المساء = محمد أمزيان
دودة السـَّلـَطة والاتحاد السوفياتي
العدد :2549 - 09/12/2014
رفعا لما قد يتشكل من لبس، أبادر إلى القول بأنني لا أعمم ولا أصفي حسابا. أعتز بأصدقاء حقيقيين من جهة اليسار جمعتني وإياهم دروب الحياة في السراء والضراء، أعتز بأصدقاء حقيقيين من جهة اليمين اكتشفت معدنهم الإنساني النبيل زمن الشدة. سياسيا، لا أنتمي إلى هذه الجهة ولا إلى تلك. لدي، بطبيعة الحال، أفكار وقناعات أحاول التعبير عنها بقدر معقول من الصراحة؛ ولدي مبادئ أرسم على ضوئها، قدر الإمكان، معالم طريقي. عدم انتمائي لا يعني أنني أناصب المنتمين العداء، بل أحترم توجهاتهم بلا عقد.
بيد أن الصدر يضيق من المبالغة في «تقديس» الانتماء و»تبخيس» حق الاختلاف. لاحظ القاموس السياسي لدى زعماءِ أحزاب كبرى يفترض أنهم من النخبة القائدة، عبارة عن كلام لا يراعي أدنى أدبيات النقاش، وتمسك مرضي بـ»الحقيقة» المطلقة؛ أما «الغير» فإلى الجحيم، وهو قاموس يزخر بالتوصيفات الجاهزة: رجعي، ظلامي، ملحد، انفصالي، خائن... ولعل كبرى الكبائر أن يقدم شخص على تغيير انتمائه السياسي بآخر، قد يكون مغايرا تماما لانتمائه السابق، من اليسار إلى اليمين مثلا. في بعض الأدبيات السياسية، يقال عن هؤلاء إنهم غيروا «جلدهم» أو غيروا «الخندق» أي انتقلوا إلى «الخندق» المعادي، وبمعنى آخر إنهم «خانوا» مبادئ الحزب، خانوا الوطن! كلها قوالب شمولية، مريضة، لا تؤمن بالآخر.
أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، كانت الجامعات المغربية ماتزال خاضعة لفصيل طلابي بعينه. آنذاك، لم يكن للإسلاميين وجود في الساحة ولا للحركة الثقافية الأمازيغية ولا للأحزاب «الرجعية» مثل حزب الاستقلال. هذا الحزب كانت له نقابته الطلابية الخاصة به. أذكر أن نقاشات بعض الرفاق كانت مفيدة حقا لفهم آليات الصراع السياسي، لكن ما لم أستوعبه أبدا هو نزعة السيطرة التي كانت بمثابة العملة الرائجة لدى كل فصيل طلابي؛ فبمجرد أن يتسلم الكلمة «رفيق» من «رفيق» آخر حتى يغوص في عوالم لا تنتهي، ومصطلحات عصية على الفهم والهضم. من «الرفاق» الموهوبين في فن الخطابة من كان يحتكر الكلمة لساعات مديدة، متفوقا على فيديل كاسترو بكثير؛ بل حدث أن انبلجت أسارير الصباح دون أن ينهي «الرفيق» مرافعته ضد الإمبريالية والبرجوازية الكومبرادورية، ولا يغادر الساحة حتى يتم التفاهم على أنه هو من يبتدئ الكلام في «حلقة» المساء الموالي.
لاحقا، وبعد أن علمتني الهجرة ما لم تعلمه لي الجامعة، أدركت أن تمطيط زمن المداخلة كان الهدف منه حرمان الفصيل الآخر من فرصة أخذ الكلمة. والغريب أن المتدخلين كانوا لا يملون من ترديد مصطلحات «ديمقراطية» و»حرية التعبير» و»حقوق الإنسان»! كلهم كانوا ديمقراطيين نموذجيين نظريا، لكنهم في الواقع كانوا مستحوذين، أحاديي التفكير. اكتشفت بشكل متأخر جدا كم كانت الشعارات مستحكمة في رقابنا كالأغلال، وكم كانت ملكة النقد مغيبة.
في إحدى المرات، وقفنا في طابور طويل أمام باب المطعم الجامعي، وحدث أن عثر طالب بالصدفة على دودة تقاسمه وجبة سـَلـَطة الخس، فما كان من الطالب إلا أن احتج على رداءة الأكل. هنا انبرى بعض رفاق «التعاضدية»، تسلموا غضبة الطالب وفتحوا «حلقة» نقاش. أمر عادي. لكن ما لفت نظري آنذاك هو المنحى الذي اتخذه النقاش.. فأحد المتدخلين طرح إشكالا عويصا يستعصي على الفهم، متسائلا: هل الاتحاد السوفياتي حليف مرحلي أم حليف استراتيجي؟ في الواقع، اندهشت أنا القادم من منطقة ريفية نائية تـُختزل معلوماته عن الاتحاد السوفياتي في وزير خارجيته بريجنيف وفي كلمته المشهورة: «نييت» وتعني «لا». لعنت في داخلي ضحالة معرفتي السياسية. وبعد أن زالت الدهشة تساءلت: ما علاقة دودة السـَّلـَطة بالاتحاد السوفياتي؟ بعد مرور سنوات على هذا الحادث، التقيت بزميل سابق في الدراسة واستعدت معه هذه الحادثة التي تحولت إلى طرفة. هو، أيضا، لم يعرف العلاقة «السببية» بينهما، إلا أنه شرح لي كيف كان النشطاء السياسيون يستغلون بعض الأحداث الصغيرة لإثارة قضايا سياسية كبيرة.
اليوم، نرى نفس الاستقطاب مع فرق طفيف. استبدلت الكومبرادورية بالعولمة، والعنف الثوري بالإرهاب، والانتهازية بالبراغماتية.. أما من اختار السير مع اتجاه الريح، فقد «تمخزن» ومن «تمخزن» فقد ضل ضلالا كبيرا.
ساحة النقاش