جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
هاجر أعليلة
صحفية
لمن تركتنا يا المنجرة؟
جدّة «تشيخوف» كانت دوما تقول: «قبل النوم يا أوﻻد إياكم أن تناموا مكتئبين مهما كانت حياتكم بائسة»، حياتي ليست بـــئـيسة أيها العزيز، لكنني نمت وأنا كئيبة ومتكوّمة كحلزون برّي لا حول له ولا قوّة.. واستيقظت لأجد أن لا شيء تغيّر برحيلك، الشارع مكبوث بهؤلاء المخابيل الذين يمشون في كل الاتجاهات، قنواتنا الخرقاء تمارس رياضتها اليومية، وأنا أقشّر السردين المشوي من دون شهية وأحاول التحايل على مستقبلات التذوق في فمي، فقط لأنه غني بـ «التربتوفان» صديق هرمون «السيروتونين»، وما زال من بعيد يصرّ على استفزازي صوت أجشّ من المذياع يسرد تعزيات من أجلك، وأنا بين هذا وذاك تحضرني بشكل لا واع قولة عائشة لابنها آخر ملوك الأندلس «أبك كالنساء على ملك لم تحافظ عليه كالرجال» !
خبر رحيلك قلّب المواجع، قفصي الصدري يؤلمني من جديد وألم رأسي يتمادى كمضخّة قديمة، لذلك سأتوقف عن البكاء لكنني لن أتوقف عنه قبل غد، أخاف إن توقفت الآن أن لا أبكيك غدا بشكل أفضل..ترى لماذا ظننت أنّ العالم سيكون في حداد من أجلك؟ وكيف يمكن أن يدوّخني فقدك وأنا لم ألتقيك إلا في كتبك، ولم أحدّثك سوى في كتاباتي الهزيلة عنك، ولم يخترق طبلة أذني سوى صوتك الآتي من «اليوتوب»؟
تعلم أيها العزيز.. مازلت إلى اليوم أتذكر بوضوح أول مرة عرفتك فيها.. كنت في الثالثة عشرة من عمري، حكت لي أختي مريم التي اعتادت أن تفتح العوالم أمامي عنك، وبدوت بحديثها عنك ضخما، كبرت ودخلت عالم البرزخ في كتبك وما عدت ضخما كما كنت أعتقد.. صرت عملاقا، شاهقا كناطحة سحاب وعصيّا على التقييم، صرت خارج السّرب لأنك بالحقيقة كنت قائد السّرب !
مرت السنوات وكنت أظنّ أنني سألتقيك، بل إن شيئا ما في داخلي كان يؤمن بذلك، حتى أنني حضّرت بقدسية كل شيء لذلك اليوم، أخبروني أنك منذ ثلاث سنوات ما عدت تستقبل أحدا ببيتك وأنك تنكمش يوما بعد يوم، فكّرت أنني سأعتكف بعتبة بيتك حتى يسمحوا لي برؤيتك.. الآن اكتشفت أن الإيمان وحده لا يكفي وأن بعض الأقدار أسرع من صواريخ «براهموس»، والحرب معها غير متكافئة كحرب البوسنة والهرسك وضحاياها أكبر من ضحايا الفتوحات المغولية البشعة..
مازلت أذكر حين طلب منا أستاذ اللغة العربية بالصف الأول ثانوي أن نختار حكمة نحبها.. كان كل ما أحفظه غبيا حينها فصنعت واحدة أعجبت الأستاذ.. ما صدّق أنها لي وما كان يبدو أنه سيفعل.. أخبرته أني كنت أمزح وأنها بالحقيقة لك وأمضيت نصف السنة أدعو الله أن لا يكشف الأستاذ كذبتي،وأمضيت النصف الآخر معززة مكرّمة لأن اسمك عبر حبالي الصّوتية لجزره السّحيقة .. مرت أكثر من عشر سنوات على ذلك ولم يسبق أن أخبرت أحدا بالأمر.. الآن أخبرك في اللحظة التي من الممكن أن يقرأها الآلاف ويستحيل أن تقرأها أنت..، تلك أيها العزيز كانت أول وآخر كذبة تكون أنت بطلها، وكم كان الكذب أنيقا بك يومها..
وفي الختم، صدقا.. لا أعلم لماذا توقفت عن اختيار أحرفي بعناية وأنا أنعيك، ولماذا صرت عارية من كل المورثات التشكيلية وزاهدة في الحرف السرياليّ.. هل لأنّ الأصباغ اللغوية في حضرتك من الكبائر؟ هل لأنّ فقدك استثناء، أم لأنّ فقدان الوطن فيك هو الاستثناء؟
ساحة النقاش