هاشم البغدادي الخطاط

http://t1t.net/index.php?action=view&id=690


هو هاشم بن محمد بن درباس البغدادي ولد سنة 1340 للهجرة في بغداد، نابغة الزمان وعميد الخط العربي، ويعتبر عَلَماً من أعلام الخطاطين العراقيين، بدأ حياته ذوّاقاً للخط محباً له، شغوفاً به منذ صغره، تعلّم الخط في بداية حياته في الكتاتيب بطرقها البدائية وكان الأستاذ فيها يومئذ يسمى (الملا) والذي يتخذ من المسجد أو من بيته مكانًا للتدريس وتعليم فنون الخط.

 

أجازه حامد الآمدي في1371هـ وقال فيه: شاهدتُ فيك الصدق والإخلاص والمحبة لهذا الفن الذي لم يندثر ما دام الإسلام باقياً وأعهد فيك أن تكون من أخيارهم وأول الخطاطين في العالم الإسلامي.

بقي هاشم يواصل تحصيله الفني منذ البداية بهذه الطريقة مع (الملا) الذي نال إعجاب هاشم فأخذ يفاخر ويعتز به، بعدما أدرك هاشم أن قدرة الملا هذه قد انتهت في هذه الحدود وبالتالي رأى أن يتجاوزها إلى طريق أفضل وفي إطار أوسع، فجادت عليه الأيام بالملا علي الفضلي، الأستاذ الفاضل الذي عرف بعلمه وورعه، أحبه هاشم وحفظ له الود والتقدير حتى نهاية حياته حيث كان لهذا الملا الأثر الكبير في نجاح هاشم، إذ يعتبر الموجه الأول لهذا الفنان الكبير وعُرف عن هذا المعلم بأنه صاحب طريقة فنية متميزة، تلك هي القاعدة البغدادية للخط، والتي تاق إليها هاشم وعمل على إعادتها إلى أصولها الأولى، فكان لهاشم أول إجازة في الخط من يد هذا المعلم الشهير.

واصل تجويده للخط وبرع في الثلث والتعليق خاصّة، ونال شهرة فنية بفضل أساتذةٍ مشهورين، وبرع في بقية الخطوط العربية والزخارف الإسلامية وجاب البلاد العربية بغية الاتصال بكبار الخطاطين، يعرض عليهم خطوطه ويطلعهم على إنتاجه الفني، فرحل إلى الشام والتقى بالخطاط الدمشقي بدوي الديراني وإلى مصر والتقى بالسيد إبراهيم ومحمد حسني البابا فمنحاه الإجازة في أنواع الخطوط واتفقوا على اشتراكه في امتحان الدبلوم دون دراسة، ولدى الامتحان المطلوب سنة 1945 وقبل 1947 كان الأول على الخطاطين الذين شاركوا في تلك السنة.

ثُمَّ شدَّ الرحال إلى استانبول -مأوى أفئدة الخطاطين في ذلك العصر- ليتشرف بلقاء إمام الخطاطين آنذاك الأستاذ حامد الآمدي، فقدّره واستحسن خطه وقال إعجاباً به قولته المشهورة: "نشأ الخط في بغداد وانتهى فيها" ويقصد من ذلك أن الخط العربي بدأ حياته المجيدة بظهور عملاق الخط العربي علي بن هلال المعروف بابن البواب، وانتهى هذا بظهور هاشم البغدادي، وهذا يعتبر وِساماً ومكرمة تضاف إلى المآثر الحميدة التي تكرّم بها عماقة الخط لهذا الفنان.

أجازه حامد الآمدي بإجازة هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم، ولدي هاشم محمد البغدادي الخطاط، شاهدتُ فيك الصدق والإخلاص والمحبة لهذا الفن الذي لم يندثر ما دام الإسلام باقياً وأعهد فيك أن تكون من أخيارهم وأول الخطاطين في العالم الإسلامي، فلك أُهدي أزكى التحيات لِِما أنت عليه من تقدم دائم. كُتب في الآستانة سنة 1371هجرية، التوقيع موسى عزمي المعروف بحامد الآمدي.

ولقد قال عنه أحد المؤرخين بالحرف الواحد: "ولما كان الأستاذ حامد الآمدي قد بلغ من العمر عتياً، وقد بلغ التسعين أو جاوزها، فقد بات الأستاذ هاشم أضبط من يكتب الحرف العربي في العالم، وعلى يد هاشم انتقلت الريادة والقيادة والرئاسة في فن الخط إلى العرب بعد أن تولاها الأتراك بما يقرب من خمسة قرون".

والمرحوم الخطاط أبا راقم هاشم البغدادي يمثل ثروة قوميّة نادرة وحصيلة ناضجة من التراث وثمرة متكاملة من ثمرات التجارب الفنية الرائدة حيث يمثل لوحة فنيّة رائعة من لوحات الخط العربي، كونه خلاصة مدارس ومرتكز تجارب، ومجمع خبرات فنية موروثة استطاع أن يستوعبها ويمازج معها، ويوحّد بين قواعدها ليستخلص لنفسه قاعدة هي أقرب إلى القاعدة البغدادية التي أولع بها وأتقن أصولها وأفرد لها من فنه مما جعلها متميزة.

