يكثر الحديث عن الخطر الذي يداهم البشرية بسبب التغيرات المناخية التي أصبحت مظاهرها حقيقة ملموسة في أنحاء كوكبنا الأرضي.
وآخر إشارات الخطر صدرت من لجنة الأمم المتحدة للتغيرات المناخية وتردد صداها في مؤتمر بالي في إندونيسيا أواخر عام 2007، الذي أكد أن الدليل على التغير المناخي "لا لبس فيه"، وحذر من عواقب بيئية كبرى إن لم تتخذ "إجراءات سريعة" لدرء الخطر.
والسؤال الأكثر إلحاحا هو لماذا يتفاقم الانهيار البيئي وما السبيل لوقفه؟
السبب كما يرى العلماء هو أننا، سكان هذا الكوكب، بدأنا خلال العقدين الماضيين باستهلاك موارد كوكبنا بمعدلات لم يسبق لها مثيل.
فالمجمعات الصناعية وشركات الطاقة في العالم وبشكل خاص في البلدان الكبرى تستثمر أرقاما فلكية من الدولارات في مشاريع عملاقة. ولا يزال الوقود التقليدي أو ما يعرف بـ "الوقود الإحفوري" يشكل المصدر الأساسي للطاقة. وسيظل مصدرا أساسيا لها لزمن طويل قادم، فهو يلبي نحو 80 بالمئة من الحاجة الحالية.
أي أن الاعتماد الأكبر سيظل على النفط والغاز والفحم، بينما لا تزيد مساهمة مصادر الطاقة البديلة من الوقود العضوي والطاقة الشمسية والريح على نسبة ضئيلة من الطلب. لذلك فإن انبعاث غاز ثاني أوكسيد الكربون سيستمر، وسيستمر معه ارتفاع حرارة الأرض والتغيرات البيئية.
من جانب آخر زاد استغلال الأرض لغرض الإنتاج الزراعي بنسبة عالية تقدرها الدراسات العلمية بـ 40 بالمئة خلال العشرين سنة الماضية. زيادة السكان
كل ذلك مرتبط بالارتفاع المتنامي لعدد سكان الأرض، إذ يقطنها الآن 6.6 مليون نسمة أي أن عدد سكان العالم زاد بنسبة 35 بالمئة منذ منتصف الثمانينات. لكن الرقم سيصل بحلول عام 2050 إلى تسعة مليارات حسب التقديرات.
ومع الزيادة المتسارعة في عدد السكان، يتنامى الطلب على الطاقة بسرعة يفوق معدلها النمو السكاني.
وقد أوصت اللجنة الدولية للتغير المناخي في آخر تقاريرها بأن تبادر الحكومات الى اتخاذ إجراءات حاسمة لإحداث تغيير في البنى الاجتماعية والاقتصادية والتشجيع على تغيير أنماط الحياة، كالحد من الاستهلاك البشري المتنامي. كيف يؤثر علينا
تشير جميع الأدلة العلمية إلى أن البشرية بأجمعها، تواجه تهديدا يتمثل بنقص الغذاء والماء، العنصرين المهمين لديمومة الحياة، فضلا عن مواجهة الكوارث البيئية كالفيضانات والحرائق.
وحتى على الصعيد الفردي يؤثر التغير المناخي مباشرة على الملايين من البشر خصوصا من ليس له قدرة على التكيف ومن يعاني من أمراض القلب والجهاز التنفسي. إضافة إلى انتشار الأوبئة وانتقال مسبباتها ووسائط نقلها إلى أماكن لم تعهدها من قبل.
فضلا عن انعكاسات التغيرات على نمو الأطفال وتطورهم وارتفاع نسبة الوفيات والأمراض والأعراض المصاحبة لموجات الحر والفيضانات والعواصف والجفاف وشحة المياه الصالحة للشرب.
وتحذر الأمم المتحدة، في أحدث تقاريرها، من أن دول العالم الفقيرة هي المتضرر الأكبر، لا بل حتى الفئات الفقيرة في داخل البلدان الغنية هي الأكثر تأثرا بتلك الكوارث. ما الذي يحدث بالضبط
وكنتيجة لارتفاع حرارة الأرض يزداد ذوبان الثلوج في المناطق الجبلية والقطبية، مما يؤدي إلى الفيضانات وارتفاع مستوى سطح البحر واندثار مناطق على اليابسة كليا، كما هو الحال في بعض بلدان جنوب شرقي آسيا. وقد تصلح بنجلادش كمثال صارخ على ذلك.
كما تشهد مناطق أخرى ثوران براكين صخرية، وأكثر المناطق تأثرا هي المناطق الساحلية والمحاذية للأنهار.
