيح إلا إذا جِيء بحبوب اللقاح من نبتة أخرى، قد تم نضج أعضاء التذكير فيها، في موعد يوافق تلقيح عضو التأنيث في تلك . وبعضها تلقح نفسها بنفسها، دون معونة لنقل حبوب اللقاح بالهواء أو الحشرات . وهذه قد توافقت تراكيبها كما في الذرة والقمح وغيرها، فأعضاء التذكير التي تحمل اللقاح، تميل إلى مواضع فتحات أعضاء التأنيث بتقدير وضبط لا يمكن استناده إلى شيء فتنعقد بذلك الحبوب .. فهل هذا مصادفة ؟ .
أما أصناف النوع الأول فنرى أن للأزهار حِيلاً عجيبة، فبعضها ما إن يحس بالحشرة تطأ أعضائها، حتى يهوي عليها وعاء اللقاح، فيضربها ضرباً رقيقا ليغمرها باللقاح، وبعضها يقوم بما يدل على قوة الإلهام في وضوح ودون لبس، فزهرة القطرب لا يتم تلقيحها إلا بفراش الليل ، فلذلك تذبل بالنهار، فإذا غابت الشمس تفتحت أكمامها، وانتشرت رائحتها الجذابة، وبرزت أعضاؤها الداخلية بما عليها من حبوب اللقاح استعداداً لتلقي فراش الليل، فإذا ما أقبل الفجر عادت الزهرات إلى حالتها الأولى .
فإذا كان هذا هو الشأن في الإنسان والحيوان والنبات، فسبحـان من لا شغله شـأن عن شأن ...!!!
قال تعالى: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11)
الأمــومــة
تسمو عاطفة الأمومة على أية عاطفة على وجه الأرض، وقد أودعت كافة الأحياء تلك العاطفة التي تتجلى فيها بوضوح، قدرة الخالق ورحمته عموماً .. فهل إذا نزعت هذه العاطفة من قلوب الأحياء يعمر الكون ؟!.
تتحمل الأم في سبيل هذه العاطفة من الآلام ما لا طاقة عليها . وفي سبيلها تهون كل ما تجده من عذاب دونه من عذاب دونه أي عذاب في الدنيا ... ونحن نلمس في حياتنا كيف أن الأم تفيض سعادة، بقدر ما يفيض عليها حملها من نصب وتعب .... وكلما زاد حملها عليها وزنه، أشرقت العاطفة بنورها بين جنباتها .. ومن عجب أن الإنسان دائما يطلب تأخير كل ما يتصل تحياته من جراحة أو تمريض . فيما عدا الأم .. التي تستعجل ... وضع وليدها، بالرغم مما في هذا الوضع من آلام تتفق كافة الآراء على شدتها . والأمثلة على تضحية الأم بحياتها، في سبيل وليدها بسخاء وجود، كثيرة لا تقع تحت حصر ... وتعلق الأم بطفلها .. وسهرها عليه .. وحبها له لما هو مضرب الأمثال .
و الإلهام في عاطفة الأمومة، يظهر أوضح في الحيوانات، فهي تأتي في سبيل وليدها من العجيب ما حير الباحثين ...فالقطط والكلاب التي تحمل أولادها بأنيابها الحادة المخيفة، وتعدوا بها المسافات الشاسعة، دون أن تخدش جلدها وطيران الخفاش وصغاره معلقة به، وهو ينوء بحملها ولا يضعها إلا حيث الأمان ،و لو اقتضى ذلك منه طيران الليالي بأكملها وحملالكنجارو لوليدها في كيس بطنها، والقفز به من مناطق الخطر، كل هذه أمثلة توضح إلهاما من الله، سبب عاطفة، هي أرق واخلص عاطفة من كائن لكائن ..!!
و من أروع الأمثلة على الإلهام، ما نراه في حيوانالاكسيلوكوب الذي يعيش منفرداً في فصل الربيع، ومتى باض مات فالأمهات لا ترى صغارها ولا تعيش لتساعدها في غذائها لمدة سنة كاملة، لذلك نرى الأم تعمد إلى قطعة من الخشب فتحفر فيها حفرة مستطيلة ثم تجلب طلع الأزهار وبعض الأوراق السكرية، وتحشوا بها ذلك السرداب، ، فمتى فقست البيضة وخرجت الدودة كفاها الطعام المدخر سنة . فانظر إلى ذلك التدبير الحكيم، وتلك الرحمة من حيوان على ولده، الذي سيرى العالم بعد فمن أودع فيه تلك الرحمة .. ومن ألهمه ذلك الحنان !!
