هل يقدم آيا صوفيا طوق النجاة للرئيس التركي؟!
<!--<!--
“رأي اليوم” أيهم الطه* كاتب سوري
مدفوعا بطموحاته وأحلام استعادة عرش الخلافة وإرث السلطنة، ومحاصرا بهمومه الداخلية ومشاكله الخارجية وسلسلة الحروب التي أطلقها في جميع الجهات إختار الرئيس التركي أن يلقي حجر جديد في بركة السياسة التركية عندما وقع، على قرار إعادة مبنى آيا صوفيا إلى مسجد، بعد 86 عامًا من تحويله إلى متحف. ملغيا القرار الصادر عام 1934 القاضي بتحويله إلى متحف. قرار يعيد الجمهورية التركية إلى صراعات دينية وسياسية واجتماعية وتاريخية كانت تحاول التخلص منها خلال القرن الماضي.
آيا صوفيا كاتدرائية شيدها البيزنطيون في القرن السادس كانوا يتوجون فيها أباطرتهم قبل أن يسيطر عليها السلطان محمد الفاتح ويحولها إلى مسجد، وتعتبر تحفة معمارية وذات أهمية خاصة عند العالم المسيحي خاصة الأرثذوكسي ومدرجة على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، وهي واحدة من أهم الوجهات السياحية في تركيا كما أنها مورد إقتصادي وثقافي هام لتركيا حيث استقبلت في عام 2019 وحده حوالي 4 مليون زائر.
لاشك أن الرجل المغرم بالسلطة والهيمنة يتمتع بكاريزما معيّنة ويجيد اللعب على الحبال كما يجيد فن الإستعراض والخطاب والحشد ويعرف كيف يلفت الأنظار إليه وكيف يستغل ذلك.
أردوغان المأزوم حزبيا والمحاصر بمشاكل داخلية وخارجية هل يقدم له إستعراض آيا صوفية الغفران على كل المشاكل التي أدخل تركيا فيها ويكون طوق النجاة الذي سيعيد تعويمه شعبيا؟ شخصيا أشك في ذلك.
لكن لابد أن نقر أنه عرف كيف يتلاعب بعواطف وغرائز الكثيرين في العالم الإسلامي مستخدما الخطاب الديني أياه ومؤيدا بولاء ودعم جماعة الإخوان في العالم بعد أن أصبح ملهما لهم وإستطاع بخطابه الشعبوي جمع الكثير من الأنصار حوله متلاعبا بعواطفهم الدينية، ومستغلا حالة الضعف والفوضى والفراغ في العالم الإسلامي خاصة (السني) الباحث عن (بطل مخلص) وزعيم لقيادته.
رسائل عدة وجهها الرئيس التركي الذي صدّر قراره للداخل التركي والخارج الإسلامي على صورة إنتصار للدين والهوية والسيادة، مستهدفا إعادة تحشيد قاعدته الشعبية التي تصدعت وفقد جزء مهم منها، ومبعدا أنظار المجتمع التركي مؤقتا عن المشاكل التي يعاني منها، عبر دغدغة المشاعر الدينية والقومية في إستعراض واضح يهدف من خلاله إلى إضعاف معارضيه وزيادة أنصاره في الشارع التركي.
مناورة يبدو أنها أتت ثمارها في إحياء الصراع الديني للاستفادة منه داخليا وخارجيا فيظهر الرجل كزعيم مسلم وطني يحيي ماضي السلطنة العثمانية ويبعث أمجاد خلافتها التي انقضت بدون وإرث لها، وضربة لأضعف خصومه ومعارضيه السياسيين وجرهم إلى حلبته الدينية تجبرهم على تأييد القرار لاسترضاء قواعدهم الانتخابية القومية والدينية وهي تمثل شرائح واسعة من الشعب التركي فقد كان هذا القرار مطلب قديم للمتدينين في الشارع التركي، كما أنه عمل على شيطنة وتكفير منتقدي ومعارضي قراره الذين سيبدون مضحين بالسيادة التركية وتابعين للخارج ومعارضين للدين ومنفصلين عن مطالب الشعب.
فيما جسد رفع الأذان في المسجد مصحوبا بصيحات التكبير والتهليل صورة يستخدمها الإعلام الموالي للرئيس التركي لترسيخ صورة الزعيم المسلم الذي يدافع عن قيم المجتمع وسيادته ودينه وهي سردية تفيد أيضا في الخطاب الدعائي لتحركات الرئيس التركي وحروبه الخارجية وتزيد من أعداد أنصاره ومؤيديه في العالم الإسلامي وحيث يتم تصدير القرار كانتصار إسلامي حققه الخليفة المدافع عن حياض الدين ما سيتيح له المزيد من التدخل في شؤون الدول الإسلامية. هو’’سعي لإحياء الماضي لسرقة المستقبل’’على حد تعبير الكاتب الجزائري’’كمال داوود’’في لوبوان (Le Point)الفرنسية.
