المساء = عبد الله الدامون
السّبسي والسّيسي وحفتر.. وآخرون
العدد :2541 - 29/112014
تونس قامت بانتفاضة ضد الجنرال بنعلي فهرب الجنرال نحو السعودية وبقيت في تونس مساميره، ومن بين هذه المسامير يوجد رجل من الزمن القديم اسمه.. السّبْسي.
في المغرب نطلق اسم السّبْسي على شيء مختلف تماما، ونعرف جيدا أن الذي يدخن السّبْسي طويلا يتحول إلى مسمار، وفي الماضي كنا نستخدم عبارة «حزب السّبْسي» كتعبير عن التخدير العام الذي تمارسه الدولة على الشعب.
وهناك مشكلة أخرى، وهي سريالية هذه المرة، لأنه لو حدث ونزلت ذبابة على حرف «الباء» في كلمة «السبسي» فسيصبح السّبسي هو السيسي، وستكون معضلة ما بعدها معضلة.
العرب غريبون جدا حتى في انتفاضاتهم وثوراتهم. كل الثورات في العالم تنصب المشانق لأعدائها وتقطع مع العهد القديم، أما في بلدان العرب، فإن العهد القديم هو الذي ينصب المشانق للثورات ويعيد إلى الواجهة أشخاصا من الزمن القديم. إنه تطبيق حرفي للحكمة المغربية «الجديد بجدّتو.. والبالي لا تفرّط فيه».
من عادة الثورات في العالم أن تجُبّ ما قبلها، ومن عادات الانتفاضات العربية أن تستعيد ما سبقها، وهكذا صار على الشعوب العربية أن تقايض الاستقرار بالتنازل عن انتفاضاتها، لذلك عاد السّيسي إلى حكم مصر، وقد يعود السّبْسي إلى تونس، وعاد حفتر إلى ليبيا، وفي اليمن لم يبتعد النظام القديم أصلا حتى يعود، وفي سوريا انقلبت الثورة إلى حسابات إقليمية ودولية حطبها الشعب السوري.
كل الأنظمة العربية التي سقطت بقيت مساميرها مدقوقة في قلب الشعوب، ولم يمر وقت طويل حتى عاد كل شيء إلى مكانه القديم، تارة بالانقلاب وتارة بصناديق الاقتراع، وكأن الثورة لم تكن إلا حلما أو خلسة المختلس.
المغاربة يرددون حكمة جميلة عن النتائج الكارثية للانطلاقات الخاطئة، والحكمة تقول «من الخيمة خرْج مايْل»، أي أن الفارس الذي سقط عن فرسه في النهاية كانت وضعيته منذ البداية تنذر بسقوطه عندما ركب الفرس أعوجا، لذلك فإن السقوط لا يشكل مفاجأة سوى للذين لم يعاينوا الاعوجاج منذ البداية.
تونس، التي تبدو اليوم الناجية الوحيدة في خيبات الربيع العربي، لا يبدو أنها ستستمر ناجية إلى الأبد، ليس لأن الإسلاميين يكْفرون بالديمقراطية، بل لأن الجميع يكفرون بهذه الديمقراطية عندما تتوفر شروط الاستبداد، لذلك فإن عودة السّبْسي بطريقة ديمقراطية إلى سدة الحكم، حتى وإن كانت على صهوة صناديق الاقتراع، إلا أنها تُعتبر عودة لفلول نظام بنعلي بكل تجلياته، والأنظمة العميقة تتوفر على عدة رؤوس، تماما مثل أسطورة التنين متعدد الرؤوس، فلا يهم أبدا رحيل بنعلي إن بقي في البلاد «بنْعليّون» كثيرون.
في مصر كان العساكر مستعجلين أكثر من اللازم ولم يطيقوا صبرا فنفذوا انقلابا عسكريا دمويا وانتهى كل شيء وتحولت القنوات التلفزيونية المصرية إلى حدائق حيوانات مليئة بكل أشكال العويل والنباح ضد كل من يرفع سبابته ضد «البْرُودْكانات». الذين يلومون الإخوان المسلمين على أخطائهم يعرفون أن الحكاية ليست حكاية أخطاء، فالقضية تشبه تماما حكاية الذئب الذي وقف أعلى الوادي ينظر إلى الخروف وهو يشرب ويتهمه بتعكير الماء، فرد عليه الخروف بأنه يوجد في أسفل الوادي والماء من جهة الذئب يجري، فرد عليه الذئب بأنه آكله في كل الحالات. في الغابة لا يحتاج المفترس لأن يقدم أسبابا وأعذارا لفريسته قبل افتراسها، لأن قانون الطبيعة يجعل الأقوى يسود، وهذا ما لم تفهمه الشعوب العربية الضعيفة.
في ليبيا يتمنى الليبيون لو أن معجزة خارقة تحدث ويعود القذافي من قبره المجهول ليعيد البلاد إلى سابق عهدها، لذلك يتمنى الكثيرون أن تفتك جحافل العقيد حفْتر بالمليشيات التي هيمنت على مناطق واسعة من البلاد. أما هذه المليشيات فترى أنها كانت ضحية انقلاب قبل الأوان، حيث تم استعمالها من أجل الإطاحة بالقذافي، وعندما تم ذلك أرادوا أن يدفنوها جنبا إلى جنب مع سيادة العقيد، لذلك فالحرب هناك طويلة وبلا قرار.
في تونس ومصر وليبيا تختلف المظاهر، لكن العمق يبقى واحدا، فالثورات «خرْجت من الخيمة مايِْلة»، لذلك لا مناص من سقوطها، والمثير أنها سقطت أسرع مما كان متوقعا.
على مر التاريخ البشري، كانت الثورات تتسم بقواعد معينة، إنها تقلب و»تُشقلب» كل شيء. تقلب الأرض وتحرقها ثم تحرثها من جديد وتزرع فيها نباتا جديدا ويصبح الماضي كله في خبر كان.
الانتفاضات العربية، التي نسميها ثورات، هي مجرد حركات يائسة لشعوب عانت طويلا من التفقير والتجهيل، وأصبح كثير من أفرادها يحسون باليتم بعد رحيل الزعيم، لذلك يبكي الكثير من الفقراء المعوزين الذين لا يجدون قوت يومهم حين يموت رئيس الدولة، وهو نفسه الذي جوّعهم وجوّع آباءهم وأبناءهم.
ساحة النقاش