فلاش بريس - المصطفى مورادي
الانحياز لمصاصي الدماء
أدلى رئيس الحكومة بتصريحين في أسبوع واحد، يعكسان بشدة فهمه للديموقراطية والتنمية، كما يعكسان الأفق الذي يفكر فيه وهو يقود حكومة مغرب ما بعد الحراك الشعبي لـ 2011، الأول كان يوم الأربعاء الماضي، وهو الذي ألقينا عليه الضوء في هذا العدد، والذي يطالب فيه الدولة برفع يدها عن القطاعات الخدماتية كالتعليم والصحة، وهو تصريح يكرر حرفيا ما كان ينادي به البنك الدولي منذ الثمانينات «السوداء»، والثاني، كان يوم السبت، عندما وصف الإعلام المنتقد لأدائه وأداء حكومته بـ«سيء النية»، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف للمغرب أن يحقق التقدم، وأن يتقدم في الخيار الديموقراطي إذا ضاق صدر مدبري الشأن العام من الرأي المخالف، ومن حرية الإعلام تحديدا؟ وكيف لحكومة، تدعي أنها «البنت الشرعية» للحراك الشعبي لـ 2011 أن تفكر في التخلي عن تعليم وصحة أبناء الشعب لصالح القطاع الخاص؟
ليس في نيتي أن ندخل مع السيد رئيس الحكومة في نقاش حول حيوية حرية الإعلام بالنسبة لديموقراطيتنا الناشئة، فللإعلام نساؤه ورجاله، وهم قادرون أكثر مني، على رد التهم المشككة في نواياهم، كما لا أريد أيضا، أن أدخل مع رئيس الحكومة في مختلف التشعبات النظرية التي يقتضها تبنيه، وهو «الإسلامي الوطني»، لخطاب ليبرالي متطرف، تمليه جهة لا تهمها أجندات الأوطان، علما أن تاريخ الأمم المتمدنة يعطي الأدلة الدامغة على الدور الذي كان للإعلام الحر والمدرسة العمومية تحديدا في تحقيق ذلك، إذ أحسبُ أن انشغاله في التدبير اليومي لن يسمح له بقراءة كتاب ضخم بحجم كتاب أليكسي دوطوكفيل «عن الديموقراطية في أمريكا»، وهو الكتاب المرجعي، لكل دارس للسياسة والعلوم الاجتماعية، والذي يعطي بالحجة التاريخية والعلمية، أن خلف أمريكا، التي يكرهها هو وإخوانه بسبب مواقفها السياسية، هناك حضارة راسخة تعززت بحرية الرأي أولا، وبالتعليم الذي لملم هويات عرقية وثقافية ودينية متناقضة في هوية واحدة اسمها «الأمة الأمريكية» ثانيا، فلو أتيح للسيد بنكيران أن يقرأ هذا الكتاب، سيعرف لماذا تحرص الدولة الأمريكية، وهي رائدة اللبيرالية في العالم، والفاعل الرئيسي في صندوق البنك الدولي، على أن يتعلم التلميذ الأمريكي، في كل مراحل ما قبل التعليم الجامعي، اللغة الإنجليزية وتاريخ أمريكا تحديدا، لأنه ببساطة، تلك الأمة خلقت نفسها من عدم، من خلال هاتين الركيزتين.
فإذا كان رئيس الحكومة ينظر لقطاع التعليم تحديدا، كعبء على الموازنة العامة، فإنه بالنسبة لأمم أخرى، صمام الأمان في مواجهة المستقبل، بل ومصدر ثروة، مصدرها الاستثمار في العنصر البشري المنتج للمعرفة.
