<!--
<!--<!--<!--
شعب «الفيسبوك»
فلاش بريس = يوسف كرماح
في الوقت الذي عرفت الوسائط التكنولوجية الحديثة أو ما يمكن الاصطلاح عليها بأخطر امبريالية في العالم، عدة انتقادات، بفعل الجهل والممارسة اللاواعية لهذه الآليات التواصلية، ما أقحمها في دوامة ثقافة التسلية والعبث، وأكسبها شحنة سلبية بانفتاحها على عدة منافذ، كالتسول الإلكتروني الذي عرف نجاحا باهرا، والتجارة الشبكية التي لقيت بدورها ازدهارا بفضل يسر المواصلات السريعة وفرص التجاوب الناجعة، فضلا عن خلق صداقات افتراضية تنتهي بأعطاب نفسية مزمنة وبعض الممارسات الصبيانية الأخرى، إلى غير ذلك من المظاهر الشاذة،.. فإن لهذه الوسائط دورا فعالا في تثقيف المجتمع وانفتاحه على العوالم المؤثرة على الحراك العام، ولها سلطة قوية مكنت الفئات المقصية بالخصوص من التعبير عن مطالبها ومعاناتها وتعرية الجراح المؤلمة التي تخفيها الجهات الرسمية وتكرس لطابعها المشين، ومعرفتها بحقوقها المشروعة، والتي كانت في السابق مجرد أمنيات.. والأكثر من هذا، أصبح بإمكان هذه الوسائط التواصلية التأثير على القرارات السياسية العامة والمساهمة فيها، ومنحت الرأي العام والمهمشين على وجه الخصوص، فرصة الانتقاد والاحتجاج على القرارات الفاشلة التي لا تلائم متطلبات وحاجيات الرأي العام، ما جعلها، بفضل هذه الوسائط، تشارك في صياغة القرار السياسي وتضغط على صُنّاعه من رقابهم.
فبفضل هذه النافذة التي لا تنام، أصبحت لكل من يجيد النقر على زر الأيقونات التواصلية سلطة جامحة في كشف المستور وتداول المحظور، مع إمكانية المشاركة في آخر المستجدات. ووفرت للسياسي والمثقف والرأي العام العادي فرصة التعبير عن القلق الذاتي والإشكالات العامة، وأصبح بإمكان الناس التوصل بآخر الأخبار والأحداث في وقت قياسي بكبسة زر. كما بات بالإمكان الاطلاع على الأخبار التي تطمسها القنوات الإعلامية ويحيطها السياسي بهالة من السرية.. سيما «الفيسبوك» الذي أضحى بؤرة احتجاج من يخشى المؤسسات الرسمية والمخزنية، ومن يعاني الإقصاء والتهميش، ومن يختنق في عنق الزجاجة.. وأصبح بإمكان الفرد أن يعبر عن حالاته الشعورية واللاشعورية، في فراشه، في نزهته، في خلوته ومجمعه، في أي مكان يرتاح فيه. كما يمكنه أن يعاين في لحظة قياسية نسبة التفاعل والتجاوب مع آرائه والاطلاع على آخر المستجدات، بل أضحى للكثير من رواد هذا الفضاء غزاة من المعجبين والمتضامنين يدافعون عن الأفكار والمطالب بالإعجاب والتعليقات التي تنفخ جهة وتمتص أخرى.
هكذا ساهم «الفيسبوك»، منذ «الربيع العربي»، في تعبئة وتوعية وتثقيف سكانه. وفوق كل هذا، أصبح علامة تجارية أو بمثابة سوق تجاري، كل من تضيق به السبل يلجأ إلى هذا الفضاء الأزرق للفسحة والاسترخاء والتواصل والعمل أحيانا؛ من وقع بين براثن مشكلة كيفما كان نوعها، يعرضها على الأصدقاء قصد التداول وإيجاد حلول مرضية للخروج من قمقمها.. ومن لا يجد منافذ لنشر خواطره وبنات أفكاره يعرضها على العم «فيسبوك» الذي يحتفي بها ويقدمها للنقد. ولكل الذين ينتظرون مثل هذه الفرص لنصب شباكهم، ومن يعاني الوحدة والقنوط والخيبة، يبحث في هذا الفضاء عن رفاق وعن خليلات للأنس ولو افتراضيا.. من يعاني أمراضا نفسية ينشرها على حصير «الفيسبوك» قصد النصح والتداوي، ولم نعد مع هذا العالم الأزرق نحتاج إلى التجسس على الآخر وجسّ طباعه وإرسال بعثات سرية تكشف نمط عيشه وكيف يفكر وماذا يريد، لسبر أغواره، بل بات كل شيء يعرض في هذا الفضاء بمجانية، حتى المأكولات اليومية، وأوقات النوم والاستيقاظ، وكم عدد من الأولاد في الأسرة التي يسابقها «الفيسبوك» ويعلن ميلادها، والأفراح والمآتم والفواجع والبشرى… وهكذا بتنا عراة على حقيقتنا المرة والمخزية، فبعض الأجهزة أصبحت تعود إلى نشير الفرد في هذه المواقع، لتتعرف على طينته وتخصص له ملفا سريعا بدون ترصد وبدون مخابرات الأحياء الثرثارة. والخصوم السياسيون أصبحوا يخصصون فرسانا في ساحة وَغَى «الفيسبوك» للدفاع عن مخططاتهم الفاشلة وعن تهورهم، والنبش في ماضي الخصوم البعيد من الصرخة الأولى إلى آخر تثاؤب.
في الأيام الأخيرة، أكد «الفيسبوك» فاعليته وسلطته التي استطاعت توحيد آراء الكثير من الجماهير، ومكنتهم من المشاركة في النقاش الدائر والسخرية من المسؤولين الفاشلين الذين تعروا على حقيقتهم.. الأمر الذي لم يقوَ عليه أي حزب سياسي ولا أي جمعية نقابية أو هاوية، واستطاع إكراه مجموعة من الأسماء السياسية العدول والتنحي عن قرارات خاطئة، كما أضحى صوت الشباب، فإذا كان الشباب في السابق يعاني الإقصاء والعزلة لأن صوته لا يصل إلى الجهات المعنية بسبب التواطؤ واللامبالاة والفبركة وهراوة القمع، فاليوم، وبفضل هذه الوسائط التواصلية الحديثة، أصبح يمتلك وسيلة فعالة للتعبير عن معاناته، وامتيازات أخرى، من قبيل التفاعل والتضامن الجماهيري، السرعة في تعميم الخبر، والإسهام في توجيه الرأي العام وتنبيهه، ما جعل النخب السياسية تعيد النظر في كثير من الأساليب التضليلية والكثير من الترهات والزلات اللسانية.. وهذا الأمر يسهم أيضا في الرقي بلغة الخطاب السياسي، والحرص على التعامل مع القضايا بحكمة بليغة واحترام الرأي العام، لأنه لم يعد، كما كان في السابق، يعيش في الأحراش والعتمة، واحترام صوت المقهور.
ساحة النقاش