التفوّق الأميركي.. بدايات الإنهيار
<!--<!--
المصدر: الميادين نت=حميد لشهب *دكتور سيكو-بيداغوجي، مترجم وكاتب - النمسا
بكلمةٍ مُخْتًصرة، عرَّى هذا الوباء مكامن الضعف في النظام الصحي الأميركي، ومن ثم فتح الباب الخلفي واسعاً للمشاهدة والتفرّج على الوجه الحقيقي للنظام الأميركي.
في غمرة الدعاية الانتخابية الأميركية، أطلت كورونا برأسها لتُعيد ترتيب أوراق الحزب الديمقراطي. لا يُجادل إثنان حالياً في كون فيروس مجهري قد قَلَبَ موازين الأمور في مجموع الكرة الأرضية وشغل ساكنة العالم بأكملها، نظراً لأنه يُهدّد الحاجة الوحيدة التي يمتلكها الإنسان، ألا وهي حياته.
ولم يعد من باب المُزايدات القول بأن حال العالم لن تبقى كما كانت عليه قبل الوباء، سواء على مستوى العلاقات الشخصية أو العائلية، بل كذلك على مستوى الدول نفسها. فقد اتّضحت الأمور بعد حوالى ستة شهور على بداية انتشار هذا الداء وعلى حال الهَلَع والتخبّط والإرتجالية وفُقدان البوصلة في مجموع دول العالم، وبالخصوص تلك التي كانت تُوهِم بأنها مؤسّسة على "العقلانية" وتدبير أمورها بطريقةٍ عصريةٍ مُتقدّمة.
لم يبق أيّ حجر في مكانه في بنيان النظام العالمي الحالي، وستكون إعادة البناء، ليست فقط شاقّة وطويلة الأمد ومُكلِفة مادياً وبشرياً، بل مُهدّدة في كل لحظة وحين، إلى أن يجد المرء لقاحاُ لهذا الداء.
ولا نقاش أيضاً في أن أكبر الدول وأقواها، التي اشتغلت على مرّ حُقَب تاريخ وجودها كفيروس ينخر العالم السياسي والإقتصادي والفكري العالمي، لن تخرج سالِمة من هذه الجائِحة، بل ستكون أكبر خاسِر، لأن كل بنيانها مُهدّد وقابِل للسقوط في أية لحظة، بما أنه مؤسّس على ليبرالية متوحّشة لا تعترف إلاّ بالقوّة ولا تهاب إلاّ القوي، وتدوس على الكرامة الإنسانية لمَن ليسوا كذلك، بل لا تعتبرهم إلاّ خنافيس وطُفيليات لا تستحق الحياة، ووجودها يقتصر فقط على خدمة أسيادها الأقوياء.
ولا يقتصر هذا المنطق الأميركي على الدول الأجنبية ومواطنيها، بل يشمل مواطنيها كذلك، وأكّدت الجائِحة الحالية هذا بوضوحٍ لم يسبق له مثيل. وهذا بالضبط ما يقوّي فرضيّة بداية العدّ العكسي لتراجُع سيطرة وهيمنة أميركا على العالم، وفي أحسن الحالات يُحتّم عليها اقتسام هذه السيطرة على الأقل مع التنّين الأحمر. ذلك أن هيبة دولة ما تبدأ، عندما تحتقر مواطنيها ولا تعتبرهم أكثر من بيادق في رُقعة شطرنج، توظّفهم متى شاءت وتنحّيهم متى أرادت.
في غمرة الدعاية الانتخابية الأميركية، أطلت كورونا برأسها لتُعيد ترتيب أوراق الحزب الديمقراطي، وفجأة كفّ الصراع بين المُرشّحين للرئاسة الثلاثة بيرني ساندرس وإيليزابيث وورن وجو بايدن، وتمّ الاتفاق على فَسْحِ الطريق للأخير، لعلّه "يُطيح" بأكثر الرؤساء الأميركيين "بلاهة" و"جنوناً" و"نرجسيّة".
وعى الحزب الديمقراطي بسرعة بالمُقارنة مع الجمهوريين الخطر المُحدِق للوباء والخطر الذي يُمثّله بالنسبة إلى أميركا-ترامب الذي دكَّ دكّاً النظام الصحّي الأميركي.
