هل تتخيل أن كبار فناني وكتاب الكوميديا في مصر من أمثال الأساتذة أحمد رجب رجب ومحمود السعدني ونجيب الريحاني وفؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي ، وإسماعيل ياسين ، وعادل إمام ، وسمير غانم ، ومحمد صبحي ، وهنيدي ، وعلاء ومصطفى حسين ، وعمرو فهمي وغيرهم ، يعتبروا من أهم العوامل التي تساعد على تقوية الجهاز المناعي ، والمحافظة عليه ، في مواجهة ما يمكن أن يحدث له من تأثير الانفعالات والتوتر والتلوث ، وغيرها من العوامل التي تؤثر بالسلب على جهاز المناعة في الإنسان ؟!
وتفاصيل الخبر تبدأ من خلال الدراسات والأبحاث التي خرجت في خلال السنوات الأخيرة ، والتي تحاول إيجاد العلاقة بين الجهاز العصبي المركزي وجهاز المناعة ، ودور الهرمونات والموصلات العصبية والمناعية كرسول بين الجهازين ، مما جعل العلماء والباحثين في هذا المجال يطلقون على هذا الفرع من الطب Psychoneuroimmunology أو اختصاراً PNI .
ولعل أجدادنا منذ قديم الأزل قد توصلوا إلى هذا المفهوم الذي يربط بين التوتر والانفعال والعصبية والاكتئاب من جهة ، وبين المرض الجسماني وضعف المناعة الذي يظهر على شكل أعراض مرضية حسية من جهة أخرى ، فكانوا دائماً ما يقولون جملة شهيرة توارثناها على مر العصور : " ده ما عندوش غير شوية فِكْر شاغلينه " ، إلا أنهم بالطبع لم يصلوا إلى معرفة كيف يترجم هذا الفكر ويتحول إلى أعراض مرضية تؤثر على كل أعضاء الجسم .
والحقيقة التي توصل إليها العلماء من خلال أحدث الأبحاث العلمية تؤكد أن هناك اتصال مباشر بين المخ والجهاز العصبي المركزي ، وجهاز المناعة الذي يعمل بأمر القيادة العليا الموجودة في المخ ، وذلك من خلال خلايا مستقبلات ، وهرمونات ومواد كيميائية ، وموصلات عصبية ومناعية ، وأن كل ما يؤثر بالسلب على الجهاز العصبي المركزي والحالة النفسية للإنسان ، يؤثر أيضاً بالسلب على جهاز المناعة لديه ، ويسبب الأنواع المختلفة من الأمراض بدءًا من تكرار حدوث العدوى بالإنفلونزا ، وحتى الإصابة بالأورام السرطانية وعدم الشفاء منها ، فلم تعد هناك خطوط فاصلة بين أجهزة الجسم المختلفة ، وأروع تشبيه لذلك هو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم " إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى " ، أعتقد أننا جميعاً نردد المقولة الشهيرة التي تقول " العقل السليم في الجسم السليم " ، ولو أنصفوا لأضافوا إليها شطراً آخر يقول : " والجسم السليم من عقل سليم " ، وهناك الكثير من المؤثرات التي تواجهنا كل يوم في حياتنا اليومية والتي تسبب توترنا وانفعالنا ، وربما اكتئابنا وحزننا ، مما يؤثر بالسلب على جهازنا المناعي ، مثل التوتر في العمل ، والزحام ، والضوضاء ، وضيق ذات اليد ، والانشغال بالمستقبل ، والخلافات الزوجية ، والعزلة أو الوحدة ، وجحود الأبناء ، وما يحدث حولنا من ظلم وقهر لا نستطيع أن نمنعه أو نتدخل فيه ، وكثير من هذه المؤثرات لا يستطيع الإنسان أن يمنع حدوثه ، إلا أنه ينبغي أن يتعلم كيف يواجهه ويتعامل معه بأقل قدر من الأضرار من خلال ما يسمى في العلم بالتكيف الناضج مع الانفعال ، Mature Coping Mechanism والذي يسمى في الدين بالرضا والإيمان ، فليس كاف أن تكظم غيظك ويظل دمك محروقاً ، ولكننا نجد الوصفة السحرية المتكاملة " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " ، وعلى الرغم مما يمكن أن يصيب الإنسان من مصائب وابتلاءات مختلفة ، سبق الإشارة والتنبيه إليها من قبل المولى عز وجل في قوله " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون " ماذا يحدث لهؤلاء الصابرين الذين يتعاملون مع انفعالاتهم بنضوج وروعة الإيمان " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المفلحون " ، نعم لا بد أن تأخذ المطمئنات في هؤلاء الناس اليد العليا في أجسامهم ، بدلاً من هرمونات الانفعالات المدمرة التي تؤثر على المناعة ، وعلى كل أعضاء الجسم ،وإلى جانب الإيمان الذي يعد خط الدفاع الأول للحفاظ على الجهاز العصبي والمناعي ، وبالتالي صحة وسلامة العقل والجسد ، هناك الكثير من الأبحاث التي حاولت إيجاد وسيلة للتعامل مع مثل هذه الانفعالات التي تفرض على الإنسان فرضا في بعض الأحيان ، والضحك والفرفشة من ضمن ما يعتبر تطعيماً ضد الانفعالات والتوتر ، وما تحدثه من تأثير سلبي ومدمر على جهاز المناعة وعلى الجسم بصفة عامة ، حتى أن هناك الآن نوعاً من العلاج يسمى بالعلاج بالمرح Humor Therapy ، فقد أثبتت أحدث الأبحاث العلمية أن الضحك والمرح يقلل من إفراز هرمونات الكوتيزول والأدرينالين ، وغيرها من هرمونات الانفعالات الهدامة ، والتي لها تأثير سلبي على جهاز المناعة ، و ينشط إفراز الخلايا الليمفاوية التائية المساعدة Th ، التي تعتبر مايسترو الجهاز المناعي ، والتي يهاجمها فيروس الإيدز ويقضي عليها في حالة العدوى به ، كما أن الضحك ينشط نوع من الخلايا الهامة في جهاز المناعة تسمى الخلايا القاتلة الطبيعية NK Cells ، وهي الخلايا المسئولة عن التصدي للفيروسات والخلايا السرطانية التي تنقسم انقساماً عشوائياً غير طبيعي وتقضي عليها في مهدها ، وبالتالي فهو في غاية الأهمية للتصدي للأورام السرطانية والقضاء عليها وعلاجها ، وقد خرج هذا البحث من أكثر من جامعة محترمة منها جامعة هارفارد الأمريكية ، وجامعة لوماليندا ، وغيرهما ،ولأن اللعاب والأغشية المخاطية في الفم والأنف ، تعد خط الدفاع الأول الذي يخترقه أي ميكروب قبل دخوله إلى الجهاز التنفسي ، فقد أجريت عدة تجارب في كلية الطب بجامعة أوهايو بالولايات المتحدة ، لمعرفة تأثير الانفعالات والتوتر على الأجسام المضادة الموجودة في اللعاب والأغشية المخاطية ، في مقابل تأثير الضحك والمرح على هذه القذائف المدفعية ، التي تقف متأهبة للدفاع عن بوابة الجسم من خلال الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي ، ومن خلال أبحاث أخرى أجريت في جامعات " ويسترن نيوإنجلاند " وجامعة " ووترلو " في أونتاريو ، تبين أن الانفعالات والتوتر والاكتئاب ، تقلل من مستوى الأجسام المضادة IgA الموجودة في اللعاب ، وأن الضحك والفرفشة بعد مشاهدة شرائط من الأفلام والمسرحيات الكوميدية ، قد رفع من مستوى هذه الأجسام المضادة بصورة واضحة ، وذلك من خلال التحاليل التي أجريت لهم .
وربما يتساءل البعض :كيف يمكن أن نواجه التوتر العصبي المستمر في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا اليومية المليئة بالهموم والمشاكل ؟ ومن أين نأتي بالضحك في زمن عز فيه الضحك والابتسام والفرح ؟ والحقيقة أن هذه الأسئلة منطقية جداً ومشروعة وينبغي الإجابة عليها .
