الخشوع: الركن الغائب في الصلاة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين ورحمة الله للعالمين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...............أما بعد،،،،،

فمن الأمراض القلبية التي ابتلي بها المسلمون في أيامنا هذه غياب الخشوع في الصلاة، وأهمية الخشوع للصلاة كأهمية الروح للجسد، ولن يجد العبد للصلاة أثرًا أو ثمرة في نفسه وسلوكه ومعاملاته بدون تحقق الخشوع، ولا تصح الصلاة بدونه، بل هو ركن من أركانها، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: ((رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب)) (رواه النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه عنه أحمد والحاكم والبيهقي)، والصلاة أول ما يُحاسب العبد عليه، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله، فالأمر خطير يتوقف عليه مصير كل أعمالك إما بالقبول أو عدم القبول، وهذا يستلزم منا الانتباه والحذر والبحث بجد واجتهاد عن وسائل تحقق الخشوع في الصلاة لتكون صلاتنا مقبولة بإذن الله تعالى وعفوه وكرمه.

واعلم أخي المصلي أن الخشوع محله القلب، ولسانه المعبر هو الجوارح، وهو توفيق من الله جل وعلا قبل كل شيء، يوفق الله إليه الصادقين في عبادته، وهو في الصلاة حضور القلب وسكون الأطراف.

وتحقيق الخشوع في الصلاة يتطلب جهدًا وعزيمة، فابذلْ ما تستطيع، واحرص على الدعاء كثيرًا أن يجعلك الله خاشعًا منكسرًا ذليلاً متواضعًا، وقد صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع...)) الترمذي رقم (3549)، صحيح الترمذي للألباني ج3 ص 164 رقم (2769)، ويقول: ((... رب اجعلني لك شَكَّارًا، لك ذكّارًا، لك رَهّابًا، لك مِطواعًا، إليك مُخبِتًا أوّاهًا مُنيبًا...)) الترمذي رقم (3621)، صحيح الترمذي للألباني ج3 ص 178 رقم (2816).

والأمور التي تحقق الخشوع في الصلاة، بعضها خارج الصلاة، وبعضها الآخر داخل الصلاة، ومن الأمور التي تساعد على تحقيق الخشوع في الصلاة خارجها ما يلي:

1 – معرفة الله:

فمعرفة لا إله إلا الله، نفيًا وإثباتًا، تثمر في القلب الذل لله، وإيقانك بوجوده وقربه وسمعه وبصره تورثك الحياء، وتعرّفك على أسماء الله الحسنى وصفاته العليا تولّد في نفسك استحضار عظمة الله ودوام مراقبته ومعيته، ومتى اجتمع في قلبك صدق محبتك لله، وأنسك به واستشعار قربك منه ويقينك في ألوهيته وربوبيته وحاجتك إليه، أورثك الله الخشوع، وأذاقك لذته، وحينها تعبد الله بالإحسان (أعلى المراتب)، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((صلِّ صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنتَ لا تراه فإنه يراك)) الطبراني في الأوسط رقم (4588) الصحيحة للألباني ج4 ص544 رقم (1914).

2 – ترك الذنوب والمعاصي:

فصاحب المعصية محروم الخشوع، والمعاصي سدٌ منيع يقف أمام الخشوع في الصلاة، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) (الرعد: من الآية 11)، فلن تجد الخشوع وأنت مقيم على مبارزة الله بالمعاصي، وما عند الله لا يُنال بمعصية الله، فافهم ذلك جيدًا.

3 – الإكثار من الصالحات:

وأعظمها قراءة القرآن الكريم، فهي ملينة للقلب، والطاعات بعامة تزيد الصلاة حُسنًا وخشوعًا، قال صلى الله عليه وسلم: ((أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك: ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلين قلبك، وتدرك حاجتك)) الطبراني في الكبير، المجمع ج8 ص 160، الصحيحة للألباني ج2 ص 533 رقم (854).

4 – البعد عن كل ما يميت القلب:

ومنه كثرة الضحك، فإنّ كثرته مميتة للقلب، ومن مات قلبه ذهب خشوعه، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تكثروا الضحك، فإنّ كثرة الضحك تميت القلب)) ابن ماجة (4193) الصحيحة، للألباني ج2 ص 18 رقم (506).

5 – الاستعداد للصلاة:

وهو علامة حبك لله جل وعلا، ويحصل بأمور:

‌أ-     تفريغ وقتك من الشواغل قبل الصلاة قدر استطاعتك، فإتيانك الصلاة مجهدًا متعبًا منشغلاً، كفيل أن يهرب بذهنك، ويشتت خشوعك.

‌ب-  المجيء إلى الصلاة مبكرًا، لأنّ تأخرك يجعلك تُسرع لإدراك الصلاة، فتدخلها مُشوّشًا يتراد نفسُك، وكأنك تمارس رياضة الجري، فكيف تخشع في صلاتك.