و حشرة الزنبور الحفار تحفر أنثاه نفقاً في الأرض تضع فيه بيضهاً، وبعد أن تحفر النفق لا تضع فيه البيض مباشرة . بل تبحث عن دودة تلسعها لسعة تخدرها ولا تميتها ثم تسحبها إلى داخل النفق، وتضع عليها البيض وتسد النفق . وتموت الأنثى عن بيض قد توافر لدوده عنده عند فقسه ما يكفيه من القوت .
و لعل من أعجب ما أكتشفه العلم، أن كل إناث الطير من أي نوع كانت تضع من البيض عادة نفس العدد الذي تضعه في كل بطن، فبعضها يضع من ثلاث بيضات إلى خمس، وبعضها من خمس إلى ست وهكذا . غير أنه قد لوحظ أنه إذا رفع من تحتها بعض بيضها وضعت بدلاً منه لتساويه في العدد وهذه القدرة على إنتاج البيض تكاد تكون عجيبة لا يصدقها العقل !!.....
وقد ذكرت مجلة " ذي اوك " أن بعض علماء الطير عمدوا إلى طائر النقار، فأخذوا من وكره بيضه ما عدا واحدة، وظلوا يكرر أخذ البيض ليروا إلى متى يظل يضع من البيض بدل ما سرق، فوضع الطائر الذي حيره الأمر 71 بيضة في 73 يوماً .
و الجهد الي يعانيه الطير في جلب الطعام لصغاره وتغذيتهم لأمرٌ يعلمه كل من رأى الطير وصغارها .
و يقول الدكتور " أرثر ألن " من جامعة "كورنل " أنه تحرى الدقة في عدد رحلات أنثى عصفور العصو، تطلب الطعام لتغذية صغرها، فوجد أطعمتها 1217 مرة، ما بين الفجر ومغرب الشمس .
أما كيف تميز أم أفراخ الطير أياً من صغارها ينبغي أن يتغذى، فهو من دلائل ما أودعه الله من أسرار وإلهام . فإن النظام الدقيق الذي ركب في حلق كل فرخ . يقضي بأنه إذا أمتلأ أبطأ في ابتلاع ما يزق به، فما على الأم إلا أن تزق الذي يفتح لها منقارها، ثم تراقب العاقبة بدقة، فإذا رأت الطعام لا ينزلق في الحلقوم، امتصته ثانية وزقت به الذي يليه . أي أن الذي يبتلع الطعام من فوره، هو أفرغها من الطعام جوفاً ..!!
و حزن الأم على فقد ولدها إذا كان مضرب الأمثال في الإنسان، فإن من الحيوان، يأتي من ضرب الحزن والألم، في هذا الحال، أكثر مما يشاهد في الإنسان .
فحزن الناقة على صغيرها، أو الكلبة على جروها .. لما يتوارد في الأحاديث، على سبيل العظمة والعبرة، وقد ضرب الخيل أروع الأمثلة في هذا الشأن،، ومن يشاهد حياتها يعرف أن الفرس إذا مات صغيرها نهنهت بصوت مسموع يعرفه القاصي والداني، وكثيراً ما يفيض الحزن بالفرس فتأتي من الأعمال ما لا يصدقه العقل .. فهذه الفرس التي صاحت وبكت حتى نزلت من عينها الدموع لموت صغيرها وفاض بها الحزن حتى أنها توحشت ولم يستطع انسان أن يقترب من جسد صغيرها، وما إن هدأت وحمل جسد الصغير حتى سارت خلفه . ولما دفن لازمت قبره، وانقطعت عن الأكل والشرب، ولم تفد فيها أية محاولة، حتى قادها عذابها وحزنها إلى الموت .. تتكرر حالاتها بين الحين والآخر في مختلف أنحاء العالم .
