أوكسجين الروح

القلم والورقة والحرف...كن مفكراً

authentication required


منذ أن خلق الحق سبحانه الوجود و الكائنات الحية تسعى لما يضمن بقاءها و و يحول دون هلاكها ، و بالخصوص الكائن البشري ؛ هذا الكائن الذي سوف نتطرق إليه في موضوعنا هذا كونه يتميز عن باقي الكائنات الحية بميزة منحها إياه الله تعالى ، و كانت عاملا أهلته كي يكون براغماتيا أكثر من باقي الكائنات الأخرى .
 أولا ما أقصده بالبراغماتية في موضوعي هذا ؛ ليس هو الأخذ دون العطاء ؛ بمعنى أن يستغل أحد الآخر و ينشئ  معه علاقة على أساس المنفعة التي لولاها لتم وضع حد لهذه العلاقة ، فهذه أيضا جزءا من موضوعي لكنها ليست ما أعنيه بكلامي هذا .
فلو تأملنا سلوكيات الإنسان و معاملاته و تحركاته و تواصله مع الآخر أو بالأحرى لو تأملنا كل نشاطاته ليومية ، فسنلاحظ أن الإنسان لا يتحرك قيد أنملة دون منفعة شخصية ، حتى أحيانا دون أن يشعر بذلك ، فالبراغماتية لدى الإنسان درجات منها الدرجة الدنيا ؛ و التي لا يشعر بها المرء فهو في حينها يكون براغماتيا دون شعوره بذلك ، و الدرجة الثانية ؛ و هي الدرجة المتوسطة و المعتدلة ، إذ أن المرء يسعى لتحقيق أمور بإرادته لكن يعطي كي يأخذ و هنا لا ينتضر أن يُتفضل عليه ، و لو تفضل عليه دون طلبه ، أما الدرجة الثالثة و الأخيرة فهم الفئة التي تأخذ و لا تعطي ، و كما أسلفنا فإنها تُنشئ علاقات نفعية ليس إلا ؛ فهي تحاول استغلال سذاجة البعض و أحيانا ثقة البعض حتى تُكوِّن منه جسرا للعبور إلى منافعها الشخصية ،  و هنا نكون قد حددنا الدرجات الثلاث التي قد يكون عليها الكائن البشري . بينما الكائنات الأخرى لا تتميز سوى بدرجتين من البراغماتية و هي الأولى و الثانية ، أما الثالثة فالأنسان ينفرد بها عن غيره ، فهاته الكائنات تحكمها الغريزة و لا شيء يعلوا فوق الغريزة فهي التي تحكم تصرفاتها ، و لكن هناك من يدنوا هاذه الغريزة و هي أمور خفية قد لا نلاحظ أنها براغماتية ، أو كما صنفناها سلفا في الدرجة الأولى من البراغماتية و هي ممارسة البراغماتية عن طريق اللاشعور .
 لكن الكائن البشري إضافة إلى الدرجة الأولى التي يمارس فيها البراغماتية بطريقة لاشعورية ، و الدرجة الثانية التي يعي المرء أنه يمارس فعلا براغماتيا لكنه يكون عن طريق الأخد و العطاء ، إضافة إلى أن هذه الدرجة تشمل تلبية الإنسان لغريزته التي يشترك مع الكائنات الأخرى فيها ، لكن الدرجة الثالثة ينفرد بها الجنس البشري لأنه يمتاز بنعمة مقدسة و عظيمة و هي ملكة العقل ، نعم ؛ العقل هو من يؤهل المرء للدرجة الثالثة التي فيها المكر و الخداع و النفاق و كل الاخلاق الذميمة التي يجيد العقل نسجها و تقديمها على طبق ذهبي للآخر كي يُوقع به ، نعم كي يأخذ منه دون أن يعطي ، إنها الدرجة الثالثة من البراغماتية في الإنسان ، الدرجة الدميمة ، الدرجة التي تجرح المشاعر و تحتال على قلوب طيبة ؛ أو على الأقل كانت في لحظتها طيبة تخلوا أو تكاد من الظلم و الخيانة و رذائل الأخلاق ، و نفوس في نشأتها اعتادت الكرم فما أخذ اللئام يفقرهم و ما يُفقدهم قيمة الكرم ، فالدرجة الثالثة يمتاز بها الكان البشري عن باقي الكائنات الحية لكن حتى الكائن البشري ليس جميعه يمتاز بهذه الخصلة القبيحة ، كما لسنا كلنا معصومين من الوقوع فيها في إحدى المرات ، لكن الفرق هو أن البعض أصبحت من مميزات شخصيته هذه الدرجة الثالثة من البراغماتية ، عكس البعض الآخر الذي من الممكن أن ظروفا ما حتمت عليه سلوك ذلك المنحى .