قلت لا أريد أن أدخل مع سيادته في مناقشات فرعية كهذه، بالرغم من أهميتها، ولكن نقلب اتجاه النقاش نحو مسألة أخرى، وهي: هل القطاع الخاص، بوضعه الحالي، والخارج عن كل سيطرة، يستحق أن يكون بديلا للدولة في تدبير قطاعي التعليم والصحة؟ أليس عجز الدولة على فرض منطق الشراكة على القطاع الخاص في هذين المجالين الحيويين دليل قاطع على ضرورة استمرار الدولة في تحمل مسؤوليتها في هذين المجالين الاجتماعيين؟ ثم ماذا يعني أن يدلي السيد بنكيران بتصريح كهذا في الأسبوع ذاته الذي يتقاسم فيه ممثلو الشعب المغربي هموم مدرسة الوطن في المشاورات الجهوية؟ أي رسالة سيفهمها عموم المواطنين عندما يسمعون أن رئيس حكومة بلدهم مصمم على تفويت تعليم أبنائهم لمستثمرين أثبتوا مرارا لا وطنيتهم؟
وسنكتفي هنا، على سبيل «التنبيهات والإشارات»، بذكر مثال تفويت الباكلوريا الدولية للقطاع الخاص، ولنلقي جانبا كل ماجاءت به دفاتر التحملات المنظمة لهذا التفويت، لأنها، قياسا لما يحدث في الواقع، مجرد حبر على ورق، ونكتفي فقط بالحديث عما يهم الأسر، وأقصد الجوانب المادية لتدريس أبنائهم في هذه الأسلاك.
ففي البند 16 من هذه الدفاتر، نجد تأكيدا على ضرورة عدم رفع رسوم التسجيل وواجبات التمدرس في هذه الأسلاك، إذ ينبغي أن تبقى مساوية للباكلوريا العادية، لكن الذي يحدث على أرض الواقع، هو أن أرباب هذه المدارس وجدوا صعوبات كثيرة في إيجاد مدرسين متمكنين من التدريس باللغات الأجنبية، أي مدرسين للرياضيات مثلا، يُدرسون بالفرنسية وبالإنجليزية وبالإسبانية، لذلك فهم يستعينون بالدكاترة والمبرزين، وهؤلاء يفرضون أجورا عالية، قياسا للمدرسين الذين يُدرسون باللغة العربية، مما «أجبر» أرباب هذه المدارس على فرض واجبات تمدرس أعلى، ضدا على دفاتر التحملات، بل وإن عدم مسايرة التلاميذ لإيقاعات التعلم باللغات الأجنبية، جعل الأسر تلجأ للدعم في هذه اللغات، وهذا ما تتكفل به هذه المدارس أيضا، وبأثمنة خيالية شهريا، بل وتفتقت «عبقريتهم» الاستثمارية، بمقترحات لإغراء الأسر، وهي اعتماد نوع من «السلك الإعدادي الدولي»، بحجة إعداد التلاميذ للقبول في سلك الباكلوريا الدولية، أي تدريس مواد التعليم الإعدادي باللغات الأجنبية، حيث لا يتعدى نصيب اللغة العربية الحصة الواحدة في الأسبوع، وهذا «المقترح» تدفع الأسر طبعا تكلفته، لأن دفاتر التحملات تتحدث فقط عن واجبات التمدرس في الباكلوريا وليس في الإعدادي.
هذا معطى، يمكن لرئيس الحكومة التأكد منه بوسائله الخاصة، لاسيما وهو العضو في رابطة أرباب مدارس التعليم الخصوصي، وهو معطى لا مشاحتة في المصطلحات أنه احتيال مقنع على القانون، وابتزاز مبتكر واستثمار في أحلام الأسر المغربية، التي لم تعد ترى في المدرسة العمومية إلا مؤسسات لإنتاج الإجرام والبؤس والبطالة.
لذلك فبدل أن يسعى رئيس الحكومة، لمراقبة القطاع الخاص وتنقيته من مصاصي الدماء، وبدل أن يسعى جاهدا لإعادة الثقة الشعبية في المدرسة العمومية، والتي بدونها لن ينجح أي إصلاح، هاهو يدق آخر مسمار في نعش المدرسة المغربية، لينضاف سعادته إلى ملايين العدميين الذين تتناسل بهم هذه الأرض غير السعيدة.
ساحة النقاش