المساء = محمد امزيان
الإحصاء والخنازير والشاي المنعنع
العدد :2478 - 15/09/2014
لماذا ينتقد المغاربة عملية الإحصاء؟ لو كنت مقيما في المغرب لرحبت بموظفي الإحصاء بكل ما أوتيت من قوة، ولأعددت لهم شايا منعنعا في البراد المغربي التقليدي الأصيل، ولقدمت إليهم ما يصاحب البراد من جوز ولوز ومكسرات؛ فها هو الإحصاء يجبر الدولة بجلال قدرها وعظمتها على أن تتذكرني، أنا المغربي المرمي في قرية نائية بلا ماء ولا كهرباء ولا مرفق صحي ولا مسبح في العراء؛ وها هو مبعوثها الجسور يقتحم الصعاب ويتجشم نباح الكلاب ويأتيني إلى غاية الباب، ليستوضح مني، أنا النكرة المنسي، كيف أنام ومع من أنام؟ هذا حفاظا على سلامة النسل، وكيف آكل وماذا آكل؟ وهذا حفاظا على سلامة البدن، وبماذا أتواصل مع الجيران؟ وهذا حفاظا على سلامة اللسان؛ فالدولة، إذن، يا إخوان، حريصة على ذريتنا وسلامتنا وعلاقاتنا بالأمم، فلم كل ذلك النقد الهدام؟
وعلى ذكر البراد والشاي المنعنع، ومن منا لا يعشق هذا المشروب السحري، يُحكى أنه في زمن الاستعمار الإسباني في الريف، ارتأت إدارة الاستعمار إجراء مسح سكاني لتحصي مَن مِن القرويين يملك رأس حيوان أو ساق شجرة تين أو زيتون أو عنب. الهدف: تقدير ما على المواطن دفعه من ضريبة «الترتيب» التي كان السلطان عبد العزيز قد فرضها على رقاب المغاربة سنة 1901 واستمرت إلى ما بعد عهده، وهي ضريبة تجبى بمقدار ما يملكه المغربي من رأس حيوان أو شجر؛ وسميت على ألسنة الناس كذلك ضريبة «الراس». ولا غرابة أن المغاربة حتى اليوم مايزالون يتذكرون تلك الضريبة الغريبة ويربطونها بالإحصاء. ولعل هذا ما يجعل البعض متشائما من العملية برمتها.
المهم أنه في ذلك الزمن السحيق، كان هناك فقيه معروف بحبه الشديد للشاي المنعنع؛ هذا المنتوج الوطني الذي يتوجب على الدولة تثبيته عاجلا على قائمة «التراث الإنساني» العالمي حفظا له من الضياع؛ ذلك الفقيه، إذن، كلفته الإدارة الإسبانية آنذاك بإجراء إحصاء لسكان إحدى قرى تمسامان في الريف الشرقي، إقليم الناظور حاليا.. وصل الفقيه إلى أحد البيوت عند الظهيرة وشرع في طرح الأسئلة على رب الأسرة وتسجيل الأجوبة في كناش دولة الحماية؛ وبين الفينة والأخرى كان يسترق السمع عله يسمع حركة في المطبخ أو رنة من كأس أو شهقة من براد.. لا صوت ولا أثر! أنهى الفقيه المغبون عملية التسجيل وراح إلى حال سبيله بغصة في الحلق الذي ظل بقية ذلك اليوم ناشفا. ولم تكد تمر أشهر قليلة حتى وصل استدعاء إلى صاحب البيت من إدارة الحماية، تطلب منه الحضور العاجل إلى مصلحة الضرائب من أجل سداد ما عليه من واجبات ضريبية على ما يرعاه في بيته من خنازير برية. سبعة رؤوس بالتحديد! بهت صاحب البيت وتساءل مع نفسه: من أين لي بهذه الرؤوس البرية؟ لعل في الأمر سوء فهم كبيرا! وهرول الرجل مذعورا نحو الإدارة، حاملا جلبابه فوق رقبته ونعليه تحت إبطه.
الخلاصة أن الفقيه، عاشق الشاي والنعناع، انتقم من البخيل صاحب الدار بأن سجل أبناءه الخمسة في الكناش الإداري على أنهم خنازير برية، وأضاف إليهم بطبيعة الحال أباهم، الرأس المدبر، وأمهم التي لم تحرك ساكنا في المطبخ. يا له من انتقام فظيع!
هذه القصة الواقعية تختلف عن القصص والصور التي تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعية عن الإحصاء الحالي. من الوجهة الصحفية البحتة، لا ندري ما مدى مصداقية هذه الصور؛ إلا أنها، من جانب آخر، توضح لنا بجلاء مدى اختلاف وسائل «الانتقام» بين الأمس واليوم.
فقد شاهدنا صورا تظهر كيف تعرض مواطنون للضرب المبرح من قبل رجال السلطة، لمجرد أنهم رفضوا إحصاءهم؛ شاهدنا موظفة إحصاء تطاردها الكلاب في إحدى القرى لاعنة الحاصي والمحصي؛ شاهدنا، أيضا، صورا لموظفات وموظفين يجلسون القرفصاء في عز الشمس ولا رحمة تنزل عليهم إلا ما تجود به عليهم «قرعة سيدي علي»؛ ورأينا الحليمي يجند التلفزيون ووسائل الإعلام لشرح حسنات الإحصاء للمواطنين؛ ورأينا، بالمقابل، ناشطين يجندون وسائلهم الخاصة كذلك، محاولين إغراء المواطنين بفوائد المقاطعة. لكلٍّ أسبابـُه وأهدافـُه، ولكلٍّ وجهة هو موليها بطبيعة الحال.
لا أريد أن أخوض مع الخائضين في «عنصرية» الإحصاء، كما يدعي البعض، أو وطنيته، كما يدعي البعض الآخر. أرى أن الإحصاء عملية ضرورية تلجأ إليها كل الدول بلا استثناء، ولكن ربما بطرق مختلفة؛ ففي بلدان متقدمة، يتم ذلك آليا عن طريق تسجيل الولادات والوفيات والهجرات، الداخلية والخارجية، في البلديات والمؤسسات المختصة. وهكذا تعرف دولة، مثل هولندا على سبيل المثال، كم ازداد عندها من «نفوس» خلال العام الذي ولى، وكم قضى، وكم وصلها من اللاجئين الجدد، وكم سيق منهم إلى خارج الحدود، وكم يبلغ عدد المسلمين وكيف يعيشون، إلخ، إلخ. وبناء على هذه البيانات الدقيقة، تحدد السياسات وتوضع الاستراتيجيات. وهذه البيانات ليست من أسرار الدولة، بل هي متاحة أمام الجميع، سواء على الموقع الإلكتروني للمكتب الوطني للإحصاء أو على مواقع البلديات.
وفي انتظار بلوغ المغرب هذا المستوى، ما علينا، نحن معشر المغاربة، سوى مجالسة موظف الإحصاء مرة واحدة في كل عشر سنوات، ومشاركته كأس شاي منعنع حتى لا يحولنا إلى خنازير برية بخربشة قلم.
ساحة النقاش