أعتقد أن الجميع يفهم ما معنى البراغماتية في درجتها الثالثة و ما أقصده بها ، و حتى الدرجة الثانية التي فيها يقضي الإنسان حوائج تذر النفع عليه لكنه يعطي كمقابل لنيلها ، كالتلميذ المجتهد الذي يواضب طيلة السنة على الإهتمام بالدراسة و القيام بالواجبات و حسن السلوك و ... فهنا يعطي ليأخذ و أخذه براغماتي نفعي و هو النجاح فالنجاح منفعة يسعى إليها ؛ لكنه قابلها بالعطاء كي ينالها ، و العامل المجد الذي يعمل جاهدا كي ينال أجرة عمله ، و الفلاح المجد الذي يجتهد في الإعتناء بأمور فلاحة أرضه كي يسعد بجني تمارها ، و هذا على سبيل المثال لا الحصر .
 و هناك أمثلة رغم أنها لا تستوفي شرط تصنيفها ضمن الدرجة الثانية من البراغماتية ألا و هي العطاء مقابل الأخذ لكنها تصنف في هذه الدرجة ؛ و السبب أن المرء لم يحتال كي يصل إليها و لم ينافق و بالتالي فالآخر جاء عطاءه تلقائيا دون طلب الإنسان ؛ بمعنى تفضل عليه و أهداه أمرا ما ، مثل رجل كان يحتفظ لنفسه بكعكة و هو يركب القطار فلما التفت للذي بجانبه أراد أن يشاطره تلك الحلوى تلقائيا دون أن يطلب جاره في القطار منه ذلك ، و هذا مثال لعطاء دون أخذ ، و أخذ دون عطاء ، فكلاهما يستحق التصنيف في الدرجة الثانية ، فراكب القطار نال شيئا لم يطلبه إذ أن من يركب بجانبه تفضل عليه من تلقاء نفسه .
 أما الدرجة الأولى فهي التي لفتت إنتباهي في نشاطات الكائن البشري خصوصا ، و هي ما دفعني لكتابة موضوعي هذا ، فنحن نمارس في حياتنا كلها منذ نشأتنا و حتى يوم نلقى فيه المولى تعالى نشاطات براغماتية ، قد لا نلمسها لأنها حالات لا شعورية ، و أكثر من ذلك فبقاء حياتنا مرهونة بوجود معظمها ، إننا لا نفرز أشياء عن فراغ ، بل لأننا نتصور ما نجنيه منها من منافع ، هاته المنافع التي قد تأتي عكس التوقعات ، و كل ما توصلنا له يكون منطلقا لسلسلة من المنافع نود تحقيقها و نرتجي و الوصول لها ، و هكذا ستمر الحياة ، فنحن نسعى لما يحقق لنا السعادة و الراحة النفسية ؛ و لذلك فمساعينا إليها يكون عبر مجموعة من الطفرات ، و الإنفعالات ، و السلوكات التي تكون بمثابة الدرج الموصل لمسعانا ؛ رغم أننا أحيانا لا نصل لكن طموحاتنا في الحياة كثيرة جدا جدا ، فالفشل لا يعني عدم تكرار المحاولة مما يستدعي المرور مرة أخرى بمراحل تتسلسل كالدرج الموصل للمنتهى و المقصد ، كما أن الفشل في تحقيق رغبة ما لا يعني أنها الرغبة الوحيدة التي لا بعدها و لا قبلها رغبة ، بل إن طموحات المرء في الحياة كثيرة غاية الكثرة ، و المراحل التي نمر من خلالها كي نحقق هاته الغايات هي البراغماتية الخفية ، و الغاية التي نود الوصول لها هي البراغماتية الظاهرة ، و حتى تتضح الصورة و يزول الغموض عن المعنى ، فالمثال خير ما نقدمه بهذا الصدد :
