فلاش بريس= رشيد نيني
حتى لا تكون فتنة في الأرض
حدثان ميزا الساحة السياسية مرا دون قراءة هادئة.
الحدث الأول شكل ومضمون إعلان عبد الإله بنكيران عن إشرافه، بصفته رئيسا للحكومة، على الانتخابات الجماعية المقبلة، بصفتها «بروفا» للانتخابات التشريعية لسنة 2016، وعندما نؤكد على شكل ومضمون الإعلان، فلأن طلبه من البرلمانيين الوقوف إجلالا لهذا الإنجاز، يحتاج لوحده تأملا. فمن سمع هذه الجملة لوحدها دون أن يفهم سياقها، والذي هو بوضوح الانتصار على وزارة الداخلية في آخر معاقلها التقليدية، والمتمثل في الإشراف الكامل والمطلق على الانتخابات، سيستنتج أن رئيس الحكومة المغربي حقق انتصارا على جهة أجنبية معادية للمغرب، والحقيقة هي أن «المنهزم» إذا ما جاز لنا الحديث عن هزيمة، هنا هو عضو في حكومة لا يتردد رئيسها في وصفها بالمنسجمة.
والسؤال هو كيف يعقل أن تجمع جهة ما أو مؤسسة ما صفتين متناقضتين، صفة المنتصر المنتشي بانتصاره، وصفة المنهزم المنكسر؟
أما الحدث الثاني فهو حديث وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية عن مبررات منع خطباء الجمعة من تناول قضايا السياسة عبر منابرهم.
والحقيقة أن هذا القرار هو بمثابة حجة ثابتة تؤكد أن الحكومة شيء والدولة شيء آخر، فإذا كانت قضايا وطنية ودولية كثيرة أكدت أن الأمر يتعلق فعلا بجهازين، جهاز الدولة بمقابل جهاز الحكومة، قضية أحداث 30 يونيو في مصر ومذكرة عيوش مثلا، فإن حرص بنكيران على الظهور بمظهر المنتصر، بالرغم من كون هذا المطلب قديما، منذ أيام المعارضة اليسارية التقليدية، فإن هذا يعني ببساطة أن إمكانية التعايش بين أسلوبين لتدبير الشأن العام، أسلوب «الدولة» إن شئنا الحديث بوضوح، وأسلوب «الجوقة» الحزبية، هو أمر متعذر، مما فرض على الدولة «رد الصرف» في المجال الذي تعتبره مجالها الحيوي منذ تأسيس المملكة الشريفة، ونقصد المجال الديني، أي إذا كان حصاد قد «انهزم» دستوريا في معركة أولى، فإن التوفيق «سينتصر» بورقة الدين. وفي نهاية المطاف فربح معركة لا يعني ربح الحرب.
والسؤال المطروح هو لماذا علينا أن نرتب الحدثين ترتيبا سببيا، أي لماذا نعتبر خرجات التوفيق مؤخرا محاولة لتمنيع الانتخابات المقبلة من الاستغلال الديني؟ ثم ما الذي سيدفع «الدولة» إلى الجزم بإعادة تحديد وظيفة منابر المساجد في هذا الوقت تحديدا، علما بأن هذه القضية هي محط جدل فقهي وعلمي وتاريخي كبير؟
إلى هذه الدرجة تخشى الدولة من قوة الخطاب الديني لحزب العدالة والتنمية وجيش الخطباء التابع له؟
ألا يعتبر هذا الإجراء رد فعل على ما حصل في انتخابات 2011؟
ثم ما موقف المجلس العلمي الأعلى الذي أفتى إلى وقت قريب بجواز قتل المرتد؟
ماذا تعني عبارة «نخاف على السياسة من الدين» والتي صرح بها التوفيق؟
إذا ما ربطنا هذه التصريحات الأخيرة للتوفيق ونص الدرس الحسني الأول الذي ألقاه في حضرة الملك محمد السادس مؤخرا، سنجد تصورا مؤسسا وقويا، فهو من جهة يرفض الطرح العلماني، لكون «ضمير المؤمن لا يتصور الانفصال بين الدين والسياسة»، حسب تعبيره، لكن هذا لا يجعل منه مطابقا للتصور الذي تتبناه الحركات الإسلامية، وعلى رأسها حركة التوحيد والإصلاح التي تحول «حامل معطف» بنكيران إلى رئيس لها. لذلك للخروج من هذه «الورطة» الفكرية، فإنه اقتحم مجالا «تحتكره» الحركات الإسلامية المعاصرة، وهو مجال «مقاصد الشريعة»، حيث استند إليه في الحديث عن مفهوم «الإمامة العظمى»، بمعنى آخر، أن التوفيق يحاول إعادة رسم الخطوط الحمراء، والتي قد ينسى إخوان بنكيران في غمرة انتشائهم بهزيمة وزارة الداخلية و«يزطمون» فيها، وفي نفس الوقت التأكيد على أن الاستناد إلى الدستور ليس أقوى من الاستناد للدين، فالدساتير تتغير بتغير أمور السياسة، أما الإمامة فباقية ببقاء الدين. وهذا ما فهمه بنكيران أخيرا عندما قال إن الدستور ليس قرآنا وإن مراجعته اليوم لم تعد بالخطورة التي كانت عليه في السابق عندما كان كل حديث عن تعديل الدستور يدخل في باب الخيانة العظمى، بسبب منازعة اليسار سلطات الملك.