مـن عجـائـب الإلـهــام
رضـاع الطفـل
تنمو الغدد التي تصنع اللبن في مدة الحمل ويدفعها إلى هذا النمو مواد يفرزها المبيضان، وفي نهاية الحمل وبدء الوضع، تتلقى هذه الغدد من الغدة النخامية القائمة في قاعدة الجمجمة، امراً بالبدء في صنع اللبن .. وتعتبر عملية الرضاع أُولى عمليات الإلهام للكائن الحي، فإنها عملية شاقة، تتم للطفل عن طريق الإلهام فهي لذلك تشهد بقدرة الخالق، إذ أنها أنها تقضي انقباضات متوالية في عضلات وجه الرضيع، ولسانه وعنقه، وحركات متلاحقة في فكه الأسفل وتنفساً من انفه، ولا يمكن أن يتم ذلك مصادفة من أول رضعة لرضيع، إلى آخر رضعة لفطيم، بل قرر العلماء أكثر من ذلك، أنه لا يمكن للرجل أن يقوم بها بالنجاح الذي يقوم به الطفل الذي لا يتجاوز عمره ساعات، بل دقائق، ولم يحدث أن أخطأ طفل واحد من ملايين الأطفال الذين ولدوا من يوم أن قامت الدنيا، إلى الآن وإلى ما شاء الله في طريقة الرضاع .
تزاوج ثعبان السمك والسلمون
ما زال علماء الأحياء في حيرة ودهشة من قصة ثعبان السمك ورحلاته العجيبة، لا يجدون لها تعليلاً إذ أنها لا تنضوي إلا تحت أدلة الإلهام التي تثبت وجود الخالق .
يعيش ثعبان السمك في الأنهار عندما يكتمل نموه بأن يبلغ العاشرة من عمره، يهاجر من البرك والأنهار في مختلف أنحاء العالم، فتلك التي تعيش في أنهار أوربا، تسبح حتى المحيط الأطلسي، وتلك التي تعيش في النيل وأنهار أفريقيا، تسبح إلى البحر المتوسط ثم تخترق مضيق جبل طارق إلى المحيط الأطلسي، ثم تستأنف جميعاً رحلة تقطع فيها آلاف الأميال قاصدة إلى الأعماق السحيقة في جزر الهند الغربية، جنوب برمودا، حيث تتزاوج وتضع البيض، فتكون مخلوقات صلبة شفافة، كأنها خيوط صغيرة لها عيون بارزة، وتتهيأ للعودة إلى مواطن آبائها، في رحلة تستغرق أكثر من ثلاثة سنوات في بعض الجهات لتصل إلى مصاب الأنهار التي عاش فيها آباؤها، سواء أكان أنهاراً في أوربا، أم ترعاً في أواسط أفريقيا، أم بحيرات في آسيا . ولم يحدث قط أن صيد ثعبان ماء أمريكي في المياه الأوربية، او ثعبان أوربي في المياه الأمريكية إطلاقا ..!!
و سمك السالمون الذي يعيش في البحار، حين يبلغ طور النضج الجنسي، وتكون له القدرة على التناسل يرحل إلى الأنهار ذات المياه العذبة ، لتضع الإناث البيض، وتصب الذكور عليه حيواناتها المنوية .. وعندما تخرج الأجنة تمضي فترة من حياتها في ماء النهر حوالي سنتين، ترجع بعدها إلى البحر ... ومتى أصبحت قادرة على التناسل، تعود إلى النهر الذي فقست فيه، ولا يخطىء السالمون النهر الذي فقس فيه مهما تقاربت مصاب الأنهار بعضها من بعض !!.
اهتداء الحيوان إلى موطنه
كشف العلماء بعض أسباب هجرة الحيوان ظناً . غير أنهم وقفوا حيارى عند سر اهتداء الحيوان إلى موطنه، وقدموا بعض الفروض العلمية المختلفة اتفقت جميعها على أنها إلهام من الله .
و يقول العلامة " منروفكسي " أستاذ علم الحيوان في جامعة برمنجهام في معرض الاستدلال على قوة الإلهام، أن رجالاً صحب كلابه الخمسة في رحلة صيد، في منطقة لم يزرها من قبل، لا هو ولا كلابه، وأثناء الرحلة وفي منتصف النار، هبت عاصفة شديدة وهطل الثلج وفُصل الرجل عن كلابه، واضطر إلى أن يرجع إلى منزله وحيداً وهو يظن أن الكلاب إن لم تهلك فهي بلا شك لن تهتدي إلى المنزل، ولكن من العجيب أن أربعة كلاب من الخمسة رجعت إلى المنزل بعد أسبوع قاطعة هذه المسافة الطويلة !!
لا نستطيع أن نقول أن للخبرة السابقة دخلاً في رجوعها فهي لم تقطع هذا الطريق من قبل حتى يمكن القول أنها حفظت علامات استدلت بها في عودتها كما أنه لا يمكن القول أنها رجعت مسترشدة بحاسة شمها القوية، فالمسافة شاسعة والمدة التي تقضيها طويلة والثلج المنهمر أزال كل أثر لأية رائحة .. إنها حاسة لم يهتد بعد إلى كشفها، إنها إحدى الشواهد الناطقة بعظمة الخالق !!