‌ج-  الاهتمام بمقدمات الصلاة، كالتبكير بالوضوء وإحسانه، ومتابعة المؤذن إذا أذن، والتعجيل بالذهاب إلى المسجد لنيل مكان قريب من الإمام، وإحراز وقت كافٍ لأداء النوافل، كل هذه الأمور كفيلة أن تروض قلبك، وتستجلب خشوعه، بل هي سبيل لمحبة الله لك، ومن أحبه الله، خشع لله.

رُوي عن حاتم الأصم أنه سُئِل عن صلاته، فقال: إذا حانت الصلاة أسبغتُ الوضوء وأتيتُ الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبيَّ، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، ومَلَك الموت ورائي، وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين يدي الرجاء والخوف، وأكبر تكبيرًا بتحقيق، وأقرأ بترتيل، وأركع ركوعًا بتواضع، وأسجد سجودًا بتخشع... وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقُبلتْ مني أم لا؟ فقل لي بربك أين أنت من بعض حال حاتم لا حاله كلها؟!!

ومن الأمور التي تساعد على تحقيق الخشوع في الصلاة، داخلها، ما يلي:

1 – تعظيم قدر الصلاة وتعظيم الوقوف بين يدي الله تعالى:

لابد أن تعلم أنك سوف تقف بين يدي الله عز وجل، وأنّ وجه الله تبارك وتعالى منصوب لوجهك، وحينها تضع الدنيا وراء ظهرك؛ لأنك ستمثل أمام السميع البصير العليم الذي لا تخفى عليه خافية، وأظن نفسك سوف تجود بالدموع والبكاء، فهو مشهد حُقَّ للجوارح فيه أن تخشع، وللقلب فيه أن يخضع، وللعين فيه أن تدمع، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإنّ الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة ما لم يتلفت)) الترمذي رقم (3023) صحيح الترمذي ج2 ص 378 رقم (2298).

وقد كان علي بن الحسين إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: ((أتدرون بين يدي مَن أقوم؟)).

وحتى تعلم قدر تعظيمك للصلاة، سلْ نفسك: هل تختار لها مكانًا مناسبًا؟ هل تحفظ بصرك وتعتدل ببدنك وتخفض رأسك أثناء الصلاة؟ هل تطمئن في صلاتك؟ كلها أحوال معينة على الخشوع، فاحرص على أن تأتي بها، اختر لها مكانًا مناسبًا لا تخليط فيه ولا تشويش، ولا تلتفت بعينيك ولا رأسك ولا بدنك ولا قلبك، وتأنَّ فيها ولا تتعجّل، حتى تعقلها.

2 – تعلّم صفة الصلاة:

لأن من فَقِه الصلاة بأركانها وواجباتها وسننها ومبطلاتها عَبَد اللهَ على بصيرة، وحينها يستجلب الخشوع من أبوابه، والجهل بأحكام الصلاة ينافي أداءها كما أداها النبي صلى الله عليه وسلم، والمسيء في صلاته لو خشع فلا يفيده شيئًا، ولا يكون له كبير ثمرة، حتى يقيم صلاته كما أمر الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم.

3 – معرفة عظم منزلة الخشوع في الصلاة:

فإنّ بعض العلماء قال بوجوب الخشوع في الصلاة، قال تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) (سورة المؤمنون: الآيتان 1-2)، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، ثم انصرف فقال: ((يا فلان، ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه)) صحيح مسلم (423).   

ومما لا شك فيه أنه من كمال الصلاة، وأن الصلاة بدونه كالجسد بلا روح، وأنك إذا صليت فليس لك من الثواب منها إلا ما عقلت منها، وقد تخرج من صلاتك وليس لك ثواب فيها، وأنك لو صليت وغَلَب عليها عدم الخشوع فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها، مع أن الصحيح عدم وجوب الإعادة، ولكن كل ذلك يجعلك تقدر للخشوع قدره.

4 – اتخاذ السترة:

حتى لا يشغلك شاغل، ولا يمر بين يديك مارٌّ، سواء من الإنس أو الجن، فيحرمك الخشوع.

5 – رص الصفوف وتسويتها:

وذلك من تمام الصلاة وحسنها، ومتى لم تُسوَّ الصفوف وصار فيها فرج ومسافات بينك وبين أخيك في الصف، فإن الشيطان يقوم في الخلل، وحينها يخالف الله بين الوجوه والقلوب، ويذبح الخشوع بدون سكين.

