تطرح سلامة الغذاء نفسها كواحدة من المواضيع الطبية الساخنة، التي تهم كل الناس بلا استثناء. وبعد الحديث السابق عن حالات العدوى الميكروبية ببكتيريا إي كولاي نتيجة لتناول أوراق السبانخ والخس في الولايات المتحدة من إنتاج مزارع كاليفورنيا، عادت مجلة الأمراض المعدية العلمية الصادرة في الولايات المتحدة ضمن عدد نوفمبر القادم إلى إثارة موضوعين جديدين في هذا الشأن: الأول، وهو الأهم، للباحثين من الولايات المتحدة حول التداعيات والمخاطر الصحية على الإنسان نتيجة استخدام المضادات الحيوية في مزارع تربية الدواجن كأحد وسائل التسريع في تسمينها. والثاني حول ما قام به الباحثون من المؤسسة القومية للصحة العامة في فنلندا عند تتبع أسباب الحالة الوبائية التي تعرض الناس لها، وخاصة الأطفال منهم، في إحدى المدن الفنلندية نتيجة التناول النيئ للجزر من إنتاج إحدى المزارع فيها. وأثبتت التحاليل وجود بكتيريا يرسينيا زودوتيبركلوسس في عينات البراز لأولئك الأطفال المصابين، وأيضاً وجود نفس البكتيريا في تلك المزرعة. وتعتبر الحالة الوبائية هذه هي الأولى التي يتمكن الباحثون من تتبعها ونجاح جهود التحريات عن مصدرها في فنلندا. وتبين أن السبب يعود لضعف تطبيق ضوابط التخزين والحفظ لدى المزارعين، ما تسبب في انتقال هذه البكتيريا من براز الحيوانات إلى منتجات الجزر، ومن ثم تلويثها.
* مضادات حيوية للتسمين
* يقول الباحثون من مؤسسة مارشفيلد للأبحاث الإكلينيكية في ويسكنسن بالولايات المتحدة في نتائج مبدئية لدراساتهم بأن ثمة مؤشرات قوية على أن التناول أو الملامسة للحوم الدواجن، التي تمت تربيتها بطريقة تغذيتها بالمضادات الحيوية، يحمل مخاطر صحية على الإنسان. وأهم المخاطر تلك هو نشوء حالة من الإصابة بأنواع البكتيريا المقاومة لمفعول وتأثير المضادات الحيوية العلاجية المعتادة.
لكن الباحثين، لأسباب مفهومة وغير مفهومة، قالوا بأن النتائج مبدئية ولا تفرض في الوقت الحالي النصح بعد تناول لحوم الدواجن تلك. لكنهم حرصوا على التأكيد بأن على السلطات الفيدرالية الأخذ بمحمل الجد والأهمية نتائج دراستهم التي توصلوا إليها.
والمضاد الحيوي، مثار الجدال، هو فيرجينيمايسن Virginiamycin, ويُستخدم في مزارع تربية الدواجن بالولايات المتحدة لتسمينها وتنشيط عمليات النمو فيها. بينما تمنع دول الاتحاد الأوروبي ذلك الاستخدام في مزارع تربية الدواجن وغيرها.
* البكتيريا الفائقة
* وكانت دراسات سابقة قد أشارت إلى أن هذا المضاد الحيوي يعمل على نمو ميكروبات في الدجاج من نوعيات نادرة. تتميز الميكروبات تلك بقدرات عالية وشرسة على مقاومة المضادات الحيوية. أي أسوة بسوء استخدام المضادات الحيوية لدى الإنسان، حيث أثبتت الدراسات أن أحد أهم عوامل ظهور البكتيريا الفائقة (السوبر) القوية والشرسة هو الإكثار والعشوائية في وصف المضادات الحيوية للناس، ما نجم عنه نشوء مناعة تدريجية لدى البكتيريا وأصبحت بالتالي قادرة على التغلب على تأثيرات المضادات الحيوية المتوفرة اليوم.
والمشكلة أن هذه البكتيريا فوق قدراتها على مقاومة المضادات الحيوية فإنها قادرة بسهولة على التسبب في عدوى كثير من المرضى الذين تنخفض لديهم قدرات جهاز مناعة الجسم، كمرضى السكري وكبار السن والذين يتناولون أدوية الكورتزون لعلاج الربو أو التهابات المفاصل أو العين أو غيرها، وكذلك الحال مع المرضى الذين سبقت لهم زراعة أحد الأعضاء.
