استدراج الطفل عدنان فاغتصب ثم قتل ودفن: فعل مروع و جريمة هزت الرأي العام وأيقظت الضمير الوطني.. الاغتصاب هو الوجه الآخر للقهر وعدوانية في حالة كمون، فهل أصبح المغرب منتجا لظاهرة الاستغلال الجنسي، أم يتعلق الأمر بعولمة جرائم الأطفال؟
<!--<!--
دكتورة خديجة صبار* كاتبة مغربية
اهتزت مدينة تطوان شمال المغرب على هول ضغط جريمة مبدأها اختفاء الطفل عدنان، ذي إحدى عشرة سنة. وبعد بضعة أيام وجد جسده الصغير مدفونا وراء بيت في نفس الحي الذي اختطف فيه من طرف من قام باستدراجه ثم اغتصابه وقتله ثم دفنه(الجاني متعلم). قبل هذا الحادث أعلن الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بطنجة – المنطقة الدولية القديمة – إيداع فقيه (إمام ومؤذن مسجد) بعد اعترافه بهتك عرض ست طفلات قاصرات بضواحي المدينة ممن يحضرن دروس حفظ القرآن في المسيد أو المسجد. وصرح المحامي أنه اعترف بشكل صريح بجميع الأفعال المتعلقة باغتصابه القاصرات. نحن هنا أمام استعمال السلطة الدينية على الطفلات. سنة 2004 قتل سفاح مدينة تارودانت جنوب المغرب سبعة أطفال بعد أن اغتصبهم ودفنهم في مكان إقامته. أبريل 2015 اختطاف واغتصاب وقتل طفلة عمرها خمس سنوات بسيدي قاسم، مارس 2018 اغتصاب وقتل طفلة بضواحي مدينة مراكش(بؤرة السياحة الجنسية) يوليوز 2019 اغتصاب طفل وشنقه بمدينة مكناس. 2019 سجل النفوذ الترابي للدائرة القضائية الإستئنافية بالقنيطرة 337 جريمة تتعلق بالاغتصاب والاختطاف والاحتجاز وهتك العرض بالعنف، محذرا في الوقت نفسه من ظهور نوع جديد من الإجرام المتعلق بالجرائم الالكترونية،[1] والعدد مبشر بالارتفاع مما يجعل اغتصاب الصغار من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام المغربي وتثير اهتمام السلطة العمومية وتخلق التوتر والقلق لدى الأسر المغربية.
تحديد المفهوم
ومفهوم الاغتصاب يشمل الانحراف والجنوح والجريمة، بينما الانحراف لا يشتمل بالضرورة على الجريمة، وكلما وجدت الجريمة وجد الانحراف. والفعل المنحرف مظهر من مظاهر السلوك العدواني قد يرتكبه الكثير من الناس دون أن يصبحوا مجرمين. وإذا لم يعالج الفعل واستمر مع الشخص المنحرف يتطور غالبا إلى انحراف جنائي. ولا يمكن أن نضفي على أي انحراف معنى الجريمة – أعلى درجات العنف- إلّا متى اخترق قوانين المجتمع، وتمحورت الميول الشخصية واتجاهاتها فيه حول النشاط المناهض له، بمعنى الخروج عن قيمه الأخلاقية والدينية وعن عاداته وتقاليده وعن القواعد التي رسمتها القوانين.
لم يعد الاغتصاب في المغرب من قبيل الحالات الفردية العارضة أو المعزولة، وإنما تعدى الأمر ذلك، إذ أصبح من قبيل ظاهرة اجتماعية ضد قاصرين، تنتظم عددا ليس بيسير، وتتخذ صورا وأشكالا مختلفة: تبدأ بالإغراء ثم التحرش فهتك العرض أو الاغتصاب المقرون بالعنف لحد التصفية الجسدية. ورد في تصريح لأحد مسؤولي الجمعيات الحقوقية قوله:”لا يمر يوم دون أن نتوصل من أحد فروعنا بخبر أو تقرير عن حالة اغتصاب طفل أو قاصر”. وحجم الظاهرة يدل على أزمة المجتمع ويؤشر على ما يعتمل باطنيا في بنيته من اضطراب، ومقدار العدوانية الكامنة في شبكة العلاقات الاجتماعية، تتلمس الفرص كي تنفجر وتطغى على الوجود والعلاقة، ويبدو كأنّ الانتقال إلى عملية التدمير وحدها تطفئ جذوة العدوانية المدمرة للإنسان، والمبخسة لقيمته وحقه في الحياة، مما ينبئ بالخطر الذي يهدد المجتمع في أعز ما يملك(الأطفال والطفلات)، وفك الارتباط العاطفي بالآخر، وانهيار روابط الحماية أو المحبة أو التعاطف والمواطنة وما عداها من العلاقات التي تحمي حياة الآخر وتدفع إلى احترامها.