 

 

على يد هاشم انتقلت الريادة والقيادة والرئاسة في فن الخط إلى العرب بعد أن تولاها الأتراك بما يقرب من خمسة قرون

وقد بقيت هذه الأصول تتجاذب أطراف فنّه وهو يحاول التوفيق فيها ليكسب الحرف جمالاً إلى جماله ويضيف إليه هندسة تزيد في روعة هندسته حتّى استقامت له القواعد، وتكاملت في شخصه الأصول، ومن هنا كانت له قاعدة عُرف بها، على الرغم من حرصه على التقليد والتزامه بالقواعد وقد ظلَّ طلابه ومعارفه يتابعون اجتهاده، وهو يأخذ أبعاده ويشعرون شعوره، وهو يتجدد من خلال الممارسة المستديمة ويؤكد التزامه بالقواعد التي رسمها أعلام الخط البارزون، ولعلَّ مكتبته الخطية تُعدُّ أروع مكتبة الخطيّة تُعدُّ أروع مكتبة في نفائس النماذج ونوادر المخطوطات التي اقتناها عبر رحلته الطويلة مع هذا الفن الجميل.

ويوم كان في مصر عُرض عليه تدريس الخط في مدرسة تحسين الخطوط، غير أنه رفض وفضَّل العمل في بغداد، وعاد إليها يتحفها بفنه ويهبها عصارة جهده فأغنى جوامعها بشامخ أعماله وتجاوزها إلى بقية مدن العراق ومحافظاته بروائع خطوطه وبديع هندسته وزخارفه، حيث شملت خطوطه الكتب والمجلات والجرائد والدواوين، وأصبح فيما بعد أستاذاً للخط العربي في معهد الفنون الجميلة ببغداد.

كان المخلص في عمله المتفاني في واجبه المحب لوطنه وفنه وكان صديقاً للفنان المعروف محمد صبري، كتب معظم الخرائط المهمة التي طبعتها مديرية المساحة، كما تشرّف بكتابة المصحف الكريم الذي كتبه الخطاط الشهير محمد أمين الراشدي، وطبع في مطبعة مديرية المساحة.

كما أن له نسخة من القرآن الكريم تعتبر من أجود أعماله، كما ظهرت نسخته القيّمة للوجود عندما استقر رأي ديوان الأوقاف لأول مرة على طبع المصحف الكريم فأخبروه ليكون مشرفاً على طبعه في ألمانيا وعاد بعد أكثر من سنة وهو يحمل آية من آيات الجمال في خطوطه وزخرفته، ثم تجددت فكرة طبعه مرة ثانية فاختير لهذا الواجب المقدس ومكث لهذا العمل في ألمانيا أكثر من سنتين يواصل عمله ليل نهار عاد بعدها مختتماً أعماله المجيدة بهذا العمل الرائع.

كما قام بخط وتصميم المسكوكات والعملات الوطنية لبلده ولبعض الأقطار العربية لـ تونس والمغرب وليبيا والسودان.

ومن شدة حرصه على ضبط قواعد الخط، لم يحصل أحد على إجازة منه سوى الخطاط عبد الغني عبد العزيز وكان من تلاميذه صادق الدوري وعبد الله الجبوري ويوسف ذنون وصلاح الدين شيرزاد الذي يشرف الآن على إدارة مجلة حروف عربية التي تصدرها ندوة الثقافة والعلوم بدبي في دولة الإمارات العربية المتحدة.

ومن آثاره الخالدة كرّاسة (قواعد الخط العربي) والتي تعتبر أهم مرجع تدريبي وفنّي في الإعجاز الخطي للحروف العربية، حيث تضم قواعد وأصول تعليم الخط مع ما يتميز به من سهولة ووضوح وعبقرية فطرية وملتقى انبعاث جمالي يأخذ بالألباب وإنه لا يخلو وجودها عند أي خطاط والذي يجهل كرّاسته الرشيقة والمقدسة فهو جاهل في فنّه وفي ما يجب أن يحظى به هذا الفنان القدير من المكانة العالية والمقترنة بالإجلال والاحترام في نفوس كل الخطاطين ومحبي وعاشقي هذا الفن الرائد.

ولعلَّ من مميزات خطوط البغدادي المهمة هو التأكيد على قولبة الحروف، أي إمكانية إعادة كتابة نفس الحرف لعدة مرات بصورة متطابقة تماماً، وهذه ميزة لدى الخطاط تدعو إلى الفخر والزهو، ولا يمتلكها إلا مَن أكثر من التمرين وأجاد وأتقن.

 

 

من شدة حرصه على ضبط قواعد الخط، لم يحصل أحد على إجازة منه سوى الخطاط عبد الغني عبد العزيز.