إن كل المتتبعين للشأن السياسي الحزبي يعرفون جيدا أن قوة حزب العدالة والتنمية توجد في ذراعه الدعوي، والمتمثل في حركة التوحيد والإصلاح، والتي تظل بالرغم من كل محاولات الإنكار التي يمارسها إخوان بنكيران وهم يتحدثون عن شراكة بدل الحديث عن جوهر وهوية إيديولوجية قائمة الذات يترأسها الحمداوي، فإن قرار الدولة تمنيع الخطاب الديني ضد الاستغلال السياسي، يعني «لجم» ألسنة جيش الدعاة الذين لعبوا دورا حيويا في انتخابات 2011، لاسيما وأن الحزب في حاجة ماسة لهؤلاء، لكون الحصيلة الحكومية غير كافية لتكون لوحدها ورقة رابحة في المحطات الانتخابية المقبلة، لكونها مبنية بالكامل على مجرد نوايا لم يتسن للحزب، بسبب العجز في الخيال والابتكار أساسا، تحويلها لواقع فعلي ملموس يؤثر على الحياة اليومية للمواطنين، ولنا في قطاع التعليم خير دليل على ذلك.
فإبان معمعة اللغة الأم والتي أشعل فتيلها نور الدين عيوش، كان موقف الحزب ومن ثمة موقف رئاسة الحكومة واضحا، وهو أن اللغة العربية خط أحمر، لكون الحزب وجهازه الدعوي ينظر لهذه اللغة لغة مقدسة بصفتها لغة للقرآن الكريم، بينما نظر إليها عيوش وأتباعه بصفتها «أداة»، وهي بحسب رأيهم عائق للتعليم والتعلم، وهو تصور علماني محض للغة، وهذا الاختلاف في الخلفيات هو ما دفع بنكيران إلى الخروج مرارا عن أدب اللياقة، واصفا عيوش بالتاجر الذي يبتكر في كل مرة بضاعة يبيعها للدولة.
لكن بالرغم من هذا الموقف الرافض لتهميش اللغة العربية، فإن وزير التعليم، صاحب «النوادي وداك الشي»، يطبق حرفيا ما انتهت إليه ندوة نور الدين عيوش، وما اعتماده هذه السنة للباكلوريا الفرنسية والإنجليزية إلا دليل على أن التعليم لم يعد منذ تعيين رشيد بلمختار قطاعا حكوميا، بل أضحى قطاعا سياديا كقطاع الجيش والأمن والأوقاف.
هكذا اختار المغرب مرة أخرى أن يوقع «خصوصيته» في الدول العربية التي مستها رياح ما يسمى بالربيع العربي، فإذا كانت مصر قد قلبت الطاولة بشكل دامٍ على مرسي وإخوانه، فإن الدولة المغربية فضلت أن تستفيد من الدرس المصري بنزع الورقة الدينية من سياسيي العدالة والتنمية، حتى لا تكون فتنة في الأرض ويبقى الدين لله.
ساحة النقاش