 فلنضرب لذلك مثالا لعامل إنطلق من منزله صوب مقر العمل ، فلنحدد هنا الراغماتية الظاهرة و الخفية ، فالظاهرة هي الغاية التي يرمي إليها ؛ و تتجلى في رغبته في الوصول للعمل حتى يستفيد من الأجرة ، أما الخفية فتلك الخطوات التي أوصلته إلى مقر العمل فلو كانت مائة خطوة كافية لإيصاله و اكتفى بتسعين خطوة فلن يصل ؛ و بالتالي لن يحقق مبتغاه الذي خرج من أجله من البيت و هو الوصول لمقر العمل ، و بالتالي فكل خطوة هنا فهي حركة براغماتية لولاها لما تحققت منفعة ، و هنا نلمس بعض أوجه البراغماتية الخفية و التي يمارسها الكائن البشري في حياته كلها ، و في نفس المثال كذلك لو أن العامل خرج متأخرا ، ففي المعتاذ تلزمه دقيقتان كي يصل لعمله ، لكن بتأخره أسرع خطواته و استغرق نصف المدة ؛ و لولا ذلك لتأخر عن العمل و بالتلي سيُطرد ، و مكمن البراغماتية هنا هو السرعة التي منعت تأخره و كانت عاملا مساعدا له ، و كمثال آخر المؤمن المحافظ على عباداته ، و البراغماتية الخفية هنا تتمتل في الطمع في نيل رضى الله سبحانه و الجنة ...
كما نأخذ مثالا للكائنات الحية الأخرى ، لنقف عند أوجه البراغماتية لديها ، و هي على درجتيها ؛ لأننا أسلفنا أنها لا تملك العقل الذي يخول لها السمو للدرجة الثالثة ، سنعطي عن سلوكات بعض الحيوانات مثلا ، و لنمثل البراغماتية لدى قطيع من الأغنام ، فالدرجة الثانية من البراغماتية لديهم و هي التي تحكمها الغريزة ، نلمسها جليا في ما يبرز من سلوكات ، مثلا غريزة الجوع تجعل القطيع يسير نحو هدف نفعي براغماتي و هي الحشائش التي تزيل جوعهم ، و التزاوج فالهدف البراغماتي من ورائه هو تفريغ الرغبة الجنسية و تحقيق اللذة ، أما الدرجة لأولى و التي لا يتم الشعور بممارسة البراغماتية من خلالها و تكون خفية ، فنبقى في نفس المثالين الأخيرين ، فغريزة الجوع تتحقق تلبيتها بالأكل ، و ما بين الشعور بالجوع و تحقيق الرغبة و هي الأكل ؛ هناك سلوكات و انفعالات و حوادث و كلها تذخل في خانة البراغماتية الخفية ، خطوات القطيع نحو المأكل ، و تفاعله مع الوضع ، و كل رفع و خفض ، و حركة هنا أو هناك بها تتم تلبيية الرغبة فتلك براغماتية خفية ، و قس على ذلك التزاوج و كل ما هو مرغوب فيه .
و هكذا تتضح جليا أن حياة الإنسان خصوصا ، و الكائنات الحية عموما ؛ فهي حافلة بالبراغماتية بل أنها تسير وفقا لها طبعا على درجاتها الثلاث ، فالدرجة الثالثة تأخذ منا الحيز الأكبر فيما تليها الثانية ثم الثالثة بالنسبة للإنسان ، و هكذا نستتج أن الإنسان كائن براغماتي بالفطرة .

                                                           معتز العربي

AHMEDALI15

أوكسجين الروح القلم والورقة والحرف...كن مفكراً

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 362 مشاهدة
نشرت فى 31 أغسطس 2014 بواسطة AHMEDALI15

أوكسجين الروح

AHMEDALI15
يقوم هذا الموقع على شعار الحق في المعلومة ثم الحق في النشر ،ومن أجل تسهيل تنقل المتصفح في الموقع قمنا بتقسيمه إلى أقسام وهذه الأقسام تضم مجموعة من المواضيع المختارة ،الهادفة إلى خلق متصفح متنور لا يستحود على المعلومة فقط لنفسه بل الى مشاركة الجميع وهذا من أجل بناء وعي »

عدد زيارات الموقع

8,381