وإن هذا يفسر بوضوح المنهج العصامي الذي اتبعه البغدادي في طريقة كتابته، والوصول إلى المستوى الرفيع الذي كان عليه، وإن فن الخط من الفنون التي تقف شاهداً على كاتبها وتفسر خلجات نفسه وروحيته.. وهل أدل على التصاق الخطاط بخطه أكثر من كتمان أنفاسه لدى الكتابة، وكأن كتمان النفس في هذه الحالة تعني الولاء والالتحام في روحانيات وتجليات الحرف، حتى تصل هذه الحالة لديه إلى أن تُصبح أحد أهم شروط الكتابة المتميزة.

كما إن محاولته للوصول إلى كمال الحرف في انتصابه وانكبابه وتدويره واستلقائه وتقويره وامتداده وتناسقه وتناسبه كما أشار بذلك التوحيدي في شروط حسن الخط وجمال حيويته جعل جُلَّ اهتمامه ينحصر في إعادة رسم هيكلية الحرف وفق صورة يمكن أن نعبر عنها بأنها تمتاز بكثير منة العذوبة والطراوة وتتضح هذه الخاصيتان عن مقارنة خطوطه بخطوط الذين عاصروه أو سبقوه، أي إن العناية ببناء الحرف طغى لديه على العناية بصناعة اللوحة الخطيّة، ولكل من الكتابة الخطيّة شروط ومقومات وخصائص، وإنه كان يؤكد أستاذيته في كتابة الخط ويؤكد الطريقة التقليدية الأكاديمية في رسم الخطوط وأجادتها ومن ثم إتقانها وإبعاد كل مايضير العين من غريب أو شاذ.

وصفه الشاعر مهدي فاضل المعمار بهذه الأبيات الرائعة:

أأستاذ    فن    الخط    في    كل   iiبقعة
وفي    كل    حرف   خطه   ألق   iiالسنا
لك     المجد    فيما    أبدعته    iiيراعـة
ويا    طالما    ساءلت    نفسي    حائراً
أألهمت   تنميق   الحروف   من  iiالسما
أم     إن     تلك     الخالدات    iiنواسـخٌ
أم     الســر     لا     هذا     ولا    iiذاك
أخطاط    هذا    العصر   حسبك   iiرفعةً
وحسبك     ما     خلفته     من    iiمآثـر








له      أثر      ينبي      بآيـاته     iiالغــرِ
وفي   كل   لوح  صاغه  روعة  السحر
صناع   وما   أوحى   به   ثاقب   iiالفكر
وفنّك    من   سطر   يشع   إلى   سـطر
تنمّق   ما   فيها   من   الأنجم   iiالزهـر
بها   حلَّ   فنّ   الخالدين   على   iiالدهر
إنما هو السحر يجري في أناملك العشر
بخطـك    إن    صيّرته    آيــة    العصر
ستبـقى    على    الأيام    خالدة   iiالذكر

كما إن كرّاسته (قواعد الخط العربي) متوفرة في أكثر البلدان العربية وهي المرجع الواضح، حيث اعتبره الخطاط الياباني (كوئيتشي هوندا) -مدرس الخط العربي في قسم الدراسات العربية للغات الشرقية بجامعة طوكيو- قائلاً: بأنها من أجمل ما كتبت به قواعد الخط العربي حتى الآن.

 

 

كانت لوحاته زينة المساجد وجمال قلمه معجزة الفن الحضاري الأخّاذ الذي تسامق فوق كل مئذنة وتشابك عند كل محراب

فالمرحوم هاشم البغدادي نموذج إبداعي متميّز تجلّت مواهبه في روعة الحرف الذي كان يؤديه تسامت عبقريته في جمال التراكيب التي برع في تقديمها فكانت لوحاته زينة المساجد وجمال قلمه معجزة الفن الحضاري الأخّاذ الذي تسامق فوق كل مئذنة وتشابك عند كل محراب ونما في إطار كل سطرٍ زها به جامع أو افتخرت به لوحة أو لمع به كتاب، زاره الخطاط الإيراني الشهير حبيب الله فضائلي فلمس فيه التواضع والكفاءة وشاهد إجازاته من أساطين الفن العظماء.

وافاه الأجل في السابع والعشرين من ربيع الأول سنة 1393 هـ عن أربع وخمسين عاماً وشيّع إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف، وبفقده انطفأت شعلة الخط البهيج التي ظلت متوقدة في ربوع العراق طيلة عمره الزاهر، وبرحيله خسر العالم العربي والإسلامي عَلماً من أعلام الخط العربي وأستاذاً قَلَّ نظيره على وجه البسيطة.

مراجع البحث:
1ـ الخط العربي دار فلاماريون . باريس.
2ـ أطلس الخط والخطوط حبيبا لله فضائلي ترجمة محمد التو نجي،دار طلاس ، دمشق .
3ـ موسوعة الخطوط العربية وزخارفها ، معروف زريق دار المعرفة ،دمشق .
4ـ آفاق عربية /العدد المزدوج / كانون 2 شباط 2002م بغداد .
5ـ روح الخط العربي، كامل البابا، دار العلم للملايين، بيروت.
6ـ مجلة ( حروف عربية ) العدد الثالث محرم 1422هـ نيسان 2001م. ندوة الثقافة والعلوم / دبي دولة الإمارات العربية المتحدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

4,002,102