المساء = جمال بدومة
قهوة و«شفنجة»
العدد :2533 - 20/11/2014
أكثر شيء ازدهر في المغرب، خلال السنوات الأخيرة، هي المقاهي، حتى صار الناس يرددون أن «بين كل مقهى ومقهى يوجد مقهى»، لأن المغاربة يحبون الثرثرة و»التبركيك» و»لهم فيها مآرب أخرى»، وكثير من موظفي الدولة يقضون في هذه الأمكنة أكثر مما يمضون وراء مكاتبهم، دون أن يعاقبهم أحد. ولأن القطاع مربح، فإن ثمة منافسة شرسة من طرف المستثمرين في «أوقات فراغ المغاربة»، لدرجة أن المقاهي لا تزداد إلا فخامة مع مرور الأيام، بأسعار استهلاك تنافسية. دون الحديث عن المشروبات المتنوعة التي يجري اختراعها كل يوم، وعن أصناف «الفطور» البلدي والرومي و»الكونتينانتال» و»أملو» و»أركان» و»الخليع»... هناك مزايدات في المعمار و»الديزاين» وفخامة الطاولات والكراسي والكؤوس والفناجين، لدرجة أصبحنا نتوفر معها على مقاه لا توجد في كبريات العواصم العالمية، بعضها يعطيك الانطباع أنك إذا أردت الدخول لا بد أن تتوفر على جواز سفر أجنبي أو «فيزا شنغن»، بسبب كل «الفخفخة» و»الهيلمان» الذي يحيط بالمكان، وهو شعور يتقاسمه على الأرجح كل المغاربة البسطاء، الذين صعدوا من أسفل السلم الاجتماعي. كثير من أبناء الفقراء يشعرون أن مجموعة من الأماكن ليست لهم، ولا يمكن أن يدفعوا أبوابها لأنها صمّمت من أجل أشخاص «آخرين»، رغم أنهم مواطنون مثاليون ويدفعون الضريبة ويصوتون في الانتخابات. لا أتحدث فقط عن المقاهي الفخمة والمطاعم التي يقف أمامها حراس مزهوون بعضلاتهم، ولا عن النوادي المغلقة والأسواق العصرية التي يتطلب المرور منها مبالغ مالية محترمة، بل حتى أماكن عادية جدا مثل المعارض والمتاحف والبنوك والإدارات... التي يفترض أنها مفتوحة في وجه الجميع. ولعله شعور نجرجره منذ الطفولة، نحن الذين أتينا من «المدن السفلى»، على حد تعبير الشاعر الراحل عبد الله راجع، رغم أننا كبرنا وكسبنا بعض الاحترام والقيمة. عندما كنا صغارا كنا نحس أن جميع الأمكنة النظيفة والمحترمة ممنوعة علينا، لا يمكن أن تقبل علينا إلا «الزبالات» والمقابر والحقول الجرداء، مع الحيوانات والحشرات والثعابين، ربما بسبب كل الحماقات التي كنا نرتكب طوال النهار. ندخل إلى المسجد وقبل أن نصلي ركعتين نطلب فيهما من الله أن يمسح ذنوبنا الصغيرة، نجد من ينهرنا، لأننا «ندنس المكان»، نذهب إلى «دار الشباب» كي «نستفيد من الأنشطة التربوية والرياضية والثقافية» ويطردنا الحارس شر طردة بسبب سحناتنا المشبوهة، نلعب في الدرب ويخرج أحد الجيران كي يمزق لنا الكرة البلاستيكية وهو يشتم «سنسفسل» جدودنا... إنها «ذاكرة القهر» المشتركة بين أجيال من المغاربة، أيام كانت الحياة بالأبيض والأسود. لحسن الحظ أن هذه الذاكرة مليئة بالحكايات المسلية أيضا، حيث ينتقم الأطفال أحيانا من الكبار بكثير من الطرافة. ذات يوم، كان بعض الأطفال يلعبون الكرة في حي شعبي قرب محل أحد بائعي «الشفنج» المشهورين، ويبدو أن «الشفناج» أزعجه صراخ الصغار، فما كان منه إلا أن خرج غاضبا وأمسك الكرة بين يديه المليئتين بالطحين والزيت ثم مزقها بعنجهية. ولأن «الانتقام وجبة باردة»، فقد هيأ الشياطين خطة جهنمية للنيل ممن ارتكب جريمة في حق الكرة البلاستيكية. جاؤوا بعد العصر، في الوقت الذي حضّر فيه «الشفناج» عجينته العجيبة وصب برميل الزيت في المقلاة، وعندما صارت الفقاعات تتطاير من شدة الحرارة، داهموا المحل ورموا «طوبّة» كبيرة وسط المقلاة ثم أطلقوا سيقانهم للريح، ما إن غمرها الزيت حتى انفجرت «الطوبة» محدثة صوتا لن ينساه «الشفناج» طوال حياته. طبعا انتشر الخبر في كل الأحياء المجاورة، ومن يومها لم يبع الرجل «شفنجة» واحدة، بسبب قرف الناس مِن سلعته التي صارت تذكرهم بـ»طوبّات» محروقة في الزيت. ورغم إقدامه على تغيير المقلاة وصبغ المحل وإعادة ترميمه، ظل المسكين ينش الذباب بعد أن هجره كل الزبائن. في النهاية قرر تغيير المحل ومغادرة الحي لعله يتخلص من لعنة «الطوبة» المقلية.
ساحة النقاش