عبد الله الدامون
أمريكا.. غزة.. والسنجاب
العدد :2448 - 09/08/2014
أمريكا مصدومة عن آخرها هذه الأيام.. والأمريكيون، الذين يعرفون قيمة التحضر والإنسانية، يحسون بغضب جارف لن ينطفئ إلا بعد إيقاف المجرمين ضد الإنسانية وإدخالهم السجن وجعلهم عبرة لمن يعتبر.
كثيرون ينظرون إلى الأمريكيين وكأنهم شعب بلا قلب، وكثيرون يعتقدون أن الأمريكيين يمكن أن يحدث أمامهم أي شيء فلا ينتابهم أي إحساس بالتعاطف مع الضحية، لكن الحقيقة عكس ذلك تماما، فها هي أمريكا اليوم غاضبة.. غاضبة.. إلى درجة أن جمعيات وهيئات مدنية تقود حملة للقبض على المجرمين والقتلة الذين شغلوا العالم مؤخرا.
وسائل الإعلام الأمريكية بدورها خرجت عن صمتها وقررت أن تدين الجرائم المرتكبة، فلا يعقل أن يغضب العالم كله بينما تبقى أمريكا باردة.يبقى هناك توضيح بسيط جدا ربما لا أهمية له، وهو أن أمريكا ليست غاضبة جراء ما جرى في غزة من جرائم يشيب لهولها الولدان، وليست غاضبة بسبب لقطات الجنود الصهاينة وهم يرقصون فرحا وكل واحد منهم يتباهى بأنه قتل أكبر عدد من الأطفال الفلسطينيين، وأمريكا ليست غاضبة لأن إسرائيل محت من الوجود أحياء ومناطق سكنية بكاملها، وليست ناقمة لأن الإجرام الإسرائيلي قتل عائلات فلسطينية بكاملها، من أكبر جد إلى أصغر حفيد، وأمريكا ليست غاضبة لأن فلسطينيين انتظروا إنجاب أطفال لسنوات طويلة، وبعدما أنجبوهم جاءت الدبابات الإسرائيلية وقتلتهم في جزء من الثانية، والأمريكيون ليسوا غاضبين لأن الإسرائيليين ارتكبوا أسوأ جرائم حرب في تاريخ البشرية في حق شعب لا يملك حتى حق الهرب، وأمريكا لم تغضب لأن إسرائيل استعملت أسلحة رهيبة وشرسة في حق شعب لا يملك حتى حق رفع سكين في وجه قاتله.. المهم أن أمريكا ليست غاضبة بالمرة مما جرى في غزة، بل هي غاضبة بشدة لأن سائحا فرنسيا زار محمية طبيعية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك وجد، بالصدفة، سنجابا على قمة جبل فقذفه برجله.. ولا يُعرف إلى حد الآن ما إن كان السنجاب المسكين قد نفق أم إنه في حالة حرجة.. المهم أن الجريمة وقعت والسلام.
كما أن أمريكا غاضبة بشدة من سياح آخرين زاروا المحمية الطبيعية ودمروا نباتات نادرة وأزاحوا بعض الصخور من مكانها وتبولوا على نبات الصبار الأمريكي الشهير.
اليوم تقوم مئات، وربما آلاف، الجمعيات الأمريكية وجمعيات أخرى من مختلف مناطق العالم بحملة إعلامية غير مسبوقة من أجل القبض على ذلك السائح السفاح الذي ظهر في شريط فيدو وهو يقذف السنجاب برجله. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأ الأمريكيون حملة شعبية لجمع التبرعات ومنحها كمكافأة لمن يستطيع الإمساك بذلك السائح وتقديمه إلى العدالة الأمريكية، وهي العدالة التي لا ترحم المجرمين أمثاله، حيث ينتظره حكم بالسجن لمدة تزيد على خمسة أشهر وغرامة مالية ثقيلة، وفوق هذا وذاك تشويه سمعته.
إذن، لا يصح أن نصف الأمريكيين بكونهم شعبا منعدم الأحاسيس ومجردا من العواطف، صحيح أنه تشفى في قتل 500 طفل فلسطينيي، وصحيح أنه شعب لم يأبه لأنهار الدماء في غزة، لكنه أيضا شعب يرق حاله بشدة لحال سنجاب أحس بالألم من ضرب سائح متوحش، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أمريكا لازال فيها خير.. خير كثير، تماما مثل الخير الموجود في إسرائيل.
الأمريكيون الذين غضبوا في قضية السنجاب، قد يحولون قصته قريبا إلى فيلم سينمائي، فصناعة السينما في هوليود يرق قلبها لسنجاب، لكن لم يسبق أن رق قلبها لشعوب مضطهدة ومُبادة مثل الشعب الفلسطيني، بل إن الأمريكيين الذين أبادوا نصف شعب الفيتنام أنتجوا آلاف الأفلام السينمائية، ليس عن مآسي الشعب الفيتنامي، بل عن وحشية المقاومة الفيتنامية التي تجرأت وقاومت الغزو الأمريكي.
الصناعة السينمائية الأمريكية تنظر «بالمقلوب» إلى كل القضايا التاريخية. وها هم الناس لايزالون ينظرون إلى الهنود الحمر كشعب متوحش وبدائي، لأن السينما الأمريكية صورت هذا الشعب كذلك، وعندما يتجرأ ممثل أو مخرج على انتقاد نظرة هوليود إلى العالم يكون مصيره التهميش النهائي أو يعتذر لأنه قال الحقيقة، وتذكروا ما حدث لنجم هوليود الراحل، مارلون براندو، الذي انتقد صهيونية هوليود فهددوه بمحو اسمه من جذوره من تاريخ السينما.
خلال مجازر غزة، انتفض الممثل السينمائي الإسباني خابيير بارديم ووصف ما يجري بجرائم الحرب؛ وبعده فعلت النجمة السينمائية الإسبانية بينيلوبي كروث نفس الشيء وانتقدت المجازر الإسرائيلية، فهاجت وسائل الإعلام الأمريكية ضدها، ووصفتها مجلة أمريكية شهيرة بكونها «غبيّة الأسبوع»؛ وعندما التحق بهما المخرج الإسباني الشهير، بيدرو ألمودوفار، وانتقد مذابح غزة، كان سادة هوليود مباشرين أكثر في تهديداتهم: اُصمتوا وإلا سنمحوكم من عالم السينما.
النظرية الأمريكية تبدو واضحة جدا: ضرب سنجاب جريمة لا تـُغتفر.. وذبح شعب غزة مسألة فيها نظر.
ساحة النقاش