العمل.. عبادة وسيادة
أحمد نورالدين
عيد العمال، واحد من المناسبات والعطلات الرسمية الدولية التى يحتفل بها كل عام فى الأول من مايو، هذا التقليد العالمى أتانا من شيكاغو، حيث نظم العمال فى هذا اليوم عام 1886 إضرابا عن العمل شارك فيه ما بين 350 و 400 ألف عامل، تحت شعار «ثماني ساعات عمل، ثماني ساعات نوم، ثماني ساعات فراغ للراحة والاستمتاع» يطالبون فيه بتحديد ساعات العمل، ثم ما لبث أن وقع قتلى جراء هذه المطالب المشروعة، ثم انتقل الى العديد من بلدان العالم بما فيها مصر.
وليسمح لى العالم الجليل الدكتور محمد جمال أبوسنينة أن أستعير مصطلحه "العمل.. عبادة وسيادة" لما به من إيجاز مفصل لما يدور فى عقله وعقلى، تجاه ما يربط العمل من فرض أمرنا به ديننا الحنيف ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، وتبوأ سيادة ومكانة لائقة بين الأمم المختلفة، وما به من حقيقة عظيمة، جلية مفادها، أن المسلم ما خُلق ليكون نكرة وعالة في الحياة على غيره، ولا ليكون عطالا بطَّالا، بل خُلق للعبادة والعمل، والإنتاج والإنجاز معا.
وكم كان محقا الرئيس عبدالفتاح السيسي، واتفق كامل الاتفاق مع ما صرح به، خلال افتتاحه مركز البيانات والحوسبة السحابية الحكومية "P1"، منتقدا حرص بعض الأسر المصرية على إدخال أبنائهم الكليات التقليدية، من آداب وتجارة، وغيرها، مطالبا بالتركيز على التعليم الرقمي، والتركيز على إدخال أولادهم مجالات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والحوسبة، الذي يمكنه أن يدر أموالا طائلة.
وأٌقول إنه ليس أموالا طائلة فحسب، بقدر استطاعتنا استعادة مشهد حضارتنا العلمية الغابرة التليدة أيام تاريخنا المجيد، الذى كنا فيه نقود ونسوس، ونعلم فيه أوروبا آنذاك، ولم يكن لها شأن وذكر يذكر، فانقلب الحال الآن فأصبحنا عالة على الأمم والبشرية، بعد أن دمرنا العجز والخور والشلل والتواكل على الغير.
إن إيماننا ويقيننا أن العمل روح الحضارة وعصب التقدم، يدعونا للحاجة إلى الكثير من أبنائنا وبنى جلدتنا من المبدعين والمخترعين، والفنيين الحرفيين المتقنين، نعم، نحن بحاجة إلى الصناعيين، والمزارعين، والمبرمجين، والباحثين، بحاجة لمن يبنى أوطاننا وأمتنا العربية، بالعمل والعزم، والإتقان لنحقق الأمل، ونصل للقمم، ونقود الأمم كما كان.
إن القلب ليحزن والعين لتدمع حين يفاخر الجاهلون بأن العبادة هى المكسب الأوحد، وأنه بصلتك القوية بالله تستطيع أن تصل للقمر، وتأتيك التكنولوجيا فى أبهى وأحدث صورها وهى راغمة، دون أخذ بأسباب القوة والعلم والعمل، وصدق الله: "فأتبع سببا".
بيد أن المسلم والمواطن الحق ليس هو العابد في مسجده فحسب، بل الباحث فى معمله، والتاجر الأمين في سوقه، والاقتصادى فى مصرفه، والبنّاء في معماره، والفنى الحرفى أمام آلته ومكينته، والمزارع في حقله، وكل ذوى المهن الأخرى الطيبة الكسب؛ يملأون الأرض عبادة لله وعمارة، فهو كالغيث، حيثما وقع نفع، يعمل لآخرته كأنه سيموت غدا، ويعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، فلا تواكل وكسل، بل عمل دؤوب يؤجر به فى دنياه وآخرته.
وفى هذا يقول الله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"، فالجامع للحضارة والسيادة والنهضة هو العمل، الذى هو سر البقاء وروح النماء، وأساس البناء، وعلو الأمم وحضارتها، وعز شعوبها، بل لعظم العمل ومكانته عند الرب العلى جعله الله مقصدا من مقاصد خَلقه لنا، وغاية من أعظم الغايات لبقائنا، وهدفا لوجودنا في أرضنا فقال سبحانه: "هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا".
فالمسلم يعمل ولا يكسل، يعطي ولا يبخل، دائم الجد والنشاط، يخرج لعمله بهمة وعزيمة وإقدام، مؤمنا موقنا أن العمل نوع من أنواع الجهاد، وهذا نبينا الحبيب "صلى الله عليه وسلم" يمر على رجل فرأى الصحابة من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله، فقال "صلى الله عليه وسلم": "إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان".
ولعظم وأهمية العمل الحلال ما رأيناه من لقمان الحكيم ناصحا ابنه: "يا بني استعن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته وأعظم من هذه الخصال استخفاف الناس به"، وسئل سفيان الثوري يوما: دلني على عمل الأبطال؟ فقال: "كسب الحلال والإنفاق على العيال".
وديننا الإسلامى لا يعرف سنا للتقاعد، فنحن أمة أفرادها يعملون لآخر نفس في حياتهم، ولا يتركون العمل قط، كما أمرنا نبينا فخر الكون "صلى الله عليه وسلم" قائلا: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةً، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا"، وصدق الفاروق عمر حين قال كلمته الخالدة: "إني أكره أن أرى الرجل سبهلالاً" ، أى الذى لا يكون له عمل دنيوى يشتغل ويكتسب قوت يومه به، وإنما يعيش عبئا وعالة على غيره.
ختاما.. تحية لكل عمال مصر الذين أثبتوا على مرّ العصور قدرتهم على الجدّ والاجتهاد والعطاء والبذل والإخلاص والتفاني من أجل وطننا الحبيب مصر.