فلاش بريس= رشيد نيني
سكينة والآخرون
تطرح قضية «سكينة»، فتاة سيدي سليمان المريضة عقليا التي اضطرت عائلتها إلى احتجازها وربطها إلى عمود إسمنتي طيلة عشر سنوات، بعدما رفض المستشفى خمسين مرة استقبالها والاحتفاظ بها ضمن النزلاء، سؤالا إنسانيا عميقا وسياسيا خطيرا على وزير الصحة والحكومة بأسرها.
وزير الصحة مسؤول سياسيا وأخلاقيا عن حالة التردي الشاملة التي تعرفها مستشفيات الأمراض العقلية، ولا يكفي بهذا الصدد اعترافه بذلك، فالجميع يتذكر عندما قال الوزير إن العقلاء «بروسهم» إذا دخلوا مستشفيات الأمراض العقلية المغربية فإنهم لن يخرجوا منها أصحاء، ليس فقط لأن هذه المؤسسات تسير بقانون «نوضو تركدو» يعود إلى سنة 1959، بل أيضا بسبب ظروف «الاعتقال» و«الاحتجاز» التي تسود داخلها.
كل تقارير وزارة الصحة الطبية التي تصدر حول الصحة النفسية والعقلية للمغاربة، تثير الفزع، فمرض الاكتئاب يصيب 26.5 في المائة من المغاربة، أي أن هناك ما يعادل 5 ملايين مغربي «مطونص»، بينما يعاني 300 ألف من اضطراب انفصامي، وهو الاضطراب الذي يجعل المغربي يقول لك دون مركب نقص «واحد الراس كالي سير وواحد الراس كالي ما تمشيش»، وكأن الأمر يتعلق بتنين متعدد الرؤوس وليس بمواطن.
أن يكون في المغرب مجانين وحمقى ومرضى نفسيون فهذا طبيعي، وهو أمر موجود في كل بلدان العالم. لكن ما لا يوجد في كل بلدان العالم هو أن 83 مؤسسة علاجية وحدها في المغرب توفر الاستشارة الطبية النفسية والعقلية، أي ما يمثل 0.25 في المائة من المؤسسات الصحية الأساسية، في حين لا تتجاوز الطاقة الاستيعابية في مجال الصحة النفسية والعقلية 30 وحدة استشفائية، بمجموع 2043 سريرا فقط لشعب يتجاوز تعداد سكانه الثلاثين مليون نسمة.
أي أن الكثافة السريرية للصحة العقلية تبلغ 6.3 أسرة لكل 100 ألف، وهناك مناطق كجهة وادي الذهب لكويرة وجهة كلميم السمارة، ليست بها أية بنية للطب النفسي والعقلي، وكأن سكان هذه المناطق لا يحق لهم أن يصابوا بالاكتئاب أو الانفصام أو غيرها من الأمراض النفسية.
ولحكمة إلهية فالمرض النفسي لا يفرق بين أبناء العائلات الثرية أو الفقيرة، بل يصيب الجميع، وفي المغرب هناك عائلات «مرفحة» تستطيع أن تعالج أبناءها في المصحات الخاصة بالخارج، بينما أبناء العائلات البسيطة ينتهون محتجزين ومربوطين بالسلاسل والأغلال.
مع فارق مهم وكبير، وهو أن عائلات المزاليط أكثر حرصا على سلامة المجتمع من حماقات ذريتهم، مقارنة ببعض عائلات «الألبة». فرغم الفقر والحاجة، فإن هذه العائلات البسيطة عندما ترى أن أحد أبنائها أو بناتها أصبح يشكل خطرا على نفسه وعائلته وجيرانه، يأخذونه مباشرة إلى «بويا عمر» أو أحد أضرحة الأولياء الصالحين الذين يعتقدون بقدرتهم على شفاء الأمراض النفسية المستعصية، فيربطونه هناك بالسلاسل حتى يعود إلى رشده. فالعائلات المزلوطة ليست لديها الإمكانيات المادية لإرسال أبنائها المرضى إلى مصحات متخصصة في سويسرا أو إيطاليا كما تصنع العائلات الميسورة مع أبنائها المرضى العقليين، الذين يسمح لهم آباؤهم بسياقة السيارات و«بغج» الناس في الشوارع والبحث في ما بعد عن شهادات طبية لتخليصهم من براثن المتابعة.
والنقاش الذي أثير هذه الأيام بخصوص احتجاز المرضى النفسيين وربطهم بالسلاسل، كان يجب أن يفتح عيون وزارة الصحة على الطريقة المهينة والفظيعة التي يدبر بها ملايين المغاربة الصحة العقلية والنفسية لأبنائهم.