بينما تشهد بعض أجزاء العالم موجات جفاف بسبب قلة هطول المطر، مما يتسبب بأزمات مياه ونقص في الغلال، نتيجة نقص الماء في الأنهار وحتى الكبرى منها. ويقول تقرير للأمم المتحدة أن نهرا واحدا من مجموع عشرة أنهار يفقد مصبه بالبحر، كل عام، وينتهي قبل الوصول إليه. ناهيك عن اندثار بعض الأنواع النباتية والحيوانية التي قد يختفي بعضها نهائيا وقد يتقلص وجود أنواع أخرى منها بنسب مخيفة. المناخ والنزاعات
وتحذر الأمم المتحدة من أن التغيرات المناخية قد تسفر عن زعزعة استقرار بلدان ودخول أخرى في نزاعات داخلية وإقليمية. وتضرب المنطمة الدولية مثلا على ذلك بلدان شمال وشرق أفريقيا وجنوب آسيا.
|
على الحكومات اتخاذ إجراءات حاسمة لإحداث تغيير في البنى الاجتماعية والاقتصادية والتشجيع على تغيير أنماط الحياة |
وتشير إلى أن ما يترتب على التغير المناخي من أزمات بيئية واقتصادية قد ينعكس في صورة أزمات سياسية. ومن بين أهم المشاكل الضاغطة مسألتا النزوح الداخلي والهجرة الخارجية. ما العمل؟
ليس هناك على ما يبدو حلول سحرية لكن برنامج الأمم المتحدة دعا إلى اتخاذ اجراءات عاجلة "لاقترابنا من الوصول إلى نقطة اللاعودة". فرغم المؤتمرات والخطوات التي وصفها البرنامج بـ "الجريئة أحيانا"، لكن الاستجابة للتحديات البيئية ليست متناسبة مع حجم تلك التحديات التي ستعاني منها الأجيال القادمة.
والحكومات، كما يرى البرنامج، لم تتحمل مسؤولياتها في حماية البيئة. وتشير التقارير التي تصدرها الجهات المهتمة بالاحتباس الحراري إلى عدم تناسب القرار السياسي مع معدل الانهيار البيئي.
لذا يعتقد بأن إجراءات سريعة وفعالة يجب أن تتخذ على صعيد السياسات والتشريعات بموازاة العمل على استثمار العامل التكنولوجي إلى أقصى حد لصالح تقليص نسب التلوت الناتجة من انبعاث الغازات من المركبات وإنتاج الطاقة والاستخدام المفرط للأرض. "خارطة طريق"
لكن لا بد من ا لإشارة إلى أن الوعي البيئي لدى سكان الأرض ارتفع كثيرا وأن بعض الدول الغنية حقق نجاحات في الحد من التلوث، إلا أن ذلك تم، في بعض أوجهه، على حساب الدول الأفقر التي تحتضن منافذ الانتاج الكمي لبضائع متنوعة لتصديرها بأسعار رخيصة، للأغنياء غالبا.
ومنذ الاتفاق الذي وقع عام 1997 في مدينة كيوتو اليابانية والمعروف باسمها، لم يتحقق الكثير مع أن بنوده تلزم الموقعين على خفض جماعي لانبعاث الغازات الضارة بالبيئة بمعدل يزيد على خمسة بالمئة لكي تكون التغيرات التي تطرأ على المناخ ضمن حدود يمكن تحملها والتأقلم معها.
غير أن الفترة ما بين كيوتو وبالي شهدت التزامات من بعض الدول وتراجعات من دول إخرى وإصرار من بعضها على عدم الإسهام بمستوى حجمها.
و كان كيوتو باعتراف كثيرين بداية متواضعة لأن سرعة التغيرات البيئية تتطلب التزامات أكبر من الدول وبخاصة الكبرى منها. وتبعت كيوتو لقاءات ومؤتمرات كثيرة وشهد عام 2007 وحده عددا غير قليل منها، توجها المؤتمر الذي عقد في منتجع بالي الإندونيسي في ديسمبر/ كانون الأول.
فما الذي تمخض عن مؤتمر بالي للتغير المناخي الذي ناقش فيه على مدى عشرة أيام ممثلو نحو 190 دولة المخاطر التي تحيق بكوكبنا؟
اعترف المؤتمر بأن الدليل على التغير المناخي لا لبس فيه، وبذلك فإن التلكؤ في وضع حد لانبعاث الغاز سيزيد من وطأة الانهيار البيئي. الفقراء... بالانتظار
والاتفاقية التي وقعت في بالي فتحت الباب لعملية مفاوضات خلال العامين القادمين وهو ما اصطلح عليه بـ "خارطة طريق" بيئية، بهدف تأمين معاهدة ملزمة في عام 2009 لدى انعقاد قمة الأمم المتحدة في الدنمارك.
ولكي يتحقق الهدف الرئيسي وهو "تجنب التغيرات المناخية الخطيرة" يضع مؤتمر بالي الدول المتقدمة أمام مسؤولياتها في "ضرورة الحد بصورة كبيرة من انبعاث الغازات" الضارة بالبيئة، وكذلك مساعدة الدول النامية تكنولوجيا وماليا لتحقيق الهدف ذاته.
لكن مهمات كبرى لا تزال بانتظار البدء في إنجازها كالالتزام الذي يلقيه المؤتمر على عاتق دول العالم الغنية إزاء دوله الفقيرة.
وبين هذه الالتزامات حماية الدول الفقيرة من تأثيرات التغيرات المناخية، والبحث عن طرق لمنع تكرار الكوارث الطبيعية أو الحد من الدمار الذي تحدثه، فضلا عن إزالة العوائق التي تقف في وجه الدعم المالي ونقل التكنولوجيا للفقراء بما في ذلك مصادر الطاقة "النظيفة".
وبانتظار اكتمال معالم خارطة الطريق البيئية، أو على الأقل وضوحها، يظل كوكبنا الجميل في مواجهة تحد كبير يهدده باستمرار ويستحث السعي الجاد من الجميع لإنقاذه.