تعاني جل المجتمعات، المتقدمة منها والنامية، من ظاهرة الاغتصاب بنسب متفاوتة. والمجتمع المغربي، شأن جميع المجتمعات العربية، يمر بمرحلة تغيير سريع وشامل، تعتمل فيه حضارتان تختلف ثقافتهما ولغتهما وتقاليدهما، وقيمهما الدينية والاجتماعية، أجج تفاعلهما عامل التطورات التكنولوجية والثورة المعلوماتية التي اكتسحت العالم، إضافة إلى صبيب المحطات التلفزيونية بأشكال وتوجهات غير متحكم فيها، ويواجه بسبب ذلك مشاكل من كل نوع، مما يتطلب الإتجاه لفهم الظاهرة والإحاطة بها، والبحث عن الأسباب التي تجعل المجتمع يفرز مثل هذا السلوك الإنساني الإجرامي ويضطرب ويتأثر عند حدوثه، فهل نحن في لحظة انفجار الحقيقة الكامنة في المجتمع؟ وما علاقة الظاهرة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وبأساليب التنشئة والتطبع الاجتماعي، وبالمجتمعات التي تروم الحداثة عبر إيديولوجية التحديث؟ ما الدوافع التي تجعل الفرد يخرج عن ضوابط المجتمع وينفي قيمه وينتهك قواعده؟ وهل الاغتصاب حصيلة كل من النظام الاجتماعي وثقافة المجتمع؟ هل هو صناعة اجتماعية؟ أم رد فعل ضد المجتمع؟ هل هو سلوك إنساني مكتسب من الممارسة الاجتماعية بين البشر، له شروط موضوعية وذاتية أم سلوك موروث؟ وأين دور الأسرة وحماية الطفولة والاهتمام بشؤونها من طرف الدوائر المسؤولة؟ أسئلة تتطلب كشف الظاهرة وأبعادها وخصائصها المختلفة، وتحليل جوانبها بحثا عن الأسباب التي تتعلق بوجود هكذا أمراض اجتماعية وما تفضي إليه.
إذا قمنا بتصنيف مشاكلنا الاجتماعية الحالية، من حيث خطورتها وأهميتها على المستوى الوطني، ومن حيث دلالتها على تسرب الخلل إلى بنيتنا الاجتماعية والإقتصادية والسياسية، فإننا سنجد الانحراف والإجرام بجميع الأشكال في طليعة هذه القائمة. حسب المفكر التونسي عبد الوهاب بوحديبة الجريمة فعل سلبي، يخل بالنظام ويشوش البنية، الجريمة تنتهك التنظيم الذي من بين مؤسساته الرئيسة ردع من يخترقه ويتحداه… هي فعل اللّامعقول، تهين القيم وتقوم أللّاقيم،”فرفض القيم ينتهي بأن يكون رفض للجماعة بما أنّ هذه القيم هي الدعامة لهذه الجماعة…فليس النظام وحده الذي يتم خرقه من طرف المجرم، بل المجتمع كافة”. [2]
إطار نشأة الظاهرة
ينظر علماء النفس والاجتماع إلى الجنوح والعنف في أقصى درجاته كظاهرة اجتماعية لها أسباب وعوامل ودوافع متعددة، اجتماعية وثقافية ونفسية واقتصادية ودينية وأخلاقية، وصنيعة من صنائع المجتمعات المريضة والسلط القمعية والعقائد الدينية المنغلقة، كما أن المعانات والقلق والأمراض النفسية والكآبة وانفصام الشخصية قد تدفع إليه أحيانا، وترتبط الظاهرة بفشل منظومة القيم الاجتماعية والدينية والأخلاقية في تحقيق التوازن الاجتماعي والنفسي أو ضعفه، وبالتالي فهي مكتسبة من البيئة والمحيط الاجتماعي وليست موروثة، ذلك أنّ سيكولوجية الإنسان وتربيته وسلوكه مرهونة بالبيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتراث الثقافي، وشبكة العلاقات الاجتماعية. ويبدو أنّ المسؤولية والأخلاق قد فقدا دلالتهما العميقة في الوعي المغربي، وأصبحا من جنس مفهوم الدين الذي أضحى مقصورا على الطقوس الشكلية، ومن مظاهر التقوى المنافقة. ولا بد من التذكير أن الأخلاق ليست قيما لمجال مخصوص بل هي أحكام التعامل بين البشر، ليست نظام قيم بل أحكام ممارساتها وكفايتها لتعلقها بشروط التعامل بينهم، من هنا تركيز القرآن على العدل والقسط وعدم الغش واعتبار التطفيف كيلا أو اكتيالا من أكبر علامات النفاق المذمومة.