إن هجرة الحيوان لاسيما تلك التي تتم أول مرة فتهاجر الأبناء إلى حيث سبق أن هاجرت الآباء .. دون دليل أو مرشد .. ثم عودتها .. لمن الأسرار ولكنها تشير إلى وجود الواحد القهار ...
تكوين ثمرة البلح
يمتص جذور النخلة العناصر الغذائية من التربة بالشعيرات الجذرية، وتصعد العصارة بالضغط الاسموزي إلى أعلى، ويتغذى جذع النخلة بما أمتص من هذه العصارة ،أما العصارة فتصعد إلى حيث تغذي الأجزاء العلوية، ويأخذ كل جزء غذاءه ،و ترتفع العصارة الدقيقة، لتكون الثمرة فقمع البلحة هو مصفاتها، التي تسمح بمرور المواد الغذائية الذائبة تماماً إلى الداخل فقط . وهي التي تكون الحلو من البلحة وغير الحلو من النواة .. والتي منها ينشأ جسم البلحة الطري وهيكل النواة الصلب والطري غلاف رقيق شفاف يكاد لا يرى !!
ولم يحدث إطلاقا أن أخطأت نخلة فكونت نواة البلحة في الخارج والبلحة من الداخل . أو كونت البلحة الصلبة، والنواة طرية، ولا يمكن أن يعزى ذلك غلى ميكانيكية النخلة، أو طبيعتها .. فهذا شيء لا يمكن إلا أن يقال إنه إلهام ..
تقليب البيض للتفريخ
خطر لعلم أمريكي، أن يستفرخ البيض دون حضانة الدجاج ، بأن يضع البيض في نفس الحرارة التي ينالها البيض من الدجاجة الحاضنة له، فلما جُمع البيض ووضع في جهاز التفريخ نصحه فلاح أن يقلب البيض إذ أنه رأى الدجاجة تفعل ذلك ... ! فسخر منه العالم، وأفهمه أن الدجاجة إنما تقلب البيض لتعطي الجزء الأسفل منه، حرارة جسمها الذي حرمته .. أما هو فقد أحاط البيض بجهاز يشع حرارة ثابتة لكل أجزاء البيضة .. واستمر العالم في عمله حتى جاء دور الفقس وفات ميعاده ولم تفقس بيضة واحدة !!و أعاد التجربة وقد استمع إلى نصيحة الفلاح، أو بالأحرى إلى تقليد الدجاجة، فصار يقلب البيض حتى إذا واتى ميعاد الفقس خرجت الفراريج ..؟!!
و آخر تعليل علمي لتقليب البيض، أن الرخ حينما يخلق في البيضة، ترسب المواد الغذائية في الجزء الأسفل من جسمه، إذا بقي بدون تحريك ،فتتمزق أوعيته .. ولذل فإن الدجاجة لا تقلب البيض في اليوم الأول والأخير .. ! أفليس في هذا ما يدل على أن الدجاجة عند الحضانة بإلهام عجز عن معرفته الإنسان بالمحاكمة، بالرغم من كثرة ما يعلمه .. وأننا إذا سألناها كيف أنها فعلت ذلك لتقول : علمني الخبير العليم .
حماية بيض الحشرات من غوائل الجو
من قديم الزمان تصنع الحشرات لبيضها ما يشبه الزجاجة المفرغة، التي تحفظ فيها السوائل على درجتها من الحرارة، وتنتفع بها في حماية بيضها من عوادي الجو المتقلب، فهي تحيط البيض بكتلة هشة خفيفة من الفقاعات، وما تحوي هذه الفقاعات من هواء يقوم مقام الطبقة المفرغة حول الزجاج، فيقل تسرب الحرارة و البرودة إلى داخلها .. فمهما اشتدت حرارة الجو أو قرص البرد، نرى البيض داخل هذه الغلالة على درجة ثابتة وبمنجاة من تقلب الجو.
حفظ اللحم حياً
تستطيع طوائف من العناكب والزنابير أن تحفظ اللحم أسابيع فلا يفسد، دون الاستعانة بما تفتق به حيل الإنسان من تبريد أو ثلج . بل فهي لما كانت تحتاج إلى اللحم طرياً في طعامها ولا تضمن الظفر به كل يوم، لذلك تحفظ صيدها، من الحشرات التي تزيد على حاجتها، بطريقة لم يستطع الإنسان أن يصل إليها، فيه تفرز في أبدانها مادة تخدرها دون أن تميتها، فيبقى غذاؤها دائما طرياً طازجاً بل حياً لحين استهلاك، ولم يتمكن العلم حتى الآن من تخدير ذبيحة الإنسان، والإبقاء عليها بحيـاة كاملة دون موت لحين استهلاكهـا ..!!!
