فلاش بريس = محمد الأشهب
من أين لك هذا؟
قبل أن يقول القضاء كلمته في ملفات الفساد والتجاوزات وإهدار المال العام المعروضة عليه، تحتاج البلاد إلى وقفة تأمل، يكون محورها طرح السؤال: كيف وصلنا إلى هذا الانحدار؟ ولماذا أصبح المال العام والاغتناء غير المشروع سلعة متداولة برسم المصالح وأهواء اللوبيات وقوى الضغط ومراكز النفوذ المالي.
لا يعني تفجير مناطق الظل في حالة «صندوق الإيداع والتدبير» أن المسألة معزولة. فقد تكون كذلك، لكن روائح تنبعث من كل اتجاه، تفيد بأن تدبير الملفات الاقتصادية ورهانات المرحلة، لا يتم بالطرق العقلانية السليمة، خصوصا عند تفشي الأطماع وتغليب المصالح الشخصية، وإيلاء كل الاهتمام لمراكمة الثروة، على حساب النزاهة والشفافية وبؤس الغالبية الساحقة من أفراد الشعب التي تتفرج على الملهاة.
جرب المغرب في فترات سابقة محاكمة الوزراء وكبار المسؤولين، وذهب إلى حد تشكيل لجان التقصي في تدبير مؤسسات شبه عمومية، وحفلت الصحافة والمنتديات بالوقائع التي تعرض إلى التجاوزات التي يكون أبطالها مديرون ومندوبون ومسؤولون انتهكوا تعاقد الثقة والنزاهة، وما إن تنتهي فصول من فضائح وتجاوزات إلا لتبدأ مسلسلات جديدة، ما يعني أن ثمة خللا كبيرا في البناء الذي تتسرب منه الشقوق والمياه والروائح التي تزكم الأنوف.
من يتذكر التقارير التي أعدت حول المكاتب شبه العمومية التي كادت تصل إلى المائة دون جدوى؟ ومن يتذكر التقارير التي تحدثت عن هيمنة لوبيات شركات الأقارب والأصدقاء في الاستحواذ على الصفقات؟ ومن في إمكانه أن ينسى الصيحات المتوالية حول الحاجة إلى إصلاح بنيوي، يطال علاقة الإدارة بالمال وبالمواطنين؟ ومع ذلك فالنتيجة لا تبدو مشجعة، لأن ثمة لوبيات كبرت وتمددت لا هدف لها، سوى امتصاص مالية الدولة، بالطرق المعروفة وغير المعروفة، في غياب المساءلة والمتابعة.
لا يقول أحد بإفقار الأغنياء الذين راكموا ثرواتهم بوسائل مشروعة، لكن من يتأمل في المباني والفيلات الفاخرة وأرباح الشركات الملتوية والاستحواذ على الصفقات، لابد أن يتوقف على مواطن الخلل التي تبدأ من طرح السؤال الأزلي: من أين لك هذا؟ ومادامت هذه القاعدة منسية لا يريد أحد الاقتراب إليها، فالراجح أن التجاوزات وسوء التدبير والاغتناء غير المشروع، كلها ظواهر ستتواصل، لأن هناك دائما من يتربص بالمال العام، ولا يهمه سوى تنمية مخزون المصارف في الداخل والخارج، فقد ثبت أن التصريح بالممتلكات لا يفي بالغرض المطلوب، لأن المساءلة لا تأتي في وقتها المطلوب، وتأكد أكثر مفعول المثل الشعبي الذي يقول بأن من يسرق الصومعة يحفر لها عميقا. غير أن السؤال الكبير، لماذا تعجز مفتشيات وآليات في متناول الدولة عن استئصال هذا الداء المستفحل؟ فالفضائح والتجاوزات لا تنفجر إلا عند وصولها إلى درجة لا يمكن معها إخفاء الحقائق، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالاعتداء على مصالح المواطنين. فهل من الضروري انتظار شكاوى وأنين الضحايا للالتفات إلى التجاوزات؟
يتقاضى كبار المسؤولين في مكاتب وإدارات شبه عمومية رواتب وتعويضات مجزية، كي لا تمتد أياديهم إلى المال العام، ويحظون بامتيازات تفوق نظيراتها في الدول الصناعية المنتجة، لكن المردودية الإنتاجية، تتراوح بين الإفلاس والأزمات وملء حقيبة المصارف الخصوصية. يسقط التعميم في الحالات التي يتميز مسؤولوها بالنزاهة والعفة، ويعود مصدر الخلل دائما إلى أن الرقابة وحدها تحد من أطماع النفوس التي جبلت على عدم القناعة.
منطقيا هناك آليات المساءلة التي يضطلع بها البرلمان بغرفتيه، إذ في إمكانها تشكيل لجان تقصي الحقائق وطلب الإيضاحات ورصد أنواع الاختلالات، وفق المسؤوليات المنوطة بالجهاز التشريعي، لكن هل يكفي حضور جلسات عابرة، كثيرا ما يتغيب عنها كبار المسؤولين في المكاتب شبه العمومية، لممارسة الدور الفعال في رقابة التدبير وصون المال العام. الأمر يتجاوز علاقات السلط فيما بينها، لأن الدولة هي التي تكون مستهدفة في مثل هذه الحالات، وثبت أن الدولة القوية برجالاتها وآلياتها وقوانينها وعلاقاتها هي التي تكفل الحد من هكذا تجاوزات.
بديهي أن القوة لا تكون معنوية، بل تشمل الاقتصاد والمرجعيات الدستورية والقانونية، غير أن السلوكات الاقتصادية، لا يمكنها أن تعاني إلا في ظل ترسيخ وعي اقتصادي، يستند إلى قيم الوطنية والمواطنة، وليس كل الذين يدعون خدمة المصلحة العامة والدفاع عن ثوابت الأمة هم بمنأى عن هذه المزالق، فالمال يعمي الضمائر والأبصار. وثمة وصفة لا بديل عنها، تكمن في تفعيل قانون من أين لك هذا؟ عسى أن يتحقق بعض الردع، ويتمكن الرأسمال الوطني من نفض الغبار عن الممارسات التي آن لها أن تسقط أمام صلاحية دولة الحق والقانون.
ساحة النقاش