ما الذي يمكن أن يخفيه قلب الأرض؟ وهل يمكن أن يكون ذلك المركز عبارة عن “دينامو” عملاق لا يهدأ أم أنه مفاعل نووي من الحجم الهائل؟

اسئلة كثيرة لم تزل تشغل بال الباحثين وفرضيات متعددة تظهر هنا وهناك، تفتح الباب على مصراعيه لحرب جدلية لا يخرج منها المرء إلا بالمزيد من التساؤلات المبهمة؟

ولكن، ربما تأتي بعض الاكتشافات لتميط اللثام عن واحد من تلك الأسرار التي تؤرق عقول الباحثين، ففي الثالث من يوليو/ تموز 2004 عقد مجموعة من علماء الجيولوجيا في العالم مؤتمراً في منطقة بافارواز الفرنسية ضمن مشروع (SEDI) الذي يعني دراسة العمق الداخلي للأرض، وقد أعلن علماء الجيولوجيا الكيميائية ان مركز الأرض عبارة عن كرة حديدية بلورية غير محددة المعالم بشكل واضح، فحتى اللحظة يعرف العلماء عن سطح الشمس أكثر مما يعلموه عن مركز الأرض، علماً بأن الشمس تقع على بعد يزيد على بعد سطح الأرض عن مركزها ب25 ألف مرة.

ويؤكد الباحثون أن قلب الأرض ليس كما يتخيل السواد الأعظم من الناس عبارة عن كرة نارية، فهذه الفكرة جاءت من الحمم الملتهبة التي تنطلق من القشرة الأرضية لحظة انفجار البراكين علماً بأن المواد المعدنية الذائبة تخرج من الغرف المجماتية الواقعة على عمق لا يزيد على بضعة كيلومترات من سطح الأرض.

يذكر ان النظرية السائدة بين العلماء عن مركز الأرض تعود للعام ،1936 حيث اثبت خبير الزلازل الدنماركي اينج ليهمان ان هذا المركز عبارة عن كرة عملاقة يقل قطرها عن قطر القمر (2400 كيلومتر)، وتتكون من الحديد الصلب، وبعض العناصر الأخرى مثل النيكل والرصاص وبقايا من الاكسجين وغيرها.

وتضيف النظرية ان هذه الكرة أو النواة الداخلية تسبح كذلك في محيط من الحديد الذائب، في حين ان النواة الخارجية على عمق 5100 كيلومتر تحت القشرة الارضية “أي الطبقة الجيولوجية السطحية” والوشاح، ويصل الضغط في هذه المنطقة الى 360 جيجا باسكال وهو ما يزيد على الضغط السائد على سطح الأرض بمقدار يبلغ 3،600،000 مرة. أما عن درجة الحرارة فتبلغ حوالي 6000 درجة مئوية أي ما يعادل تلك الحرارة السائدة على سطح الشمس.

 

تقديرات

 

يذكر أن هذه المعطيات لم يتم الحصول عليها في مركز الأرض، وإنما هي مجرد تقديرات غير مباشرة، كما ان المجال المغناطيسي الارضي الذي يحمينا من الرياح الشمسية ويوجه البوصلات ويرشد الطيور المهاجرة يعتبر موضوعاً لنقاشات كثيرة، ويشير الباحث فيليب كاردان من مختبر الجيولوجيا الفيزيائية الى ان المجال المغناطيسي للأرض يشبه المجال الذي يولده مغناطيس ثنائي الاقطاب موضوع في مركز الارض بدرجة ميل تبلغ 11 درجة بالنسبة لمحور دوران الكرة الأرضية لكن لا توجد دراسة تؤكد أو تدعم هذه النظرية أو تقول بوجود مغناطيس دائم في مركز الأرض، كما أن أصل هذا المجال الثنائي الاقطاب غير مفهوم بشكل واضح بالنسبة لنا.

ويقول كاردان ان عدداً من الفرضيات الجديدة ظهرت كمحاولة لمنافسة الفرضيات السابقة التي تلقى حتى الآن اجماع العلماء والتي تقول بوجود نواة حديدية صلبة في مركز الأرض، كما ان المجال المغناطيسي المتولد عن هذه النواة ينشأ من زوابع هائلة تحيط تلك النواة التي تسبح في سائل من الحديد، والمعادن الذائبة، الأمر الذي يؤدي الى تحول النواة الى ما يشبه “الدينامو” العملاق.

والغريب في الأمر ان المسألة تزداد تعقداً عندما يحاول العلماء فهم السبب الذي يؤدي الى حدوث تغيرات في اتجاه المجال المغناطيسي للأرض، ففي الماضي أي قبل 780 ألف سنة كان الشمال المغناطيسي يمثل احياناً القطب الجنوبي الجغرافي، وأحياناً القطب الشمالي الجغرافي، وذلك كما هو الحال الآن، ويرى أنصار فرضية النواة الحديدية أن الانعكاس في قطبية المجال المغناطيسي للأرض يعود الى عدم الاستقرار في هندسة الزوابع في النواة الخارجية، إلا أن هذه الفرضية لا تنال اجماع الغالبية العظمى من العلماء.