تكييف حرارة وهواء خلية النحل
لما كان يلزم ليرقات نحل العسل حفظ الهواء على درجة ثابتة من الحرارة والتهوية التامة، لتظفر بأسباب الحياة والنمو في الخلية فإن هناك طائفة من النحل، لا عمل لها في الخلية إلا إجهاد عضلاتها لتولد حرارة في أبدانها ، لتشع في أرجاء الخلية، بينما هناك طائفة أخرى تجثم على الأرض وتحرك أجنحتها بسرعة معينة محكمة لتوليد تياراً من الهواء يكفي الخلية فتكون بذلك مكيفة الجو هواء وحرارة !!
أبقار النمل وزراعتها
يقول العلامة "رويال ديكنسون " أحد علماء التاريخ الطبيعي، في كتابه شخصية الحشرات، لقد ظللت أدرس مدينة النمل حوالي عشرين عاماً في بقاع مختلفة من العالم فوجدت أن كل شيء يحدث في هذه المدينة بدقة بالغة، وتعاون عجيب، ونظام لا يمكن أن نراه في مدن البشر، علاوة على الهدوء والسكون .. لقد راقبته وهو يرعى أبقاره، وما هذه الأبقار إلا خنافس صغيرة، رباها النمل في جوف الأرض زمنا طويلاً حتى فقدت في الظلام بصرها .
و لا يدري أحد في أي عصر بدأ النمل حرفة الرعي وتسخير الأبقار، بل كل ما نعلمه أن الإنسان، إن كان قد سخر نحو من عشرين حيوانا ً لمنافعه فإن النمل قد سخر مئات الأجناس من حيوانات أدنى منه جنساً . فإن بق النبات، حشرة من الحشرات التي يعسر استئصالها، وما ذلك إلا لأن أجناساً كثير من النمل ترعى الحشرات التي يعسر استئصالها، وما ذلك إلا أجناساً كثيرة من النمل ترعى الحشرات.... ففي الربيع الباكر، يرسل النمل الرسل ليجمع له بيض هذا البق، فإذا جيء به وضع في المستعمرة موضع البيض، ويعنى به حتى يفقس وتخرج صغار، ومتى كبرت تدر سائلاً حلوا يقوم على حلبه جماعة من النمل، لا عمل لها إلا حلب هذه الحشرات بمسها بقرونها وتنتج هذه الحشرات 48 قطرة من العسل كل يوم، أو بمقدار يزيد مائة ضعف عما تنتجه البقرة بالنسبة إلى حجم الحشرات من حجم البقرة .
و يزرع النمل زراعات خاصة به، ويقول العالم المذكور أن النمل زرع مساحة بلغت خمسة عشرة متراً من الأرض، وأنه وجد جماعة من النمل تقوم بحرثها على أحسن ما يقضي به علم الزراعة، فبعضها زرع الأرز، وجماعة أزالت الأعشاب، وغيرها قامت لحراسة الزراعة من الديدان .
و لما بلغت عيدان الأرز تمام نموها، كان يرى صفا من شغالة النمل لا ينقطع، يتجه إلى العيدان، فيتسلقها إلى حب الأرز، فتنزع كل شغالة من النمل حبة، وتنزل بها سريعة إلى مخازن تحت الأرض .. وقد طلى العالم أفراد النمل بالألوان، فوجد أن الفريق الواحد من النمل يذهب دائما إلى العود الواحد، حتى يفرغ ما عليه من الأرز .
و لما فرغ من الحصاد، هطل المطر أياماً وما أن أنقطع حتى أسرع إلى مزرعة النمل ليتعرف أحواله فوجد البيوت تحت الأرض مزدحمة بالعمل والعمال والأعمال ووجد النمل تخرج من بيتها للشمس، وتضع حبتها لتجف من ماء المطر . وما إن ولى الظهر حتى جف الأرز وعاد الشغالة به إلى مخازن تحت الأرض ..!!!
قال تعالى : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الأنعام:102)
المصدر : كتاب " الله والعلم الحديث " بقلم عبد الرزاق نوفل ط: دارالناشر العربي الطبعة الثالثة