مقال: ما هي أهداف المنظمات "غير الحكومية" في لبنان؟
المصدر: الميادين نت-قاسم عزالدين*كاتب لبناني في الميادين نت وباحث في الشؤون الدولية والإقليمية
نشاط المنظمات"غير الحكومية"المحموم، يقوم على إيهام الغاضبين من الفساد والإنهيار، بأنها مستقلة تسعى إلى التغيير. لكنها أدوات سياسية تابعة إلى حكومات غربية تعمل على تلميع منبع الخراب.
بعد الإنفجار الكبير في مرفأ بيروت تدفقت المساعدات الإنسانية على لبنان وتولتها منظمات غير حكومية. تنتشر هذه المنظمات كالهشيم في سوق"المساعدات"التي أوكلت الدول الغربية توزيعها إلى ناشطين تابعين لها، بذريعة الحرص على إيصالها إلى المنكوبين في فاجعة تفجير المرفأ من دون وسيط حكومي مشبوه.
فوضى التوزيع العارمة التي يحاول الجيش اللبناني الحدّ من استفحالها تدلّ على أن اختيار منظمات بعينها هو رافعة إضافية لها، أملاً بتعزيز نفوذ الأدوات الغربية في صدارة الحراك الشعبي ضد فساد الطبقة السياسية ونظام الانهيار السياسي والاقتصادي. في هذا السياق تتنافس منظمات أميركا ومنظمات فرنسا ــ أوروبا على تجميع فئات من الناشطين في إطار جامع، ينصّب نفسه مجلساً ناطقاً باسم"الثورة"بدعم من مؤسسات الحكومات الغربية وسفاراتها في لبنان. وبدعم من "المؤسسات والهيئات الدولية" التي تعمل سوياً مع الحكومات في خطة عمل موحّدة، لكن كلاً منها يغلّب طرفاً على آخر بحسب سعر السوق والميول الشخصية والخاصة.
منظمات فاسدة التنظيم والارتباطات السياسية
المنظمات"غير الحكومية"في لبنان، توحي بأنها جمعيات من المجتمع المدني المحلي لإخفاء فسادها السياسي والمالي عن الناشطين المحليين في الجمعيات والمنصّات الأهلية وعن الشباب والغاضبين ضد منظومة فساد النظام والطبقة السياسية.
لكن لا يوجد في لبنان وفي أي بلد، منظمات"غير حكومية"محلية أو إقليمية. ففي دول الشمال هي منظمات دولية تختلف عن جمعيات المجتمع المدني المحلية بأنها مؤسسات عابرة للحدود كمنظمة أوكسفام وأطباء بلا حدود والصليب الأحمر والخط الأخضر .... وغيرها العشرات. وهي تضمّ مئات آلاف الموظفين الدائمين عدا المتقاعدين (في فرنسا وحدها حوالي 71 ألف موظف ومتقاعد) لكنها تخضع لفحص شفافية البرامج وعقود العمل وتخضع كذلك إلى رقابة الميزانيات وإلى رقابة عقود العمل والضريبة المالية على مداخيل الموظفين والمتعاقدين.
في لبنان وغيره من دول الجنوب، لا تخضع المنظمات إلى الرقابة المالية ولا إلى شفافية الميزانية وشفافية البرامج والضرائب والمداخيل. فهي في هذا السياق جزء لا يتجزأ من فساد الطبقة السياسية التي تخفي وظيفتها ومداخيلها في الخلط المشبوه بين العمل الخاص والعمل العام، فضلاً عن الترويج لنفسها بأنها "جمعيات مدنية" تطوّعية من دون مقابل مالي.
حتى الأمس القريب كان المجتمع المدني في الدول الأوروبية، هو السلطة المعنوية التطوّعية الموازية لسلطة الحكم في إطار الممارسة الديموقراطية للتعبير عن حفظ الحقوق. فهو يسمى "مجتمع مدني"لأنه تطوّعي غير حكومي وغير مدفوع الأجر يشمل الجمعيات الأهلية والحقوقية والروحية والبيئية والأحزاب والنقابات والروابط ....إلخ، يقوم دوره على حق وواجب المواطنين النهوض بمسؤولية تقويم السياسات عبر الضغط على الحكومة لتغيير سياساتها واجراءاتها حين تتعارض مع الحقوق. لكن الحكومات الغربية ألغت دور المجتمع المدني في سياق تحوّل الدول الغربية إلى النموذج النيوليبرالي الأميركي، حين تبنّت الديموقراطية الأميركية في بدعة الاحتكام فقط إلى لعبة الانتخابات واختيار ممثلين مطلقي الصلاحية في سلطة الحكم عبر صناديق الاقتراع.