ويعتقد الفيزيائي ريتشارد ميلر من جامعة كاليفورنيا وذلك وفقاً لفرضيته الغريبة ان غالبية الانعكاسات الحادثة للمجال المغناطيسي للأرض، تعود الى وقوع جروف مفاجئة وانهيارات في المنطقة الفاصلة بين النواة الخارجية والوشاح حيث تتجمع في هذه المنطقة ترسبات كثيرة وما ان تسقط هذه الترسبات في النواة، حتى تحدث اضطرابات في الزوابع المولدة في الاصل للمجال المغناطيسي.

ويعترض الباحث ستيفان لا بروس من معهد فيزياء الأرض في باريس على فرضية ميلر بالقول ان المنطقة الفاصلة بين النواة والوشاح تتعرض للاضطرابات التي تحدث في قاع المحيطات بمعنى ان الترسبات لا يمكن وحدها ان تحدث تغييراً في الحركة الكلية للماء، فلماذا إذاً علينا ان نتخيل ان سبباً واحداً كفيلاً بأن يحدث تغييرات مهمة في النواة ومن ثم تغييراً في اتجاه المجال المغناطيسي؟

ويرد ميلر بالقول: لو حدث تصادم للأرض مع أحد المذنبات أو الكويكبات فان ذلك من شأنه أن يحدث جروفاً هائلة لا يمكن مقارنتها مع الانهيارات البحرية إلا أن ميلر لا يؤكد وجود شيء آخر في مركز الأرض سوى الكرة الحديدية وذلك على عكس الخبير الجيولوجي الفيزيائي مارفين هيرندون الذي يعتقد ان مركز الأرض لا يحوي الحديد، وانما كرة هائلة من اليورانيوم المشع (يورانيوم 235 و238) ويبلغ قطرها 8 كيلومترات، وتعتبر مركز السلسلة من التفاعلات الانشطارية، وعلى ذلك لا يرى هيرندون في الارض “دينامو” عملاقاً، وانما يرى مفاعلاً نووياً طبيعياً هائلاً، ويرى هيرندون ان هذا المفاعل يولد طاقة مختلفة عن تلك الصادرة عن المولد ذات الاشعاع الطبيعي الموجودة في الأرض كالثوريوم ،232 واليورانيوم ،235 واليورانيوم ،238 وتستند هذه الفرضية على مشاهدة العلاقة بين عناصر (الهيليوم-3) و(الهيليوم-4) الذي يعتبر من الغازات النادرة، والذي وجد بنسبة عالية غير عادية في الصخور البركانية لجزر الهاواي، وقد تبين من خلال البحث ان الهيليوم (He-3) كان نتيجة ثانوية لانشطارات نووية، الأمر الذي يفسر مسألة الانعكاسات في اتجاه المجال المغناطيسي.

 

دور البوتاسيوم

 

يشير الباحث هيرندون الى انه ولأسباب غير واضحة، يمكن للمفاعل الأرضي ان يهدأ قبل ان يضاعف من شدته، محدثاً بذلك انعكاسات في اتجاه المجال المغناطيسي أثناء استعادة نشاطاته، والواقع أن فكرة المفاعل الأرضي، فكرة مثيرة للاهتمام، لكنها تلقى انتقادات شديدة من قبل المجتمع العلمي الذي يميل كثيراً نحو فرضية نواة الحديد في باطن الأرض التي تسلك سلوك “الدينامو” والتي يمكنها تفسير النسبة المرتفعة لعنصر (الهيليوم 3-4) في البازلت الموجود في جزر الهاواي عند تشكل الأرض في مراحلها الأولى. ويقترح روبرت دوميجر وفريقه العلمي من معهد الفيزياء النووية التابع لجامعة جرونينج الهولندية بناء مختبر تحت الأرض لمعرفة إن كانت الأرض تحوي في داخلها مفاعلاً نووياً عملاقاً. ويشير دوميجر الى ان الفكرة من هذا الأمر تتمثل في بناء كاشف للجسيمات الصادرة عن عملية تفكيك اليورانيوم المشع والمعروفة بمضادات النيسترينو. ويفكر الباحثون ببناء مثل هذا المختبر في جزيرة كوراتشو الفنزويلية، نظراً لقلة سماكة القشرة الارضية هناك، اضافة الى بعد المنطقة المعنية عن أية مصانع من شأنها التسبب في احداث التدخلات بين الموجات الصادرة عن الجسيمات في مركز الأرض وتلك الصادرة عن القشرة الأرضية والمفاعلات النووية للمصانع.

يذكر أن فرضية المفاعل الأرضي تقترب من نظرية أخرى تقول بوجود الظاهرة الاشعاعية في نواة الأرض، لكن العنصر المشع في هذه المرة لا يتمثل في اليورانيوم، بل يتعلق بعنصر أخف منه  وينتشر في كل أجزاء النواة وليس في مركزها، وهو (البوتاسيوم -40) أو (40K).

