جمال بدومة
رحيل رجل غاضب
العدد :2405 -
مكناس 1992.قاعة المحاضرات في بلدية المنزه. جمهور غفير ينصت باهتمام لرجل غاضب: أساتذة جامعيون، طلبة، موظفون، مناضلون، شيوخ، شباب،... أنهوا عملهم وحجوا بكثافة للاستماع إلى رجل اسمه المهدي المنجـــرة، يحدثهم عن مصير المغرب والعالم العربي،وسط التغييرات السريعة التي فاجأنا بها العقد الأخير من القرن العشرين، بعد سقوط «الاتحاد السوفياتي» واندلاع حرب الخليج الثانية التي سماها عالم المستقبليات، بكثير من النباهة، «الحرب الحضارية الأولى».
كان القرن العشرون يستعد للانصراف،ومعه الحسن الثاني،وكانت نبرة المنجرة حادة وأفكاره واضحة وجرأته مفاجئة، لا يملكها إلا القليلون في تلك السنوات الصعبة. هجومُ الأمريكيين وحلفائهم على العراق مطلع التسعينيات أعاد المفكر بقـــوة إلى الواجهة، كما أعاد حزبي«الاتحاد الاشتراكي»و»الاستقلال»ومعهما «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل» و»الاتحاد العام للشغالين»، ارتفعت شعبية الجميع،وأصبحوا محط اهتمام«الجماهير». مع محمد عابد الجابري وعبد الله العروي، كان المنجرة من المفكرين النادرين الذين يستطيعون ملء قاعة وفنائها الخارجي بالناس، عندما يتحدثون. لكن، بخلاف العروي والجابري، كانت نبرة المنجرة عالية وحماسه زائدا، والحماس ليس دائما خصلة أكاديمية. كان المنجرة يقف في منطقة غير واضحة بين الفكر والسياسة،غاضب أكثر مما يلزم لمفكر وعميق أكثر مما ينبغي لسياسي، لذلك قلل البعض من قيمته المعرفية واتهمه البعض بـ»الشعبــــــوية»، لكنه في غربال التاريخ سيبقى رجلا عظيما، مزج الفكر بالأخلاق واختار أن يقول «لا» في زمن «نعم». المنجرة كان نموذجا فريدا وسط النخبة الفكرية التي صنعت مغرب ما بعد الاستقلال: الاستثناء الأنكلوسكسوني. درس في الولايات المتحدة وبريطانيا، وبدا تأثره واضحا بالثقافة الأمريكية. كان ينتج أفكارا قريبة من الناس، ويريد أن يؤثر على حياتهم، وأن يدهشهم، أكثر من اهتمامه بالنفاذ إلى العمق.
طوال مساره الحافل، سعى منظّر «الإهانة» إلى تكسير الهيمنة الفرنسية على العقل المغربي،وفتحه على آفاق أخرى،لذلك سافر إلى اليابان وشجع الشباب على التعرف على تجارب مختلفة في الذهاب إلى المستقبل. وقف عكس التيار، بكل ما يملكه من ثقافة وغضب، وواجه نخبة أقدامها في المغرب ورأسها في باريس، تسيطر على مفاصل البلاد وتريد أن تجعل منها نسخة رديئــــة من فرنسا. كان«يحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد»ويريد أن يراها تصعد كل القمم،ويتأسف على الفرص التي ضيعناها أكثر من مرة. يحمل غضب المبدع في صدره،احتياطي هائل من الحنق على مسؤولين لم يحسنوا التصرف في التركة،ولأنه لم يخف يوما حنقه، فقد أقصي من كل المناصب الرسمية في وقت مبكر. في نظام سياسي مثل المغرب، لا مكان لرجل بثقافته الاستثنائية ومـــــــزاجه الحاد. لم تتقبله السلطة، لم تستلطفه النخبة، وغار منه الكثيرون، لأنه ظل يحقق انتشارا جماهيريا ويؤثر على الشباب. كــان من أوائل من استعملوا المعلوميات، وبشروا بالقرية الكونية التي نعيش فيها اليوم.
المهدي المنجرة، أحد تجليات ظاهرة مغربية فريدة، تجعل من المفكر «نجما». بعد سقوط جدار برلين، نهاية الثمانينيات، أصبــح الرجل رقما أساسيا في المعادلة الفكرية المغربية. الجميع يريد أن يسمع رأيه، لأنه يملك أدوات تحليل غير مألوفة في المغـــــرب والعالم العربي، ويعرض أفكاره بكثير من التبسيط، وكلما ساءت سمعته مع السلطة، زادت شعبيته. طوال التسعينيات، ظل يتحرك مثل «زعيم»، من مدينة إلى مدينة، ومن قاعة إلى قاعة، ومن جريدة إلى جريدة، وحده التلفزيون ظل مغلقا في وجهــــه، وكانت عروضـُه تـُمنَع أحيانا، كما تمنع عروض الفنان الساخر بزيز، وغيرهما ممن شقوا عصا الطاعة في مغرب الحسن الثاني. أعتقد أن المنجرة كان سعيدا بهذا«النجاح الجماهيري» الذي عوضه عن كل المناصب، وجعل منه مرجعا أخلاقيا نادرا في مغرب نخرته الانتهازية، وسباق النخبة على الغنائم. عندما كنت أنصت للحقوقي الفرنسي الراحل ستيفان إيسال، الذي صعد نجمه في السنوات الأخيرة وتحول كتابه «اغضبوا» إلى ظاهرة، لم يكن يسعني إلا أن أفكر في المهدي المنجرة. هناك تشابه كبير بين الرجلين: كلاهما وضع مساره الاستثنائي في خدمة الفكر والأخلاق والإنسان. وفي الوقت الذي كرمت فيه فرنسا رجلـــــها «الغاضب»، في حياته قبل موته، قوبل ستيفان إيسال في صيغته المغربية بكثير من الجحود.
ساحة النقاش