عبد الباري عطوان
قراءة “متأنية” في خطاب العاهل السعودي عن المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة وما ورد فيه من مواقف
اعتبر العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز أن ما يجري في غزة مجازر جماعية وجرائم حرب ضد الإنسانية، وأبدى تعاطفا مع “دماء الفلسطينيين التي تسقط في مجازر جماعية” وصفها بأنها “جرائم حرب ضد الإنسانية”، ولكنه لم يقل كيف يمكن مواجهة من يرتكب هذه المجازر، ودور بلاده في هذا الصدد.
تابعت كلمة العاهل السعودي التي ألقيت نيابة عنه بعد ظهر الجمعة آملا أن اسمع دعوة لعقد مؤتمر طارئ للقمة العربية بحضور وزراء الدفاع العرب، ورؤساء هيئة أركان جيوشهم، أو حتى دعوة لاجتماع عاجل لوزراء الخارجية العرب، ولكن خاب ظني، حتى أن كلمة إسرائيل المعتدية وإرهاب الدولة الذي تمارسه، لم تذكر مطلقا في الخطاب الملكي، ولعل من كتبوا هذا الخطاب تعمدوا عدم ذكرها، بينما أشاروا بإسهاب إلى كل أنواع “الإرهاب” التي “ترتكب باسم الإسلام”.
بينما كان العاهل السعودي يلقي كلمته، التي سارع الرئيس الفلسطيني محمود عباس للترحيب بها، أغارت الطائرات الإسرائيلية على بيوت سكنية في مدينة رفح جنوب قطاع غزة وقتلت أكثر من ستين مدنيا، ثلثهم من الأطفال والرضع، في انتهاك وحشي لاتفاق وقف إطلاق النار، وقتلت ثلاثة أطفال حرقا في شمال قطاع غزة.
***
ما يشجع إسرائيل على أعمال القتل والتدمير التي تقوم بها على مدى الأسابيع الأربعة الماضية، هو حالة الصمت العربي الذي تحدث عنه وأدانه العاهل السعودي، وقال “إن هذا الصمت ليس له أي تبرير غير مدركين بأن ذلك سيؤدي إلى خروج جيل لا يؤمن بغير العنف، رافضا السلام، ومؤمنا بصراع الحضارات لا بحوارها”، ولكنه لم يكسرها، أي حالة الصمت هذه، بتوجيه إنذار إلى إسرائيل بضرورة وقف إطلاق النار فورا دون شروط، والتهديد باستخدام فوري لسلاح النفط إذا لم تنفذ تماما، مثلما فعل شقيقه الملك فيصل بن عبد العزيز في حرب رمضان عام 1973.
كنا وما زلنا نتمنى لو يشاهد العاهل السعودي حجم الدمار والخراب الذي أوقعه القصف الإسرائيلي المستمر في القطاع المحاصر المجوع، أو يتأمل جثامين الأطفال التي مزقها هذا القصف، أو أطرافهم التي بترها، ويرقدون حاليا في ممرات المستشفيات ضمن عشرة آلاف جريح، يصارعون من اجل البقاء في ظل انعدام كامل للأدوية نتيجة إغلاق مصر، حليفة المملكة، لمعبر رفح في وجه بعثات وقوافل الإغاثة الطبية ومعداتها، الأمر الذي أدى إلى وفاة العشرات في هذه المستشفيات (إسرائيل قصفت عشر مستشفيات) التي تعاني من نقص حاد في الأطباء، وعدم القدرة بالتالي على تقديم العلاج والأدوية لهذه الأعداد الضخمة من الجرحى.
من اللافت أن هذا الخطاب الذي انتقد الصمت العربي والدولي، والذي نشك أن يكون العاهل السعودي قد اطلع عليه كاملا، تأخر أربعة أسابيع، لم نسمع خلالها أي موقف سعودي رسمي تجاه المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة يرتقي إلى مكانة المملكة العربية والإسلامية، وكل ما سمعناه أو بالأحرى قرأتاه، مقال للأمير تركي الفيصل رئيس جهاز الاستخبارات السعودي الأسبق يظهر فيه الكثير من الشماتة بالمقاومة الفلسطينية ويحملها مسؤولية هذه الحرب وتبعاتها.
ما يجري من مجازر في قطاع غزة هو وصمة عار أخرى في جبين النظام الرسمي العربي وقادته الذين صمتوا جميعا، وفضلوا إدارة وجوههم إلى الناحية الأخرى، وتواطأ بعضهم في وضح النهار مع العدوان الإسرائيلي بما هو أكثر من الصمت، وإذا كان بعضهم قد غضب على إسرائيل وجيشها، فذلك ليس بسبب مجازر القطاع، وإنما لعدم إنهائها مهمتها بسرعة في أيام معدودة.
صحافية هندية اتصلت بي صباح الجمعة طالبة تفسيرا لهذا الصمت العربي بشقيه الشعبي والرسمي، تجاه هذه المجازر الإسرائيلية، وأعترف أنني “تلعثمت” في الإجابة، فالعدوان على القطاع واضح، وموضع إجماع مفترض بين جميع الطوائف والمذاهب على مواجهته، على عكس حروب وصراعات عربية في أماكن أخرى، فلماذا لا يتحرك هؤلاء في مواجهته، وفعل شيء، أي شيء، غير الصمت؟
***
الزعماء في أمريكا اللاتينية التي تبعد عشرات آلاف الكيلومترات عن غزة، ويعتنقون الدين المسيحي أغلقوا سفارات، وطردوا سفراء إسرائيل، ورحبوا باستضافة الأطفال الجرحى واليتامى في بلادهم كبادرة تضامن، ولم نسمع زعيما عربيا واحدا، يقدم على خطوة كهذه، أو يقيم جسرا جويا لنقل الجرحى إلى مستشفيات بلاده، بل ما حدث هو عكس ذلك تماما، تشجيع الحليف المصري على إحكام إغلاق الحدود، وتحميل الضحية مسؤولية المجازر، وإعفاء الجلاد من أي لوم.
نختلف مع أمهات الشهداء والجرحى اللواتي صرخن، من شدة الألم، بالخروج من انتمائهم العربي، بسبب حالة الخذلان التي يعيش مرارتها أبناء قطاع غزة، من صمت الزعماء العرب وبعض شعوبهم، والتأكيد على الاعتماد على المقاومة والذات فقط، نقول نختلف معهن لان هؤلاء الزعماء أو معظمهم، ليس لهم أي علاقة بقيم الشهامة والكرامة والكرم والفداء التي تميز الهوية العربية عما عداها من هويات أخرى.
لقطاع غزة مقاومة تحميه، ورجال يدافعون عنه، ونساء ولادات سينجبن المزيد من الأبطال، ولن يركع هذا القطاع مطلقا إلا للخالق جل وعلا.
ألمنا مضاعف “لان الجرح في الكف” مثلما يقول المثل العربي الذي لا يحتاج إلى شرح.
ساحة النقاش