بكلمةٍ مُخْتًصرة، عرَّى هذا الوباء على مكامن الضعف في النظام الصحي الأميركي، ومن ثم فتح الباب الخلفي واسعاً للمشاهدة والتفرّج على الوجه الحقيقي للنظام الأميركي وانقسام الشعب إلى قلّة تتحكّم في كل شيء وقاعدة شعبية عريضة تعيش على فتاة الأوّلين. اتّضح بأن الهوَّة بين الإثنين أعمق وأكبر بكثير مما كان المرء يعتقده، في بلاد "حقوق الفرد" و"الجماعات"، بل أُلقيَ الضوء الكاشِف على العنصرية المُؤَسِّسة للنظام "الإقطاعي الليبرالي" بين البيض وبقيّة الأميركيين الآخرين من الزنوج والأميركيين اللاتنيين والمسلمين والصينيين والهنود إلخ، المُعرّضين بنسبة لا تقلّ عن 80 في المئة للوباء بالمُقارنة مع البيض، وبالخصوص البيض "الأكثر نصاعة = الأثرياء".
وليس في هذا الرقم أية مُبالغة، لأنه يعتمد على ما نُشِرَ من إحصائيات أميركية لتفشّي المرض فيها في جرائد مهمّة كـ"الواشنطن بوسط" مثلاً.
توجد في أميركا أكبر وأجمل مُستشفيات العالم، مُجهَّزة بأحدث ما توصّلت إليه تقنيات الطب المُعاصِر، تُشغّل أهمّ الأطباء والمُختصّين العالميين في أمراض شتّى؛ لكن مثل هذه المُستشفيات (في غالبها خاصة) لا تستفيد منها إلا فئة مُحدَّدة، تكون قادِرة على دفع الثمن. وتتبّع العالم بأسره أخبار المستشفيات العمومية الأميركية في الأسابيع القليلة الماضية، وصورة أولئك الممرضين الذين كان يحاولون حماية أنفسهم بوضع أكياس بلاستيكية على رؤوسهم ووجوههم وهم يزاولون مهامهم، أو مضطرون للقيام بذلك، وإلاّ لن يكن لهم مصدر رزق آخر. هذا المثال كافٍ لوحده لإبراز فاجِعة أميركا الحالية، بل "صِدَام" العالم "الأول" والعالم "الثالث" في نفس البلد والرقعة الجغرافية لدولة "عُظمى".
للإشارة، إذا كنا قلنا سابقاً بأن مَن يحصدهم هذا الوباء هم بالخصوص السود واللاتينو إلخ، فإن هذا غير راجع لارتفاع عددهم، لأنهم يشكّلون أقليّة لا تتعدّى نسبتها 40 في المئة من سكان مختلف الولايات الأميركية المتحدة. ومن بين الأسباب الرئيسية لهذا هو انعدام الرعاية الصحية الضرورية بهذه الفئة ومُزاولة الأغلبية الساحقة لأفرادها لأعمال من المُحْتَمل أن تعرّضهم للوباء بوتيرة سريعة، لأنهم لا يتوّفرون على ما يحمون به أنفسهم وذويهم من لباس مهني أو أقنعة حامية إلخ. فالأغلبية الساحقة للمرضين والعاملين في دور العَجَزة وسائقي الحافلات وقطارات الأنفاق والعاملين في المحلات التجارية الكبرى وقطاع النظافة ينتمون إلى هذه الفئة.
هناك إحصائيات أميركية حدّدت عدد مَن حصدتهم الحمى الإسبانية عام 1918 بحوالى 675000 ألف أميركي، كان المرء يعتقد بأنهم كانوا من البيض فحسب، بوَهم أن السود أقوياء البنية الجسدية ولهم مناعة أكبر بكثير من الآخرين. لكن اتضح في ما بعد بأن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق، لأن عدد مَن ماتوا من الزنوج بسبب هذا الداء كان أكبر من البيض في ما يخصّ النسبة المئوية، لأن الغالبية العُظمى منهم كانت تعيش في ظروفٍ ماديةٍ واجتماعيةٍ مُتدنّية، ولم يكن باستطاعتهم فرض حَجْر صحي على أنفسهم، نظراً إلى طبيعة مساكنهم الضيّقة وارتفاع عدد الأشخاص الذين كانوا يعيشون فيها.
وفي العُمق، فإن النظام الاجتماعي الأميركي لم يتغيّر إلى يومنا هذا، وبهذا يمكن التأكيد على أن الأمر يتعلّق بمشكل بنيوي عميق لأميركا بهذا الصَدَد، لأن العناية الاجتماعية بالمواطنين، التي تُعتَبر بحق مقياس تقدّم أو تأخّر دولة ما، غائبة بالتمام في أميركا. أضف إلى ذلك أن أميركا اليوم ابتُليت برئيسٍ لا يستحق هذا الإسم، على اعتبار أنه رئيس أقلّية بيضاء صغيرة، وليس رئيس الشعب الأميركي قاطبة والخمسين ولاية المكوَّنة لأميركا. فالطريقة التي تعامل بها مع الجائحة لا تترك أيّ مجال للشكّ بأنه أوصل أميركا إلى حافة مستوى دولة في طريق النمو، ولربما كان الأميريكيون والعالم معهم، لا ينتظرون إلا هذه الجائِحة للتأكّد أكثر من هذا.
