فلاش بريس = محمد الأشهب
مسيرتان والثالثة قادمة
مسيرتان في واحدة. بدأ زحف السادس من نوفمبر من العام 1975، حين انسدت الآفاق، وتوقفت المسيرة الخضراء عندما لاحت نقطة الضوء في نهاية النفق. ولم يحظ حدث بالاهتمام الوطني والدولي كما عرفه حدث القرن الذي سجل في روائع التعبير عن الإرادة الحرة للشعوب في الوحدة والتحرر.
وطنيا انمحت الفوارق بين المعارضة والموالاة، وبعد قطيعة تخللتها أشواط صراع مرير، سار الطرفان جنبا إلى جنب. تناست فصائل المعارضة خلافاتها مع النظام والحكومات المتعاقبة، وتجاهل القصر منسوب الحذر إزاء المدى الذي كان وصل إليه الصراع. وإذا كان لابد من إيجاد مفصل في التأريخ للتقارب التاريخي الذي تطور إلى انجذاب نحو المشاركة السياسية، على رغم ما اعتراها من نواقص، فإن حدث «المسيرة الخضراء» كان فاصلا، وأبان عن قدرات المغاربة على الانصهار كلما تعلق الأمر بالمعارك المصيرية التي تهم الدفاع عن الوطن والوحدة الترابية، والسعي لدمقرطة الحياة السياسية.
إقليميا ودوليا، خاض المغرب آخر مواجهة دبلوماسية مع الجار الشمالي في شبه الجزيرة الإيبرية، وبالقدر ذاته رفع لواء الشرعية الدولية، حين لم تكن تقليعة سائدة.
فقد ذهب إلى محكمة العدل الدولية يستمزج الرأي حول وضع الأقاليم الجنوبية، قبل وقوعها تحت الاحتلال الإسباني. فعل ذلك لإحباط آخر محاولة إسبانية همت ربط تلك الأقاليم بالخيار الاستعماري، وساعده في حيازة إنصاف مستحق، قانونيا وتاريخيا، أن الأمم المتحدة هي التي عززت مسعى طلب استشارة محكمة العدل الدولية في لاهاي، أي أن القرار كان دوليا، حين لم تكن هناك أطراف أخرى غير المغرب وإسبانيا يتنازعان السيادة على الإقليم، وإن رجح الاعتقاد الراسخ بأن الاحتلال الإسباني لا يرتقي إلى درجة السيادة، بل كان أشبه بإدارة إقليم في طريقه إلى التحرر. لذلك حين انسحبت الإدارة والجيش الإسبانيان سلما الإدارة وليس السيادة التي لم يكونا يتوفران عليها.
على المستوى الإقليمي، لم يكن واردا أن تدخل الجزائر على خط معاداة المغرب، مرحليا على الأقل. فقد أقرت بشرعية كفاح المغاربة من أجل استعادة أجزائهم المغتصبة جنوبا، لكنها ناقضت وعودها عند أول منعطف، واستلمت العداء الإسباني بأريحية، لا مكان فيها لقيم الجوار وشرعية الحقوق وتضامن الأشقاء، لم تكتف بالقول أن تجميع 350 ألف متطوع في اتجاه الصحراء «سيشكل خطرا على أمنها» كما صرح بذلك الرئيس الجزائري هواري بومدين، وإنما أرفقت سياستها بكم هائل من المناورات العدائية التي اتحد فيها الجيش والدبلوماسية الجزائرية بالمكشوف.
حدث هذا، يوم لم يكن هناك من يتحدث عن وجود شعب آخر غير المغربي يطالب بالسيادة على أراضيه. ولم تتأخر دول عربية وأجنبية وتنظيمات دولية عن المشاركة الرمزية في المسيرة الخضراء، للدلالة على نيل أهدافها. كونها أول مواجهة سلمية رفعت الأعلام والمصاحف، ولم تعرف طلقة رصاص واحدة. وسجلت بذلك كأول حدث سياسي يفضي إلى إنهاء الاحتلال دون إراقة الدماء.
فيما كانت المسيرة الخضراء تزحف لتحطيم الحواجز الوهمية بين أجزاء الوطن الواحد، كانت هناك مسيرة ديبلوماسية تدخل فيها مجلس الأمن وبلدان صديقة وازنة، وكان الرهان المحوري أن المسيرة لن تتوقف إلا بعد تحقيق أهدافها، وفي مقدمتها جذب السلطات الإسبانية إلى طاولة المفاوضات التي توجت بإبرام اتفاق مدريد. غير أن الجانب الآخر في المسيرة الذي شمل إلحاق الأقاليم المسترجعة بركب التنمية لم يتوقف أبدا. وبعد أن ترك الاحتلال الإسباني منطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب بلا منشآت ولا مرافق ولا معاهد ولا طرق ولا مستشفيات، ضحى الشعب المغربي من أجل دعم جهود التنمية التي حولت المدن الصحراوية إلى نماذج متطورة.
لا يعني ذلك البتة أن كل الأهداف تحققت، فلا زالت هناك تحديات كبرى، على طريق الإدماج النهائي الذي يشمل المجال التنموي والإقرار الدولي بنهاية التوتر. وعلى رغم أن الميدانين يختلفان، من حيث المنطلقات والتوجهات، فهنا يلتقيان عند تمازج التنمية والوحدة. وربما جاز القول أن المسيرة تتجدد في كينونتها كل سنة. فقد انشقت أعداد كبيرة من الأشخاص المنحدرين من أصول صحراوية عن الجبهة، وكان التحاقهم بالوطن دليلا إضافيا على نهاية الوهم. لكن بقاء مغاربة في مخيمات تيندوف سيظل يؤرق الشعب المغربي وكل الجهات التي تنشد الوئام والمصالحة ورفع المعاناة وجمع العوائل إلى بعضها، لتعيش في أمن واطمئنان وتصنع فصلا جديدا من تاريخ الوحدة.
اللافت أن الاستعمار الإسباني عجز عن استعباد الصحراويين الأحرار الذين لا يرون بديلا عن الهوية المغربية. وما بالنا ودولة جارة اسمها الجزائر تجرب معاكسة التيار، عبر محاولة تمثل ما عجزت عنه الآلة الاستعمارية، لكن ظلم وحيف ذوي القربى أشد وطأة.
كانت هناك مسيرتان في واحدة، والثالثة قادمة لا ريب فيها.
ساحة النقاش