والذي يحصل حين تناول لحوم الدجاج الذي تم تسمينه بالمضادات الحيوية هو أن الإنسان أيضاً يتناول جينات (أجزاء من الحمض النووي لنواة خلايا البكتيريا) تحمل الصفات الوراثية لمقاومة المضادات الحيوية. ثم حينما تصل الجينات هذه إلى أمعاء الإنسان فإن البكتيريا التي في أمعائه تكتسب الشفرات التي تختزنها هذه الجينات. أي لكأنها رسائل تحمل معلومات عن كيفية مقاومة المضادات الحيوية، تقرأها وتتعلم الدرس منها بكل ذكاء تلك البكتيريا الموجودة في الأمعاء وتصبح قادرة على مقاومة المضادات الحيوية. ومن ثم يصعب معالجة الإنسان منها.
* دراسة ومقارنة
* ما حاول الباحثون الإجابة عنه بدقة هو: هل تنتقل هذه البكتيريا إلى الإنسان حينما يتناول الدواجن التي تم تسمينها بهذه المضادات الحيوية، وبالتالي تتسبب في ظهور أمراض معدية لديه يصعب علاجها بأحد المضادات الحيوية الشبيهة التركيب بما يتناوله الدجاج من مضادات حيوية، أم لا؟
والمعروف أن المضاد الحيوي كوينيبريستين، دالفوبريستين quinupristin-dalfopristin أو المسمى تجارياً سينرسيد Synercid يُستخدم في معالجة ميكروبات إنتيروكوكيس فيسيمEnterococcus faecium الموجودة في الأمعاء والمتسببة للبعض بحالة مرضية، خاصة بين مرضى المستشفيات ممن هم ضعيفو المناعة.
ولذا قام الباحثون بالبحث عن بكتيريا إنتروكوكس في عينات براز 105 مرضى تم إدخالهم إلى المستشفى حديثاً، و65 شخصا من أصحاء النباتيين الذين لا يتناولون لحوم الدواجن. كما نظروا في وجود مؤشرات على قدرة بكتريا إنتيروكوكس على مقاومة المضادات الحيوية لدى 77 من الدواجن التي تتغذى على المضاد الحيوي، ومقارنتها بعينات من نفس البكتيريا في 23 من الدواجن التي لم تتغذ على المضادات الحيوية.
أي أنهم نظروا في وجود البكتيريا لدى المرضى الذين يتناولون الدجاج والناس الذين لا يتناولون الدجاج، ونظروا أيضاً في الدواجن التي تتناول المضاد الحيوي والتي لا تتناول المضاد الحيوي في تغذيتها. وقال الباحثون في نتائجهم انهم:
ـ لم يجدوا أي مؤشرات على أن البكتيريا في أمعاء الإنسان، الذي يتناول تلك الدواجن، قد كونت قدرات سوبر في مقاومة المضاد الحيوي من نوع سينرسيد.
ـ لكنهم وجدوا أن الكثير من البكتيريا في أمعاء الدواجن، التي تغذت على المضادات الحيوية، قد كونت قدرات مناعة سوبر ضد المضاد الحيوي ذلك.
ـ ووجدوا أيضاً أن مرضى المستشفيات الذين يتناولون الدواجن تلك توجد لديهم سمات وعلامات جينية لمقاومة مفعول مضاد سينرسيد الحيوي لدى 38% منهم، الأمر الذين يدل على أن لديهم قابلية واستعداد في تكوين قدرات السوبر. بينما لا توجد تلك السمات في جينات النباتيين الذين لا يتناولون اللحوم من الدواجن.
ـ من كانوا يتناولون الدجاج بكثرة أو يلامسونها كانت السمات الجينية لمقاومة المضاد الحيوي أعلى.
وبجمع النتائج هذه، فإن الموضوع لم يصل إلى حد الحالة المرضية للإنسان، لكن الأمر من الناحية النظرية خطا خطوات واسعة نحو ذلك ما لم يتم تدارك الأمر أو إثبات أن تلك السمات الجينية لن تُؤدي مطلقاً إلى مشاكل صحية.
بمعنى أننا أمام مشكلة بدأت عناصرها بالتشكل، لكن لم تكتمل بعد. والمطلوب إما وقفها عند هذا الحد أو إثبات أنها لن تتطور، كي يطمئن الجميع أن سلوك تغذية الدواجن بالمضادات الحيوية هو سلوك آمن على صحة الإنسان والمجتمعات. ولذا فإن باب النقاش في هذا الأمر، بعد هذه الدراسة، أصبح مفتوحاً على مصراعيه.