ونستحضر هنا ما قاله الفنان الأميركي داني غلوفر عام 2005 عندما اجتاح إعصار كاترينا نيو أورليونس في ما معناه بأن هذا الإعصار لم يجعل من هذه المنطقة عالماً ثالثاً، بل عرّى عالماً ثالثاً فيها.
وها نحن نرى اليوم بأن العالم الثالث يستقرّ في أميركا على مهله، حتى وإن كانت الجائِحة في العُمق فرصة لترامب ليراجع مواقفه ويستغلّها كرأسمال في حملته الانتخابية بإعادة النظر في سياسته الاجتماعية والصحية والتعليمية، ويرى في الإنسان الأميركي الرأسمال الحقيقي وليس في أطنان الذهب المودَعة في بنوك قلة من البيض هنالك. لكن، لم يحدث هذا ولن يحدث بالمرة، لأنه إن فعل فسيخرج عن قاعدة الأجداد الذين بنوا أميركا على أكتاف العبيد واستغلال البشر. وكما عوّدنا ترامب على ذلك، فإنه سيكتفي بسياسة "تويتر" والإستمرار في غناء نشيده المُفضّل:"أميركا أولاً" واتهام جهات أخرى بتفشّي الفيروس: مرة منظمة الصحة العالمية وأخرى الصين، ولربما يتّهم السنغال أو الصومال بعد أيام.
يحاول ترامب، ومعه كل إدارة البيت الأبيض حالياً، الإبحار في محيط هائِج فرضته كورونا بزورقٍ صغير، لا يتوافر إلا على مجذافين. فتعامُل هذه الإدارة مع الجائِحة لا يترك أيّ شك بأن صحة المواطن الأميركي لا تهمّها. وتصريحات ترامب في بداية الأزمة والتقليل من خطرها، بل التهكّم على بعض الدول عندما أصابتها، دليل على ذلك.
ما يُميّز إدارة ترامب هو أنها ليست متّفقة على ما يحدث ولا على ما يعنيه هذا الحدث. يواصل أعضاؤها خصوماتهم حول حقيقة الحدث في حد ذاته، ولم يجدوا إلى حد كتابة هذه السطور أية استراتيجية واضحة لمواجهة الجائِحة. يقرّرون اليوم أمراً، ويتخلّون عنه في الغد، لأن رئيسهم استيقظ بسحنة غاضبة، وليست له أية فكرة -ومتى كانت له أفكار- لحماية الشعب الأميركي، بعدما تجاوز عدد الإصابات المليون ونصف المليون وعدد الوفيات 70 ألف شخص.
هذه هي حال "أعظم دولة في تاريخ البشرية" (ترامب)، وهي حال تتعقّد يومياً. ومن دون تكرار ما قيل بأن أميركا هي دولة مُختلّة منذ سنوات، فإن ما يجب إبرازه هو أن ترامب ليس ثرياً مادياً فقط، بل ثرياً في كذبه أيضاً. وعندما يصبح الكذب أيديولوجية دولة وسياسة تُطبّق لتسيير شؤون البلاد، فلا داع للتأكيد بأن القرارات لا تكون فقط كاذبة، بل أيضاً خاطئة، ويتضّح هذا بجلاء في تعامُل الإدارة الأميركية مع كورونا.
ومن الأمور التي يجب الإشارة إليها لأهميّتها القصوى، هو أن أيديولوجية الكذب هذه تتميّز بشيء رهيب: عندما يزرع ترامب وإدارته "الوسواس الخنّاس" في جسم الشعب الأميركي "المسكين" بتشكيكه في عمل العُلماء والصحافيين، بل اتهامهم بالكذب، فإنه يقضي بذلك على "الحقيقة" كلياً. ففي بحر الشائعات التي رافقت انتشار الوباء، يُطلّ رئيس "أكبر" دولة في العالم، ليُشكّك في أخبار وسائل الإعلام وآراء المُتخصّصين في البيولوجيا والطب إلخ، وبالتالي فإن المرء لا يستطيع التعرّف على الخطر الحقيقي الذي يُهدّده.