6 – تدبر أذكار الصلاة:

فإذا كبّرت توقن أن الله أكبر من كل شيء، وتعلم عظمة الله في هذا الكون، فتستصغر هذه الحياة الدنيا، ولعلها تلامس قلبك الغافل فتوقظه، وإذا استفتحت بالدعاء ((سبحانك الله وبحمدك...)) و((وجهت وجهي للذي فطرني..)) أذعنت لله بالتوحيد، وعلمتَ أنه يجب قصده تبارك وتعالى وحده بالعبادة، وبقولك: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي...)) تستحضر خطاياك وذنوبك، فتنيب إلى الله، وحين تستعيذ بالله تعلم أنك تلتجئ إلى الله وتعتصم به من كل شيء، وحين تبسمل تستحضر أهمية الاستفتاح لكل عمل خير، فينغلق به باب كل شر، وحين تسمّع (سمع الله...) تستشعر قدرة الله على سماعه لكل مخلوقاته، وحين تتشهد (التحيات) تستشعر أنك تلقي التحيات لله سبحانه، فيخفق قلبك، وحين تتعوّذ من الأربع قبل السلام، فإنك تفر إلى الله في كل شيء، وحين تسلم من الصلاة، تعلم أنك مطالب ببذل ما تستطيعه لعموم إخوانك المسلمين وأخواتك المسلمات من الدعاء لهم بالسلامة والرحمة والبركة وتقديم العون لهم بالمعروف. كلها معانٍ عظيمة، سوف تهز قلبك، وتحرك شوقك، وتقوي أنسك بالله جل وعلا، ولهذا ولغيره كان من أثر تدبر أقوال وأفعال الصلاة أن السلف كانوا إذا دخلوا في الصلاة فكأنما رحلت قلوبهم عن أجسادهم من حلاوة ما يجدون من الخشوع والخضوع.

وعروة بن الزبير لما وقعت الأكلة في رجله، وطابت نفسه بنشرها (بقطعها)، قال له الأطباء: ((ألا نسقيك مُرقِّدًا (مخدِّرًا) حتى يذهب عقلك منه فلا تُحسّ بألم النشر (القطع)؟ فقال: لا.. ولكن إن كنتم لا بد فاعلين، فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة، فإني لا أحس بذلك، ولا أشعر به، قال الراوي: فنشروا رجله من فوق الأكلة من المكان الحي، احتياطًا أنه لا يبقى منها شيء، وهو قائم يصلي، فما تَضَوَّر ولا اختلج...)).

7 – تدبر القرآن في الصلاة:

فالقرآن مشتمل على أخبار الأنبياء والرسل وقصصهم مع أقوامهم وما جرى لهم من التنكيل والتعذيب والقتل، وعلى أخبار المكذبين بالرسل وما أصابهم من العذاب والنكال، وعلى بيان الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين، وعلى ذكر أحوال المدن وأحوال يوم القيامة، ومصير الناس إلى دارين، الجنة والنار، وهذا يستلزم الإقبال على كتب التفسير، المطولة منها والمختصرة، ليعقل الإنسان ما يقول، فهذه وأمثالها تُهيّج في قلبك نور الإيمان وصدق التوكل، وتزيدك خشوعًا.

8 – التأمل في مدلول أفعال الصلاة:

فالقيام يعني الإجلال والتوقير، والركوع يعني التذلّل، والسجود يعني الخضوع والاستكانة، وهذا التأمل يزيدك إيمانًا بتقصيرك في جنب الله، ويُعمّق في نفسك معاني الانكسار والذل لله، وكلها محفزات لتخشع في صلاتك.

9 – تذكّر الموت في الصلاة:

لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اذكر الموت في صلاتك، فإنّ الرجل إذا ذكر الموت في صلاته، لحريّ أن يحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها...))  الديلمي (1/1/51) الصحيحة للألباني ج3 ص 408 رقم (1421).

وكثير من الناس لو أخذ بهذا أو بعضه لخشع في صلاته، ولكنّ أكثر الناس عنه غافلون؛ إذ الموت له رهبة في النفوس، وبه خواتيم الأعمال، وما بعده أشد رهبة وأكثر تخويفًا، فمن تذكر ذلك أحسن صلاته، وصدق في توبته، وعدّ نفسه من الأموات، فتراه في صلاته خاشعًا باكيًا، يستقبل الآخرة ويُودّع الدنيا، وكأنها صلاة الوداع.

10 – استعذ بالله من الشيطان الرجيم:

إذا خلّط الشيطان عليك صلاتك، فإنه لا رادَّ لوسوسته إلا التعوذ بالله منه.

وأخيرًا أيها المحب الكريم إذا لم ينفع شيء مما سبق، فأحسب أنّ قلبك مريضٌ يحتاج إلى علاج، تجده عند أطباء القلوب، فابحث عنهم تجدهم وهم كثير والحمد لله، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصدر: الخشوع: الركن الغائب في الصلاة
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 67 مشاهدة
نشرت فى 22 نوفمبر 2011 بواسطة ARABYABD

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

4,611