إدريس الكنبوري
ضحك كالبكاء
العدد :2436 - 25/07/2014
وصل العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة حدا أصبح معه الدم الفلسطيني يهرق مثل الماء، لا قيمة له، منذ أيام عدة، بينما العرب يتفرجون مثل رجل أبله أمام فيلم ناطق باللغة الهيروغليفية؛ فقد اعتاد العرب منذ عشرات السنين على أن تسيل دماء الفلسطينيين بين القبائل العربية، واحدة تقتلهم بالصمت وأخرى بالبيانات وثالثة بالتواطؤ، وهكذا. منذ البداية وإلى اليوم، لم يتغير شيء، لا بل تغيرت أشياء كثيرة، لكن الأمور الجوهرية ما تزال على حالها.
في علاقات الأنظمة العربية بالفلسطينيين ما يثير الضحك والبكاء معا، فقد كان قدر الفلسطيني أن يدفع دائما ثمن موازين القوة بين هذه الأنظمة، بينما هي لا تملك منها شيئا في الخريطة الدولية.. تستقوي على الفلسطينيين بشعارات القومية العربية الرخيصة وتقف أمام أمريكا وإسرائيل مثل التلميذ الراسب في الاختبار، وترفع شعار التضامن بينما هي تكيد في الظلام ضد حق الفلسطيني في أن يعيش بكرامة. هكذا بدأت الحكاية من البداية، ويروي أحمد الشقيري، أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، في مذكراته، أنه عندما كان يمثل المنظمة في القمم العربية كان الحكام العرب يقضون وقتا طويلا في مناقشات بيزنطية: طالما أن المنظمة ليست دولة في الجامعة العربية، فيجب على رئيسها أن يؤخر مقعده بعيدا بمقياس أشبار لكي لا يجلس في مستوى الزعماء. في النهاية، انتهت الجامعة وانتهى بعض هذه الأنظمة واهترأ بعضها الآخر مثل مقعد مصنوع من الخرق.
لم يكن دم الفلسطيني يسيل بفعل أسلحة إسرائيل، بل بفعل الأسلحة العربية أيضا، فقد سال في غزة والقطاع دون أن يكون لإسرائيل دخل في ذلك، لأن السلاح العربي كان يقوم بالمهمة، حتى ثارت غولدا مائير وقالت: «العربي يقتل العربي، فما ذنب غير العربي؟». وقد تعلم العرب، بسبب قلة الأوراق التي في أيديهم، أن يجعلوا الدم الفلسطيني ورقة للتفاوض مع القوى الغربية، وحتى اليوم لا نعرف بالتحديد ماذا تعني «وساطة» في القاموس العربي، هل تعني السمسرة أم تعني أكثر من ذلك، نوعا من القوادة؟
لكن لا أحد يفهم شيئا في السياسات العربية تجاه الملف الفلسطيني. عندما ذهب الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى الكنيست الإسرائيلي وخطب هناك وعقد اتفاقية كامب ديفيد، غضب العرب وحولوا مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، كأن المشكلة في البناية، وصنعوا تسميات تليق بالأطفال: دول الطوق ودول الرفض ودول الممانعة، لكننا لم نر شيئا على الأرض. وبعده بسنوات، صار العرب يركضون وراء إسرائيل دون أن تسمح لهم بالجلوس معها. وكانت منظمة التحرير على رأس المستنكرين لما قام به السادات، وفي الأخير صارت تطالب بأقل مما طلبه السادات للفلسطينيين دون أن تظفر به. وكان العرب يعلنون كراهيتهم للسادات لأنه قال إن 99 في المائة من أوراق الحل في يد أمريكا، وبعد ذلك اعترفوا بأن مائة في المائة من تلك الأوراق في يد أمريكا وإسرائيل معا، لكن بعد فوات الأوان. لكن في الواقع لم يكن رفض مبادرة السادات نخوة عربية أو غيرة على الفلسطينيين، بل كان بدافع الغيرة من السادات وأن يكرس نفسه زعيما عربيا بعد أن تخلصوا من جمال عبد الناصر الذي كان يريد أن يكون الوحيد الذي يتكلم باسم الفلسطينيين، وأن يقتلهم أيضا.
وعندما ينظر المرء اليوم إلى الشاشات العربية ويرى المندوبين العرب يتسابقون إلى مجلس الأمن لكي يلحوا عليه في التدخل، ويرى المبعوثين العرب وهم يركضون إلى الإدارة الأمريكية لكي توقف العدوان، يتساءل عما إن كان هؤلاء هم نفس العرب الذين كانوا يقيمون في هذه المنطقة قبل قرون، فهم يفعلون اليوم ما لو نهض السادات من قبره لشتمهم جميعا ووصفهم بالخذلان بسببه، فهو على الأقل خاض حربا وانتصر فيها، وأراد أن يعطي لنصره مضمونا سياسيا، بينما هم لم يخوضوا حروبا سوى على أسرتهم.
لكن حظ الدم الفلسطيني اليوم أن يسيل في ظرفية صعبة، لم يعد فيها رقم مهم في المعادلة، لأن هناك دماء عربية أخرى تسيل في جميع المنطقة العربية، فمنذ عام 2001 والعرب يموتون في كل مكان تحت عناوين مختلفة، العراق أصبح فلسطينا أخرى منذ عام 2003، وسوريا صارت فلسطينا ثالثة منذ أربعة أعوام، وهناك فلسطينات أخرى تنشأ في مناطق عربية أخرى، ولذلك تشابهت الدماء حتى لم يعد أحد يعرف أي دم يسيل بالتحديد.
ساحة النقاش