ما أروم تناوله في هذا التحليل ليس سطح الجنوح والعنف والتحرش والاغتصاب وتوابعه والنقاش المتداول حوله، بل النفاذ إلى لغز الإشكالية، إلى حقيقة جوهر وتفاقم أبعادها، حفرا وتنقيبا عن الأهداف والمرجعيات الجاثمة وراءها، إلى الحضن الذي انتعشت فيه والعواقب المنتظرة من جراء التطبيق على الأغلبية الساحقة من الذين لا حظ لهم في الغنى والترف:
الأوساط الاجتماعية للنشأة، ظروف العيش الاقتصادية والاجتماعية، الأساليب التربوية والنفسية والعلاقات الإنسانية، وجميعها عوامل محددة وذات تأثير، لكن بؤرة الداء تتجسد في تأثير منظومة التربية والتعليم – بجميع مؤسساتها - على التلاميذ والطلبة، من المستوى الابتدائي إلى سلك الجامعة، باعتبار التعليم مسألة حيوية وأداة بناء الأمة وتمتين لحمتها ورسم معالم المجتمع والارتقاء بوعي الإنسان. وإذا كان التعلم من طبيعة البشر فإن التربية هي ما يعطي لكل إنسان ثقافة تجعل منه كائنا ثقافيا، يقول إمانويل كانت (Emmanuel Kant):” إنّ الإنسان لا يمكن له أن يصبح إنسانا إلّا عبر التعلم والتربية فهو نتاج ما تفعل منه تربيته”. بمعنى أن هناك حقيقة هامة يجب عدم التغاضي عنها، وتتعلق بالتربية والتعليم، كما أن مجال التنمية يرتبط بالمسألة التعليمية من حيث النوعية أو التعميم والانتشار والجودة، استنادا إلى معايير التقييم والتصنيف الدولية للمجتمعات في سلم التنمية والتقدم للوضعية التعليمية في أي بلد، فمجتمع الغد إمّا أن تصنعه المدرسة أو لا يكون. وتكوين الجنس البشري يكون عن طريق التربية التي تسبق التعليم. فالتربية تمهد الطريق للتعليم ومسؤوليتها تقع على الآباء في الأسرة أو العائلة حيث التنشئة الاجتماعية الأولى. والمدرسة تقوم بالتعليم المرتبط بالتربية، أما التنمية فتعني الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية، وأنّ محورها الإنسان في المجتمع، بحاجاته المادية وبقيمه الروحية والأخلاقية، وتهم عامة الشعب، لأنّ التنمية تكون وفق تخطيط شامل للدولة وبمشاركة الهيآت والفئات الشعبية.
علاقة الظاهرة بمنظومة التعليم المتهالكة
تؤثر منظومة التربية والتعليم بجميع مستوياتها تأثيرا كبيرا في تشكيل القيم الاجتماعية والأخلاقية لدى المتعلم بالأخص متى كانت المنظومة تكرس علاقات السلطة القمعية وتقوم على التسلط والخضوع والسيطرة عن طريق التلقين كأسلوب من أساليب السيطرة على الأذهان والحشو بالمعلومات الكمية، يقول محمد عابد الجابري:” ثمة مشكل مزمن في المغرب، هو بلا منازع مشكل المنظومة التربوية التي تعاني من اختلالات. والمشاكل أيا كان نوعها ليست بنت ساعتها بل هي نتيجة عملية تطور ونمو: نمو الأجزاء في إطار نمو الكل، ونمو الكل من خلال نمو الأجزاء؛ معنى ذلك أن المشاكل، أيا كانت، لها تاريخ. ومن ثمة يغدو الفهم الصحيح لها إنما يبدأ بفهم تاريخ مولدها ونشأتها، وتتبع مراحل نموها وتطورها”.
لم يكن الجابري يبحث عن الظواهر لأنها لا تعبر عن المشكل تعبيرا كاملا، اهتم أساسا بالإطار الذي نشأت فيه تلك الظواهر وبقي يتحرك في حدوده، يضيف:”إنّ التعليم بقي في المغرب كما خططت له الحماية تعليما خاصا بنخبة ضيقة جدا، تتكون أساسا من العائلات الأرستقراطية. ومنظومتنا التعليمية- رغم الجهود والميزانيات المبذولة في هذا الإتجاه- لم تتجاوز وضعها بعد كسلسلة مؤسساتية لتوليد المشاكل باستمرار؛ ذلك ما كشف عنه جدل ونقاش القانون الإطار (17. 51)، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي الذي ظل مجمدا منذ خريف 2016، وتمت المصادقة عليه رسميا من طرف غرفتي البرلمان(2019).