وفي البداية ينبغي أن نعلم أن الخالق عز وجل قد أخبرنا سلفاً بأننا سوف نواجه المتاعب والمصاعب في هذه الدنيا حين قال " لقد خلقنا الإنسان في كبد " ، وأخبرنا أيضاً أن بعض هذه المصاعب التي نواجهها إنما هي نوع من الاختبار أو الفتنة كما قال في كتابه العزيز " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " ، وهذه الابتلاءات ينبغي أن نصبر عليها لنأخذ أجر الصابرين " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " ، ومن هذا المنطلق الإيماني الذي ينفي أن كل ما نحب هو الخير ، وكل ما نكره هو الشر ، ينبغي أن نعي جيداً " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ، ولنبدأ ببعض الفوائد التي ينبغي أن ندركها للضحك ، ففي دراسة في جامعة شيكاجو ، انتهت الدراسة إلى أن الضحك والمرح يمكن أن يزيد عمر الإنسان 8 سنوات عن الإنسان العبوس والمكتئب ، وفي جامعة ستانفورد الأمريكية أظهرت إحدى الدراسات أن ضحكة واحدة من القلب مثل تلك التي تجعلك تستلقي على قفاك من الضحك ، تعادل الفائدة التي تنالها أجهزة جسمك المختلفة ـ بما فيها الجهاز المناعي ـ من ممارسة 10 دقائق على ماكينة الجري .
ولعلنا نندهش إذا علمنا أن الطفل الطبيعي في مرحلة ما قبل المدرسة يضحك أو يبتسم حوالي 400 مرة يومياً ، وينخفض هذا الرقم ليصل إلى 15 مرة يومياً ما بين ضحكة وابتسامة عندما يصل إلى سن 35 في الإنسان الطبيعي .
والضحك ينشط إفراز " الإندورفينات " أو الأفيونات الطبيعية التي تعد بمثابة مطمئنات طبيعية تحافظ على المزاج والسلوك الطبيعي ، وأيضاً تقوى جهاز المناعة ، بنفس القدر الذي يفرزه جسم الإنسان بعد ممارسة الرياضة بصفة منتظمة ، ومع كل ضحكة من القلب يتم حرق 3.5 سعر حراري ، مما يجعل الضحك وسيلة للمحافظة على رشاقة الجسم ، بشرط عدم تناول أغذية غير صحية مع هذا الضحك ، كما أن الضحك يزيد من كمية الأكسجين التي تدخل إلى الجسم مما يساعد على تجديد الخلايا التالفة ، وتقوية المناعة ، وتقليل الإحساس بالألم ، وتخفيف التوتر .
وأخيراً فقد ذكرت مجلة " فورشن " أن الأمريكان يستهلكون يومياً ما يقرب من 15 طن من الأسبرين بسبب التوتر والانفعال الذي يسبب لهم الصداع والآلام المختلفة ، لذا فقد قررت 500 شركة من كبرى الشركات الأمريكية مثل آي بي إم ، فورد ، كوداك ، جنرال إليكتريك ولوكهيد وغيرها ، أن تتبنى برنامجا للمرح والضحك داخل أماكن العمل ، وفي أوقات الراحة والإجازات ، لكي يضمنوا أن تصل هذه الجرعة الهامة للموظفين والعاملين في هذه الشركات ، من أجل ينعكس ذلك على أدائهم وعلى زيادة الإنتاج .
وأعتقد أن المساحة لن تسمح اليوم بالحديث عن وسائل الاسترخاء المختلفة للتعامل مع التوتر والانفعالات ، وسوف نتحدث مستقبلا إن شاء الله عن هذه الوسائل بما فيها التأمل ، والاسترخاء الحيوي " بيوفيدباك " ، والتخيل الموجه ، والتنفس بعمق ، والعلاج بالتنويم ، واليوجا وغيرها إن شاء الله .