في إطار هذا الانقلاب على الديموقراطية القائمة على التوازن بين سلطة الحكم وسلطة المجتمع المدني المعنوية أبعد من صناديق الاقتراع، اعترف المجلس الأوروبي في العام 1986 بوظيفة المنظمات "بأنها جزء من المجتمع المدني" دليلاً على تحوّل الحكم الأوروبي إلى النموذج الاميركي القائم على "لوبيات" المصالح الخاصة وحرّية الرأسمال الكبير. ثم أصبحت ثقافة الانقلاب على الديموقراطية سياسة رسمية للحكومات الأوروبية تدريجياً، نتيجة انقلاب تاتشر ــ ريغان في مطلع الثمانينات نحو النيوليبرالية.
وظيفة المنظمات"غير الحكومية"في لبنان
المنظمات في لبنان هي جزء لا يتجزأ من عمل المنظمات"غير الحكومية"التي اعتمدتها الدول الغربية في العمل للقضاء على دور الدولة وعلى الاستقرار الأمني والاجتماعي. فقد مهّدت "للثورات الملوّنة"في أوروبا الشرقية، وتمهّد الطريق أمام حروب التفتيت في بلدان الجنوب من أجل تحويل البلدان إلى سوق تجارية حرّة وتحويل المواطنين إلى مستهلكين. في هذا الإطار نظّمت الدول الغربية وشركاتها متعدّدة الجنسية"منتدى المنظمات غير الحكومية"في فيينا عام 1993 الذي أصدر إعلان فيينا و"خطة العمل". وهي بمثابة"مانيفستو"وإرشادات مقدّسة تحكم عمل المنظات إلى اليوم، أساسها توسيع نفوذ الدول الغربية وإلغاء دور الدولة من أجل فتح الأسواق لشركاتها.
إثر إقرار خطة العمل في فيينا، عملت الدول الغربية على قوننة عمل المنظمات "غير الحكومية" في مؤسسات وهيئات الأمم المتحدة. وفي هذا الاطار أقرّ "المجلس الاقتصادي والاجتماعي" في الأمم المتحدة عام 1996 قانوناً يتيح توظيف أعضاء المنظّمات بصفة "مستشارين"مقابل عقد عمل و"بيع خدمة". وعلى ضوء هذا "التطوّر"، استقطبت مؤسسات وهيئات أخرى"التعاقد"مع المنظمات"غير الحكومية"مقابل ميزانية"أداء خدمة"تتضمّن تكاليف العمل وثمن"الخبرة التقنية".
البنك الدولي على سبيل المثال يعتمد ميزانية سنوية مخصّصة لكلفة المنظّمات التي تساعد في نشر وصايا البنك والصندوق من"أجل النمو".والاتحاد الأوروبي يخصّص ميزانية أخرى لترويج ثقافة اللجوء إلى"المستشارين"(الخبراء والتكنوقراط) في السلطة بذريعة الشفافية ومكافحة الفساد.... إلخ
جميع مؤسسات الدول الغربية والأمم المتحدة، تستعين بالمنظّمات"غير الحكومية"في دول الجنوب بصفتها"شخصية معنوية"قادرة على"بيع الخدمة"مقابل"التكاليف والاتعاب"التي تدرجها المنظّمة في نشاطها. فمنظمة التنمية الأميركية توظّف"مهنيين"من أعضاء المنظمات.
ومعهد الديموقراطية الأميركية يوظّف شخصيات معنوية و"خبراء". والمنظمة الاقتصادية الأوروبية تشتري"الحرفة"وتتعامل كما تتعامل هيئات الأمم المتحدة في برامج"الألفية" والتنمية المستدامة وحقوق الانسان وحماية البيئة.... إلخ
كل نشاط تقوم به المنظات في لبنان، مدفوع الأجر للفاعلين الأعضاء"وفق الكفاءة المهنية" (كما تنصّ العقود) ومحسوب التكاليف"وفق الجدوى". فتحضير لوازم الاعتصام والمنشورات أو أدوات التحرّك، محسوب الكلفة والاتعاب في ميزانية مخصّصة"للنشاط العملي". وإلى جانب التحرّك العملي يتم رصد ميزانية لأطلاق الحملة الاعلامية في التلفزيونات والمنشورات وغيرها. وميزانية أخرى"للتدريب وتحسين الأداء"منها"بيع الخبرة"وتطوير التقنيات المهنية.والتمكين من التأهيل والإعداد ومن بين"التمكين"إنشاء مجالس وتجمعات مدفوعة النفقات للتأثير بالشباب والمنصّات والتيارات والرأي العام ... إلخ
انحياز منظمات لبنان إلى السياسة الأميركية
المؤسسات والحكومات الأميركية والأوروبية تتوافق في لبنان على تمويل المنظمات "غير الحكومية" وتمويل جماعاتها من أحزاب السلطة والنظام، من أجل الاحتفاظ بالسياسة الاقتصادية ـ الاجتماعية الناتجة عن اتفاق الطائف التي تبنّتها الحكومات في لبنان طيلة عقود.