بلغ عدد برامج إصلاح القطاع منذ الاستقلال إلى اليوم ما يناهز أربعة عشر إصلاحا، بمعدل محاولة كل أربع سنوات. غداة الاستقلال، تم إنشاء”اللجنة الملكية لإصلاح التعليم”التي عقدت أول اجتماع لها بتاريخ 28/9/1957 وأقرت المبادئ الوطنية الأربعة: التوحيد والتعميم والتعريب والمغربة. وتعاقب عليه إثنان وثلاثون وزيرا بمعدل وزير لإثنين وعشرين شهرا ونصف، ولم يحدث كما يقول الجابري:”أن أكمل فوج من التلاميذ برنامجا واحدا بعينه”، ليبقي المشكل قائما كما كان أو أكثر، لاعتماد الحلول الجزئية. انعقدت مناظرة معمورة عام (1964)، فمناظرة إفران الأولى(1970) ثم الثانية (1978)، فاللجنة الوطنية لإصلاح التعليم في صيغتها الأولى في الثمانينيات، ثم في صيغتها الثانية بمساهمة البرلمان(1994)، وأنتجت اللجنة الخاصة للتربية والتكوين(1999)، فالميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي شرع في تطبيقه سنة 2000 لتجاوز خطاب الأزمة، لكن تطبيقه شهد جملة من الإخفاقات، مرورا بتقرير “الخمسينية”(المغرب الممكن) حول التنمية البشرية سنة (2005)، فتقرير البنك الدولي، منذرا الدولة بالمخاطر التي تهدد المنظومة سنة (2008) ثم تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين الصادر في نفس السنة (2008)، والذي أقر بالإخفاقات التي شهدها النظام التعليمي المبني على التخطيط من الأعلى تجاه الأسفل، وفقدان الجسور بين مختلف مكونات المنظومة، واعتماد التلقين، وضعف المردود، وفقدان الثقة في المدرسة لأنها لم تعد سبيل الارتقاء الاجتماعي، وسجل المساس بمجانية التعليم، وإدراج اللغة الأجنبية الأولى منذ السنة الثانية ابتدائي، والثانية ابتداء من السنة الخامسة، وتقديم الامتياز للتعليم الخاص على حساب التعليم العمومي (أظهر الوباء كورونا مدى بشاعة لوبي هذا التعليم واستئساده على جيوب الأولياء). ودفع بالبرنامج ألاستعجالي 2009/ 2012 لمعالجة إخفاقات الخطة العشرية وتدارك مواقع الخلل بها، وإعادة هيكلة المنظومة على أسس سليمة انسجاما مع بعض المرجعيات والمواثيق الدولية ذات الصلة بقضايا التربية والتعليم، عبّر المغرب عن التزامه بها:”اتفاقية سيداو (CEDAW) المتعلقة بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة”المعتمدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام(1979)،”اتفاقية حقوق الطفل”المعتمدة سنة(1989)، الأهداف الستة حول التربية للجميع الصادرة عام (2000) عن المنتدى العالمي للتربية، والمعروفة بإطار عمل دكار حول ” التربية للجميع”، و”الأهداف الإنمائية للألفية” التي تعارف عليها زعماء العالم خلال انعقاد قمة الألفية للأمم المتحدة سنة (2000)”.