فأغلبهم بسبب انعدام مؤسسات صحية عمومية متخصصة في العلاج النفسي والعقلي بمدنهم، يلجؤون إلى الأضرحة والأولياء أو أقبية البيوت لاعتقال ذريتهم عراة حفاة وفي ظروف صحية مخجلة، اعتقادا منهم بأن اعتقال أبنائهم بالسلاسل والأقفال الصدئة في تلك الأماكن المتسخة والمظلمة سيساعدهم على استرجاع قدراتهم العقلية.
والواقع أن هذه الملايين من هذه العائلات الفقيرة تلجأ إلى هذا الحل لتكلفته البسيطة من جهة، ومن جهة أخرى لاتقاء شر أبنائهم المرضى الفاقدين لأهليتهم العقلية.
فاليوم في المغرب، بسبب الكآبة والقلق والمخدرات بكل أنواعها، أصبحت أغلب العائلات لديها مريض نفسي أو مريضة عقلية يتعايشون معهما في البيت، ويحسبون لانفعالاتهما ونوازعهما الإجرامية ألف حساب.
والذين يعيشون مع مختل عقلي أو مريض نفسي بالانفصام أو غيره من الأمراض النفسية الخطيرة، يعرفون أي جحيم هو أن تكون مجبرا طيلة الوقت على إخفاء سكاكين المطبخ والآلات الحادة في أماكن يصعب على المريض الاهتداء إليها.
في مثل هذه البيوت تنام الأمهات بعين واحدة فقط، ويصبح إخوان المريض وأخواته مجندين باستمرار تحسبا للطوارئ. فلا أحد يمكن أن يتكهن بما يدور في ذهن مختل عقلي.
وهذه العائلات البسيطة التي ليس لها مال ولا جاه، تلجأ إلى حبس أبنائها المجانين والمرضى النفسيين في البيوت وأقبية الأولياء، حرصا على تجنيبهم الوقوع في قبضة الأمن والقضاء إذا ما دفعهم جنونهم إلى اقتراف جرائم أو مخالفات تقع تحت طائلة القانون.
فهم يعرفون بحكم التجربة أن الشهادات الطبية التي سيدلون بها أمام القضاء لتبرئة أبنائهم المرضى، لن تؤخذ بعين الاعتبار. والأمثلة كثيرة في هذا الباب.
نعرف جميعا أن الذين يعيشون في المحنة ليسوا أبناء المصابين بأمراض نفسية سواء كانوا أثرياء أو مزاليط، وإنما الذين يعيشون في المحنة حقيقة هم الآباء. ولا أحد منا يتمنى أن يكون في مكان هؤلاء، لأن كل من جرب العيش مع مريض نفسي تحت سقف بيت واحد يعرف أي جحيم هو أن ترى ابنك أو ابنتك تتعذب أمامك يوميا دون أن تستطيع انتشالها من القبو الذي تغرق فيه.
لكن إحساسنا بألم عائلات المرضى النفسانيين لا يجب أن يحجب عنا ألم العائلات التي تتحمل الخسائر الناتجة عن جنون وحماقات هؤلاء الآخرين.
لذلك فقد آن الأوان لكي تضع وزارة الصحة مخططا عاجلا لمعالجة الاختلالات الفظيعة في منظومة الصحة النفسية، وخصوصا المراكز الصحية التي يقول وزير الصحة إنها تحولت إلى ما يشبه «عكاشة».
إن اعتراف سعادة الوزير بفظاعة هذا الوضع لا يكفي، بل مسؤوليته بالضبط هي تحويل هذه المراكز الضحية إلى مؤسسات تحترم آدمية المغاربة المرضى وتقدم لهم العلاج الذي يناسبهم بعد توفير بنيات استقبال تستوعبهم، عوض تركهم يهيمون في الشوارع مهددين سلامة المواطنين والسياح الأجانب، أو إهمالهم في أقبية البيوت المظلمة.
ولعل زيارة سريعة لسعادة الوزير لمستشفى الرازي للأمراض العقلية بسلا، ستجعله يبكي حسرة وألما على الواقع المخزي وغير الإنساني الذي يعيشه المرضى هناك. فهم ليسوا نزلاء في مستشفى وإنما معتقلون في سجن بزنازين تفتح وتغلق عليهم حسب الزيارات.
أنا على يقين تام بأننا لا نعدم الإمكانيات لبناء مستشفى حقيقي للأمراض العقلية، لكننا نعدم الإرادة والعزيمة على القيام بذلك. فمن يبني مدارتين كبيرتين في أسبوع بمناسبة كأس العالم للأندية بالقرب من مركب مولاي عبد الله بالرباط، يستطيع أن يبني في شهر مستشفى للأمراض العقلية في كل جهة من جهات المملكة.
ساحة النقاش