<!--
<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Tableau Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
قنطرة فرانكو.. وأشياء أخرى
المساء = عبد الله الدامون
سبتمبر 06، 2015، العدد: 2775
- هل تعرف من بنى ميناء طنجة المتوسط؟
هكذا سألني صديقي وهو يحاول أن يستفزني بسؤاله لأنه يعرف أنني أعرف من بناه. لكنه، ودون أن ينتظر مني جوابا، قال: الذي بنى هذا الميناء الكبير هو الجنرال فرانكو.
أعرف أن في كلام الصديق خدعة، وأعرف أيضا أن فيه الكثير من الحكمة. وكعادتي، لم أسأل بل انتظرت المزيد من الشرح، لأن الأسئلة المتكررة تقتل سيلان الحكمة.
أشار صديقي إلى قنطرة ضيقة توجد فوق نهر بلدة القصر الصغير، قنطرة تبدو عادية جدا، لكن عمرها يقارب المائة عام، وفوقها مرت، ليس ملايين السيارات والشاحنات، بل ربما الملايير منذ أن رأت النور حتى اليوم.
قال الصديق، المحبط بأشياء لا أدركها، أن كل الشاحنات والتجهيزات التي بُني بها ميناء طنجة المتوسط مرت من فوق هذه القنطرة، وكل المسؤولين في البلاد، من أعلى مقام إلى أدنى مقام، مروا من فوق هذه القنطرة التي لولاها لما كان للتنمية في هذه المنطقة وجود. إنها قنطرة بنيت في عهد الدكتاتور الإسباني الراحل فرانسيسكو فرانكو، وضيقها يشي بكونها بنيت في زمن كانت فيه السيارات أندر من بيضة الديك، واليوم تتزاحم فوقها شاحنات عملاقة تحمل أطنانا رهيبة من الأثقال، ومع ذلك لاتزال صامدة وعنيدة كما لو أنها تحمل شيئا من روح ذلك الدكتاتور الغريب.
صديقي لم يكتف بالقنطرة، بل استمر في استفزازي بسؤال آخر، وهو يعلم أنني لن أجيب، لسبب بسيط وهو أن أسئلته تحمل من الفخاخ أكثر مما تحمل من الاستفهام العفوي.
قال لي: لو تجولت في مناطق شمال المغرب فإنك سترى الكثير من المعالم الأثرية التي تركها الإسبان، وبعضها لايزال يشكل مقرات رسمية لإدارات المغرب المستقل، وهناك إدارات كثيرة كانت تابعة للمخزن الفرانكاوي ولاتزال إلى اليوم تابعة للمخزن المغربي. هل تعرف السبب؟
– لا.. أجبت بسرعة حتى لا أقطع حبل السرد الجميل.
قال: في زمن فرانكو كانت إسبانيا فقيرة نسبيا، لكن ذلك الرجل ربى الإسبان على روح المواطنة، وأيضا جعل الفاسدين يتبولون في سراويلهم لأن الدكتاتورية الحقيقية لا تفرق بين فساد مواطن بسيط وفساد مسؤول كبير، لذلك عندما كان يتم الانتهاء من تشييد بناية ما، خصوصا المقرات الإدارية والعسكرية، كان يأتي ضابط من الجيش الإسباني وهو يحمل مسدسا به رصاصتان.. يوجه المسدس نحو أحد جدران البناية ويطلق رصاصة؛ إذا اصطدمت الرصاصة بالجدار وتبين أن البناء صلب ومتين، فإن الضابط يعيد المسدس إلى غمده ويصافح المهندس ويهنئه على عمله. أما إذا اخترقت الرصاصة الجدار وتبين أن البناء هش ومغشوش، فإن الضابط يوجه الرصاصة الثانية مباشرة نحو رأس المهندس، فيكون عبرة لنفسه ولغيره. هل فهمت الآن؟
رسمت على محياي حالة استغراب وسألته: هل هذا حقيقي؟ قال لي لو أن هذا لم يكن حقيقيا لما تفوق علينا الاستعمار وجعل مسؤولينا يسكنون ويشتغلون إلى اليوم في إدارات بناها لهم المحتل، بينما هم لم يتفوقوا سوى في السرقة ونهب الميزانيات واحتقار المواطنين وبناء قناطر تنهار بعد ثلاثة أيام.
ولكي «أقلب» الموضوع وأخفف من غضبه الذي قد يوصلنا إلى لعق العسل، قلت له إن الكثير من البنايات في الرباط والدار البيضاء وغيرهما في منطقة المستعمر الفرنسي كانت تخضع لمراقبة ديمقراطية لا علاقة لها بمسدسات الدكتاتورية الفرانكاوية. كان هناك مهندسون وفنانون معماريون يتتبعون بناء أي شيء في هذه المدن، وأي إخلال بالتصميم قد يعرض صاحبه للعقاب الشديد؛ والدار البيضاء، مثلا، لو بقيت على الحال التي بناها عليها «الفرنسيس» لظلت إلى اليوم تحفة حقيقية، لكن جاء الاستقلال المزعوم وحول الجمال إلى خراب.
نظر إلي صديقي وقال إن الديمقراطية الحقيقية تشبه في عمقها الدكتاتورية الحقيقية، وإن مسدسات فرانكو لا تختلف عن قوانين فرنسا، لأن المهم في النهاية هو أن يسود القانون ويستقيم المسؤول والمواطن وتسود الخشية من انتشار الفساد، وإن إسبانيا التي خضعت طويلا لدكتاتورية رهيبة تعتبر اليوم رقما أساسيا في الاتحاد الأوربي وتنافس أعتى ديمقراطيات العالم.
قلت له إني أومن، إلى حد ما، بمنطق المستبد العادل، لكن يجب أن يكون عادلا فعلا وليس جبارا متجبرا يزرع فينا الأوهام، فإسبانيا لم تكن لتصير على ما هي عليه لولا تلك التربية شديدة المراس التي خضع لها الإسبان في عهد فرانكو، الذي وفر لمواطنيه كل أساسيات الحياة من مأكل وملبس وأمن ومدارس ومستشفيات وبنية تحتية وظروف للعيش الكريم بكل مقوماته، ثم رفع الهراوة وقال: هل من معارض؟ في بلداننا يسرقون كل شيء ثم يرفعون الهراوة ويعدّون »القرْعة «.
لم يجب الصديق لأنه، ربما لم يشأ أن يقطع حبل حكمتي المفاجئة. صمتنا ثم يمّمنا وجوهنا نحو تلك القنطرة الفرانكاوية العنيدة وهي لاتزال تنوء بأثقال المغرب المستقل.
ساحة النقاش