لم يكن استقلال المغرب نتيجة ثورة، ولا وليد حرب تحريرية طويلة الأمد، وإنما كان نتيجة حلول توفيقية وسطى، كانت إجهاضا لثورة في طور المخاض، فبقي النزيف يغذي المشاكل الاجتماعية والإقتصادية والسياسية إلى اليوم. الشيء المؤكد هو أنّ الوضعية العامة تتطلب ضرورة ثورة ثقافية كما أكد العروي حينما اشتكى من البؤس الثقافي منذ الستينيات. المنظومة التعليمية كصناعة إستراتيجية لتأهيل الرأسمال البشري لمواكبة مستجدات العصر التي أحدثتها الثورة العلمية والتقنية وثورة الاتصالات، تتطلب وضعيتها اليوم القيام بثورة ثقافية واسعة شاملة وتستلزم حلولا جذرية أصيلة، لكن هل يمكن القيام بهذه الثورة الثقافية والعثور على هذه الحلول الجذرية في ظل أوضاع لم تتحقق فيها الثورة الاجتماعية والتغييرات الجذرية الضرورية؟ كما يرى الجابري. لم تبلغ مخرجات المدرسة المغربية الحد الأدنى للمعايير المعرفية والعلمية والسلوكية: مهارات التفكير التحليلي والتركيبي والنقدي، ومهارات الإبداع وحل المشكلات، ومهارات تدبير المواقف، مهارات رئيسة للتفاعل مع مجتمع المعرفة والمشاركة في اقتصادها(المعرفة). ومعضلة التعليم هي عجزه عن خدمة التنمية وتحقيق تماسك النسيج الاجتماعي وترسيخ الإحساس بالانتماء إلى المجموعة الوطنية، وبناء القيم على أسس عقلانية وحداثية، وتيسير الإندماج الاجتماعي والإقتصادي، والاستجابة لمتطلبات سوق الشغل، والإنخراط في مجتمع المعرفة المعولم. ويتطلب الأمر بناء قوّة ذاتية تنهي عناصر الضعف التي أتاحت للاحتلال أن يحدث أصلاً، إذ لا يمكن لأمة أن تنهض أو أن تجد لها مكانا في مصاف الدول المتقدمة إلّا بالتدريس بلغتها، وإعطائها أكبر حصة في المدرسة والبحث العلمي حتى يتسنى للطالب أن يتألق خلقا وابتكارا. هل يمكن بناء الإنسان المواطن بتعليم عاجز على بناء مجتمع المعرفة؟ علما أن بناء المجتمع والوطن والدولة يمر عبر بناء الإنسان، وهل يمكن لأمة أن تنهض أو أن تجد لها مكانا في مصاف الدول المتقدمة خارج التدريس بلغتها الأم؟ فما بالك أن قامت أصوات تنادي بالتدريس بالدارجة المغربية، أصوات غايتها القضاء على تراثنا العربي، و القرآن الكريم، فهل يستطيع الجيل الذي تعلم بالدارجة قراءة القرآن وفهمه، أو قراءة المعلقات أو مأثورنا الثقافي الذي استفاد منه الغرب نفسه في خلق نهضته!!
الإصلاح صيرورة مستمرة لا يمكن أن تتوقف تفاعلا مع تطورات المجتمع، لكن أن يتحول لصيرورة مستدامة (processus durable) استعصى حلها في حينها، يعود بلا شك إلى فشل تطبيق الإصلاح المقرر أو إلى تغيير في الجهاز التنفيذي، ويؤدي إلى إحداث تراكم الإخفاقات في قطاع استراتيجي، عليه يبنى تقدم المجتمع وتطويره. وضع يستدعي الوقوف مليا على المردودية المتواضعة فيما يتعلق بالتنمية البشرية التي يعاني منها الوطن، رغم جهود الإصلاح المتتالية، بالأخص بعد المصادقة على قانون الإطار17. 51، في ظل دستور 2011، الذي تهدف روح مقتضيات بنوده لمشروع مجتمعي يحدد التوجهات والاختيارات والمسارات الكبرى في جميع المجالات بناء على رؤية إستراتيجية للإصلاح (2015- 2030)، التي وضعها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي تحت عنوان:”من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء”.
هذا المسار السيزيفي يطرح علينا أسئلة محرجة، جوهرها مدى نجاعة مسلسل إصلاح التعليم في الرهان الجوهري على تأهيل رأس مال بشري معرفي عقلاني يساير مجتمع الحداثة:إلى أي حد روعي تكييفه مع النسيج الاقتصادي والاجتماعي؟ الأبعاد العميقة لأزمته التي تطغى على الحياة الاجتماعية والسياسية، والأسس التي بني عليها، مضمونها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي؟ الفلسفة التربوية والمعرفية التي تشكل أرضيته؟ ماذا تحقق بعد الانتقال من التدريس ببيداغوجية الأهداف (objectifs) إلى بيداغوجية الكفايات(compétences)؟ وهل هناك خطة وطنية شاملة للمدرسة العمومية وللمنظومة التعليمية بصفة عامة؟ هل يمكن بناء الإنسان المواطن بتعليم عاجز على بناء مجتمع المعرفة؟ علما أن بناء المجتمع والوطن والدولة يمر عبر بناء الإنسان؟ وهل يمكن لأمة أن تنهض أو أن تجد لها مكانا في مصاف الدول المتقدمة خارج التدريس بلغتها الأم؟
[1] – تصريح الوكيل العام للملك بمناسبة افتتاح السنة القضائية 2020
[2] – Abelouhab Bouhdiba , Criminalité et changements sociaux en Tunisie, Cérès, Tunis 1966,p .7,8
ساحة النقاش