وإذا اختفت ثقة الشعب في المُتخصّصين والمؤسّسات التي يمثّلونها، تحت صُياح رئيسها وتأكيده بأنهم كَذَبة ويُهيّئون الدسائس، وبالتالي فإنهم أعداء الوطن وخَوَنة، فإن هذا الشعب يجد نفسه يغرق في الأمواج العاتية للجائِحة ورئيسه يتفرّج كيف يتمّ القتل غير الرحيم للشعب الأميركي. فقد ألغى ترامب من بين ما ألغاه عندما وصل إلى الحّكم مكتب مقاومة الجوائِح، الذي كانت مهمّته تتمثّل في تهيئة البلاد إلى مقاومة الجوائح عندما تحل. وكعادته، ولأن لا ثقة له في نفسه، وبالتالي في الآخرين، فإن ترامب أمر بإنشاء ما سمّاه"فرقة العملTask Force"تحت إشراف نائبه بينس، ومجموعة سرية أخرى تحت إشراف صهره كوشنر، ومجموعة ثانية رسمية لإعادة إقلاع الاقتصاد الأميركي. وما هو"جميل"في الديمقراطية الترامبية هو أن الفرقتين الرسميتين لا تتواصلان في ما بينهما ولا يعرف أيّ فريق ما يعمله الفريق الآخر.
كيفما نظر المرء للنظام الأميركي، فلا يمكن ألا يرى بأنه مبني مركزياً، ذلك أن قرارات الولايات في حال طوارئ طبيعية أو أوبئة تُؤخذ في واشنطن، في ما يُسمّى لجنة تقرّر حجم المساعدة المالية التي يمكن للولاية المعنية بالأمر الحصول عليها وكذا ما يجب عليها القيام به.
وقد تعالت أصوات كل محافظي الولايات الأميركية مؤخراً لأن السلطة المركزية لم ترسل أية مساعدات تُذكَر كما أعلنت على ذلك للوقاية من الجائِحة. ولنُذكّر بأن ترامب فتح نار لسانه عليهم، واتّهمهم بعدم احترامه بما فيه الكفاية. فالجواب الذي كان حكّام الولايات يتواصلون به لمدّة فاقت أربعة أسابيع بعد وصول كورونا إلى أميركا هو أن ترامب سيأمر "الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ Federal Emergency Management Agency لتوزيع المساعدات الضرورية على الولايات. والواقع أنّ هذه الوكالة لا تتوافر لا على مال ولا على موظفين كافين لإدارة الجائِحة، لأن مقصّ تقليص ميزانية هذه الوكالة قصّ لها جناحيها ولا تستطيع عمل الكثير في الحال الراهنة. بل أكثر من هذا طلع كوشنر على حاكمي الولايات وعلى الأميركيين في مؤتمر صحفي مع ترامب، ليقول بأنه على الولايات تنظيم نفسها بنفسها، وأضاف ترامب خَلاّ على المُخلَّل صائِحاً: "لسنا إدارة تُقدَّم لها الطلبات".
ونحن لسنا في حاجة للبرهنة على أن أميركا عام 2020 تنخر نفسها بنفسها من الداخل. وفي محاولة للتغطية على عدم كفاءة الإدارة الأميركية الحالية في إدارة الجائحة، طلع الجمهوريون على الأميركيين بـ "الحجّة الدامِغة" المُتمثّلة في تلفيق سبب عدم الإستعداد الكافي لمواجهة الوباء إلى إجراءات العزل ضد ترامب، الذي هاجم زعيمة الديمقراطيين نانسي بيلوسي قائلاً: "كل ما فعلته هو الإتهام. لم تهتم بشيء يتعلّق بالأوبئة – اهتمّت فقط بالعزل". للتذكير فإن إجراءات العزل كانت قد انتهت يوم 5 فبراير/شباط 2020.
والواقع أن ترامب نفسه لم يُعر للوباء أيّ اهتمام، ففي الوقت الذي كانت فيه جهات علمية وطبية ومخابراتية أميركية تدقّ ناقوس الخطر منذ منتصف يناير/كانون الثاني، كان ترامب يلعب الغولف في فلوريدا، في المُنتجع الذي يمتلكه هنالك.
خلاصة القول، أميركا القوية هُزِمت بالضربة القاضية من طرف رئيس ضعيف في إنسانيته وكفاءاته السياسية، بل هو نفسه منتوج الإرث الأميركي المؤسّس على مركزية عمياء، لا ترى حتى ظلّها، تعتبر العالم منذ سقوط المعسكر الشرقي ضيعتها الخاصة، تعيث فيه فساداً كيفما يحلو لها. وسياسة الجبروت التي عمّقت الجرح الأميركي وأكّدت بأن نخبة البيض في بلد "الحريات وتكافؤ الفُرَص وحقوق الإنسان" لا يهمّها لا الأميريكيين أنفسهم ولا العالم في حد ذاته، بقدر ما يهمّها الإبقاء على وضع في صالحها داخلياً وخارجياً.
ساحة النقاش