ويقول انصار الفرضية الثالثة ان مركز الأرض عبارة عن نواة من الحديد والبوتاسيوم-40 وقد نادى بهذه الفرضية خبير الكواكب مارك بوكو ونسكي في سبعينات القرن العشرين، حيث طرح تساؤلاً مهماً قبل صياغة فرضيته ويقول التساؤل إذا كانت الطاقة المتولدة تنتج بفعل برودة نواة الأرض التي تغذي المجال المغناطيسي الموجود منذ 3،2 مليار سنة، فما مصدر هذه الطاقة التي تسهم في عمل المجال المغناطيسي، علماً أن عمر النواة يراوح بين مليار وملياري سنة.

الواقع انه ما ان ظهرت فرضية البوتاسيوم المشع حتى وقف العلماء ضدها لسبب بسيط يتمثل في أن البوتاسييوم -40 كان لا يمكن ان يسيل في باطن الأرض أثناء تشكلها قبل 4،6 مليار سنة، فالفرضية الشائعة التي تفسر ولادة كوكب الأرض تقول انها تشكلت ضمن النظام الشمسي الاولي عن طريق تراكم نيازك تبلغ أقطارها بضع مئات من الكيلومترات، ومع الزمن أخذت هذه النيازك بالذوبان بشكل جزئي تحت تأثير الحرارة المتحررة، جراء التصادمات بين الأرض والنيازك، وجراء ذلك توجهت المعادن الثقيلة بفعل الجاذبية نحو مركز الأرض خلال بضعة ملايين من السنين مكونة بذلك النواة الأرضية، في حين صعدت العناصر الخفيفة مثل السيليكات نحو السطح لتكوين الوشاح.

ويعتقد أصحاب هذه النظرية ان توجه الحديد نحو مركز الأرض لم يسحب معه عنصر (البوتاسيوم -40) لأنه عنصر لا يتفاعل أو يتناسب معه.

 

مفاجأة علمية

 

باحثان أمريكيان (كاناني لي وريموند جيوتلوز) متخصصان في الجيولوجيا الفيزيائية في جامعة بيركلي في كاليفورنيا تمكنا من إنتاج مزيج من عنصري الحديد والبوتاسيوم النقيين بعد ان رفعا درجة حرارة المزيج الى 2230 درجة مئوية عند ضغط يبلغ 26 جيجاباسكال اي ما يزيد بمائتين وخمسين الف مرة عن الضغط المعروف عند سطح الأرض، ويعتبر هذا الانجاز الأول على المستوى العالمي وهو يثبت ان عنصر البوتاسيوم -40 استطاع الهبوط الى مركز الأرض اثناء تشكلها في اولى بداياتها.

وتقول كاناني انه بالنظر الى المعطيات المتوافرة لدينا عن البوتاسيوم -40 وبالنظر الى تلك الموجودة في القشرة الأرضية والوشاح اثناء تكون الأرض يمكن القول ان النواة الأرضية تحتوي على ما يقارب 0،1% من (البوتاسيوم -40).

وتضيف انه على الرغم من صغر هذه النسبة الا أنها تكفي لإطلاق حوالي 25% من الحرارة المشتتة من الأرض لأن كمية قليلة من البوتاسيوم-40 تطلق كمية كبيرة من الطاقة.

ويرى الباحث جويوم فيكه من مختبر علم المعادن والبلورات في باريس انه لاثبات فرضية البوتاسيوم -40 لا بد أن نثبت ان هذا العنصر يرتبط بالحديد في وجود السيليكات وذلك كما كان الحال خلال تشكل الأرض، وهو ما لم يؤخذ في الاعتبار في هذه التجربة. وايا كان الحال فإن التجربة التي أجراها الباحثان في جامعة بيركلي لم تزل تحدث اضطراباً وتشويشاً في الطرائق المؤدية الى معرفة الطبيعة الحقيقية لمركز الأرض، وهل هو “دينامو” حديدي ام مفاعل نووي طبيعي، أم انه قلب حديدي مرتبط بنشاط اشعاعي.

للوصول الى تحديد طبيعة مركز الأرض لا بد للباحثين من أن يقطعوا مسافات بعيدة في الابحاث، وهو ما لا يمكن ان يحدث إلا خلال سنوات قليلة أخرى من الدراسة والتطوير في مجالي الجيولوجيا الفيزيائية والكيميائية لذا نخرج من هذا الأمر بنتيجة مفادها ان ثمة أسراراً كثيرة لم تزل متوارية بعيداً في أقصى أقاصي أعماق الأرض.

 

 

AkrumHamdy

Akrum Hamdy [email protected] 01006376836

  • Currently 71/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
23 تصويتات / 455 مشاهدة
نشرت فى 14 أغسطس 2008 بواسطة AkrumHamdy

أ.د/ أكـــرم زيـن العــابديــن محـــمود محمـــد حمــدى - جامعــة المنــيا

AkrumHamdy
[email protected] [01006376836] Minia University, Egypt »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,789,450