وفيما ظهر الرئيس التركي في خطاب له 11 يوليو 2020 رافضا الإدانات الدولية لقراره ومعتبرا أن ذلك من’’حقوق بلاده السيادية’’ومقارنا قرار تحويل آيا صوفيا إلى مسجد بتدخله عسكريا في كل من سورية وليبيا!. ومحرضا على منتقدي القرار بأنه يسعون إلى تحويل المساجد إلى متاحف عبر إشارته إلى اقتراح قديم لتحويل مسجد السلطان أحمد إلى متحف ومعرض للصور وقصر يلدز إلى دار قمار وآيا صوفيا إلى نادي للجاز مستفزا المشاعر الدينية ليس لدى الشعب التركي فقط وإنما في العالم الإسلامي بشكل كامل مضيفا أن منتقدي قراره ربما يطالبون بتحويل الكعبة أو المسجد الأقصى إلى متحف!.
مرة جديدة يُستخدم الدين سياسيا ويُوضّف لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية، فيما تستمر معاناة الاقتصاد التركي الذي يواجه إنخفاض مستمر في قيمة عملته ومستوى نموه وإرتفاع نسب البطالة فيه وفيما تحاصر الأزمات المعيشية الكثير من الأتراك.
الرئيس التركي الذي يتقن تحويل الأزمات إلى فرص يستخدم جيدا الوقت الذي أتاحته هذه الضجة الإعلامية وما خلفته من إنتقادات دولية ليظهر بصورة الزعيم المسلم المحارب من ’’الكفار’’ في الداخل والخارج.
فيما يتفرغ مع ما تبقى من حزبه بعد الإنشقاقات لإسكات من بقي من أصوات معارضيه عبر تجهز قوانين جديدة تنظم النشر على وسائل التواصل الإجتماعي التي شكلت خلال الفترة الأخيرة المنبر الأساسي لمعارضيه وشهدت توجيه انتقادات مباشرة للرئيس التركي وسياسته الداخلية والخارجية كما حدث قبل عدة أسابيع أثناء لقاء مباشر له عبر تقنية «فيديو كونفرانس»، مع الشباب التركي وحيث انهالت التعليقات المنتقدة الغاضبة على سياسة الرئيس والحزب الحاكم. حتى وصلت لحوالي 342 ألف تعليق ما أجبر القائمين على البث إلى إغلاق خاصية التعليق ليقوم المتابعون بعدها بضغط علامة عدم الإعجاب المرافقة للبث معبرين عن عدم رضاهم.
وكان أردوغان قد استغل قبل ذلك توجيه ماعتبره إساءة لعائلة ابنته عبر وسائل التواصل ليعبر عن عدم إعجابه بالإعلام البديل، وكان قد ضاق ذرعا بوسائل التواصل الإجتماعي بعد أن شبّهها بسكين قاتل وأنها خارج السيطرة، وتحدث صراحة عن رغبته بإيقاف مواقع مثل تويتر ويوتيوب ونتفليكس لأنها كما يرى’’منحرفة وبلا أخلاق وخطر على الأمة’’.
وقد جاء وقت خنق وسائل التواصل والسيطرة عليها بعد أن أسكت الرجل غالبية خصومه في الإعلام التقليدي وسيطر عليه مغلقا 90% من المنفذ الإخبارية التركية المعارضة له كما يقول رئيس اتحاد الصحافيين الأتراك’’نظمي بيلغين’’.
هو مشهد قمعي واستبدادي آخر يضاف إلى الإجراءات التي أتخذت في تركيا لإسكات كل صوت يتجرأ على المعارضة أوالإنتقاد لسيادة الرئيس وسياسته في مختلف القطاعات الثقافية والإقتصادية والسياسية والإجتماعية وحتى القانونية، فيما تستمر المناقشات داخل لجنة العدل التركية حول مقترح «التعددية النقابية»، الذي اقترحه حزب العدالة والتنمية، للسيطرة على نقابات المحامين عبر تفتيت النقابة الحالية ضمن مسعاه لإخضاع التجمعات المعارضة له.
هذه النقاشات التي ترافقت باحتجات واعتصامات من قبل المحامين ورؤساء النقابات الفرعية الذين يبدون خشيتهم على استقلاليتهم من تحكم وسيطرة الرئيس وحزبه.
فيما تتزايد الانتقادات في الداخل التركي على تأثير الرئيس والحزب الحاكم على القضاء وتلاعبهم به وهو ما أشار إليه أحمد داوود أوغلو المنظر والعضو السابق في حزب العدالة والتنمية وصاحب نظرية النيو عثمانية عندما قال’’لاشك أنّ القضاء التركي يتاثر حاليا بالظروف السياسية المحيطة به’’مشيرا إلى التلاعب السياسي بالقضاء كما حصل في قضية القس الأمريكي.
وكان أوغلو قد انشق عن حزب العدالة والتنمية في وقت سابق بسبب سيطرة مجموعة معينة على الحزب واختطاف قراره متحدثا عن صفحات سوداء في تاريخ الحزب وقيادته. صفحات يحاول الرئيس التركي طيها والتغطية عليها مستخدما خطابه الديني الشعبوي ممتطيا إنتصارات وهمية في معارك أفضل ما توصف به بأنها ’’دونكشوتية’’ على طريقة الكاتب الاسباني (ثربانتس) في رائعته ’’دون كيخوتي’’ الذي يتحدث فيه عن الفارس الذي يحارب طواحين الهواء.
لكن هذه الإنتصارات الوهمية لن تغير كثيرا في واقع الحال التركي كما أني أشك أن تنعكس في صناديق الإقتراع التركية أو تعيد شعبية طوقها الإستبداد وأحرقتها نيران الحروب الداخلية والخارجية فالحقائق تفرض نفسها دائما.
ساحة النقاش