على أساس هذا التوافق لم يصوّب الناشطون ومن ضمنهم"منصّات الحراك"وحتى منصّات التيارات السياسية"الجذرية"، على منبع الخراب والانهيار الاقتصادي ــ الاجتماعي في هذه السياسات نتيجة مصلحة الطبقة السياسية الفاسدة في تبعيتها لوصايا صندوق النقد والبنك الدولي و"الدول المانحة" في مؤتمرات باريس وغيرها عبر"المستشارين والتكنوقراط" في الحكومة والوزارات.
في هذا الأمر يتوافق الجمع ممن ضمّ مجلسهم، على أن هذه السياسات هي خير ما تصبو إليه بلدان"العالم الثالث"من أجل الازدهار والاستقرار. لكن جماعات أميركا وإداراتها تصوّب فقط على فساد أشخاص الطبقة السياسية والسلطة باعتباره العامل الوحيد الذي أفسد النتائج الافتراضية الباهرة، لو حكمت السلطة بشفافية و"حوكمة رشيدة"من دون نهب المال العام وتخريب الإدارات ومؤسسات الدولة. علماً أنّ السياسات نفسها أدّت إلى النتائج عينها بنسب متفاوتة في كل البلدان ومن ضمنها البلدان الغربية.
في هذا الصدد تتمايز فرنسا لأسباب جيو ــ سياسية في شرقي المتوسط عن سياسة أميركا، في الدعوة إلى إصلاح شكل الحكم عبر ميثاق وطني جديد، بديلاً من ميثاق الطائف. بينما ترى أميركا وجماعاتها في لبنان من الأحزاب والمنظمات"غير الحكومية"، الحفاظ على ميثاق الطائف وتغيير أشخاص السلطة والبرلمان في الدعوة إلى حكومة"حيادية"وإلى انتخابات نيابية مبكرة لتغيير مؤسسات الرئاسة والمجلس والحكومة.
تتمايز فرنسا عن أميركا أيضاً في النظر إلى أسباب الانهيار الاقتصادي والسياسي، وفي خريطة الطريق للمعالجة من شفير الهاوية. فترى أميركا وجماعاتها من الأحزاب والمنظمات أنّ الأسباب كلها تنحصر بحزب الله"الذي يسيطر على الحكومة وعلى مؤسسات الدولة لمصلحة إيران". لذا يتوجّب"تحرير"الدولة من الحزب ونزع سلاح المقاومة، والاعتماد على "المجتمع الدولي وعلى "الشرعية العربية" والعودة إلى "نظام لبنان الرسالة السماوية"في"العيش المشترك" ومنارة الحضارة الغربية.
فرنسا من جهتها ترى أزمة الإنهيار السياسي والاقتصادي، بعيدة عن حزب الله الذي يبحث عن خريطة طريق آمنة للإصلاح والمعالجة مع تجنّب الفتنة والفوضى الأمنية التي تهدّد بحروب طاحنة قد تلتهم الأخضر واليابس. ولعل فرنسا تتميّز عن أميركا في النظر إلى حزب الله ركناً أساسياً للمساهمة في إعادة البناء وإنقاذ لبنان من شفير الهاوية. وترى سلاح المقاومة واقعاً مرتبطاً بمخاطر عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، يمكن تحييده عن معالجة الأزمات في لبنان على المدى المنظور.
قد نرى مجلساً من المنظمات"غير الحكومية"ناطقاً باسم المجتمع المدني. وقد نرى تجمّع مجالس يمكن مشاركة بعض رموزها في الحكومة وفي الانتخابات النيابية اللاحقة لكن"كل عنزة تبقى معلّقة بكرعوبها".
ساحة النقاش