مقالات: كورونا والإرهاب.. لماذا لا نخرج أميركا من قفص الاتهام؟
الميادين نت - محمد فرج*كاتب وباحث أردني، صدر له "الرأسمالية وأنماط الهيمنة الجديدة"، "مخاطر التمويل الأجنبي - المراكز والمنظمات (غير الحكومية)"، جزر السياسة المعزولة.
تدرك الإدارة الأميركية أن الحماية الكاملة لحدودها من الإرهاب أو الفيروس لا تخدم المشروع الأميركي عالمياً بالسرعة والشكل المطلوبين.
نعيش الآن أجواء الجولة الثانية من الحرب على فيروس كورونا.
مع تصاعد نسب الإصابة بفيروس كورونا، وشمولها مساحة جغرافية واسعة من الكوكب، تستمر الفرضيات حول أسباب النشأة والمعالجة في الصراع أيضاً، فمن الاعتقاد بتصنيع الفيروس، إلى اعتباره كارثة إنسانية جماعية حدثت بالصدفة، إلى اعتباره خطأ عملياً في واحد من مختبرات الأبحاث أو الحرب البيولوجية، ما زالت الخصوم تجتهد في طرح الأدلة لدعم أطروحتها.
في كل الأحوال، فإن الجولة الثانية من انتشار المرض (لو اعتبرنا أن الجولة الأولى تمثلت في صدمة الخبر في مدينة ووهان)، تحمل عدداً من المشاهدات والمقاربات.
يعتبر البعض أن خروج الفيروس من حدود الصين، ووصوله إلى الداخل الأميركي نفسه، بمثابة صك براءة للولايات المتحدة من لائحة الاتهام المقدمة ضدها، والتي يقودها "منظرو فرضية المؤامرة"، وأنه أيضاً بمثابة نهاية الأسطورة لرواية الحرب البيولوجية التي تجلت في عيون الظلام لكونتز، وأفلام هوليوودية على شاكلة contagion ،28 days later، outbreak في الحقيقة، ليس هناك رابط قطعي ونهائي بين خروج الفيروس من حدود الصين وتبرئة الولايات المتحدة من سيناريو حرب بيولوجية تخطط لها، فحياة المدنيين في السياسة الإمبريالية الأميركية لا تزن ما هو أهم من آفاق ومستقبل المشروع الأميركي، "الحلم الأميركي"، الإمبريالية.
في أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، قُبض ثمن حياة المدنيين الأبرياء أضعافاً (أيضاً من زاوية المشروع الأميركي)، فكان الثمن احتلال العراق وأفغانستان، تحت شعار وجوب انطلاق الحرب الاستباقية على الإرهاب، قبل أن "يتمكن بشكل كامل من حدود الإمبراطورية".
تدرك الإدارة الأميركية أن الحماية الكاملة لحدودها من الإرهاب أو الفيروس لا تخدم المشروع الأميركي عالمياً بالسرعة والشكل المطلوبين، بل إن خروقات حدود الأمان الأميركية تخدم أكثر، وتجيز انتهاكاً مضاعفاً لحدود الآخرين وحياتهم، وتمنح الفرصة لفرض سياسة عالمية جديدة، تأخذ المسارات الناعمة وقتاً أطول للوصول إليها.
بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، صرح وزير الدفاع الأميركي السابق، ديفيد رامسفيلد، أن هذا التاريخ أحدث ذلك النوع من الفرص التي وفرتها الحرب العالمية الثانية من أجل إعادة صياغة العالم. لقد تفاعلنا جميعاً مع فيلم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر للمخرج الأميركي مايكل مور. كان الفيلم وثائقياً، ولم يكن سينمائياً هوليودياً. واليوم، بعد ما يقارب 20 عاماً، ننظر إلى الوراء، ونتساءل في حيرة لا تتوقف: هل سهَلت أميركا ثغرة للقاعدة آنذاك، أو صنعت الصدمة من الفراغ، أو أنها تلقت الضربة مفاجأة من حلفاء الماضي القريب والمستقبل الأقرب؟
لا يهم! لقد تم احتلال العراق وأفغانستان في كل الأحوال، وفرضت أميركا مرحلة الحرب على الإرهاب والتدخل "المشروع" في شؤون الآخرين، واستمرت في استثمار شعارها هذا في حقبة "الربيع العربي"، وحاولت تسويف "الانتصار" على التنظيمات التكفيرية التي أكلت نسيج مجتمعاتنا على مدار سنوات، إلى اللحظة التي تمكنت فيها قوانا الداخلية، بالتحالف مع محور المقاومة، من إنجاز المهمة. لقد كان التحالف الدولي مستعداً لتسويف القضاء على الإرهاب التكفيري لسنوات، إلى حين إضعاف خصومه الحقيقيين، وفرض الشروط الجديدة للنظام العالمي على هواه. وفي غضون هذه الفترة، لم يكن يكيل وزناً للأرواح التي تزهق، والإصابات في صفوف قواته لم تكن سوى خسارة مقبولة لا بد منها!
يسير فيروس كورونا على سكة مشابهة لرواية التنظيمات الإرهابية، فمنذ انتشار خبر الفيروس في الصين، سارت التصريحات الرسمية الأميركية والإعلام الأميركي على سكة السياسة يداً بيد، في إطار عزل الصين تجارياً، واستكمالاً لقوانين الحماية الإغلاقية الجمركية.
أشاد حينها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالجهود الصينية القائمة على عزل المدينة. لقد كان فعل العزل هو الأكثر أهمية لأميركا، نظراً إلى اقتصادها الذي ضعف كثيراً أمام الصادرات الصينية التي كانت تنمو إلى حدود 2.4 تريليون دولار، في حين تتجمد الصادرات الأميركية عند حدود 1.6 تريليون.
لحقت إيران بعد ذلك بالصين، وتدافع عدد من وسائل الإعلام الخليجية والغربية إلى وصف الفيروس بـ"كورونا الإيراني"، تتمة لما وصفه الإعلام الأميركي بـ"كورونا الصيني"، وتطرّفت أكثر في وصف إيران بأنها تصدّر "الإرهاب الصحي". إن هذه العبارات لا تضيع، وتجد مكاناً لها في رأس القارئ والمشاهد، وهذا ما تبحث عنه الجهات التي تقف وراء منصات الإعلام تلك.
لقد حملت الحرب الإعلامية والاقتصادية التي شنّت على الصين طابع التأثير السيكولوجي الجمعي، وكانت مديات التأثير الإعلامي تحاول أن تجعل الصين كجسم غريب ومقلق ومخيف، إلى أن تصبح بمثابة العدو في أذهان الناس.
من جهة أخرى، فإن عرض المساعدة الرسمية على الصين على لسان الرئيس الأميركي، يُقصد به إثارة صورة أميركا كقوة أولى في العالم، وكراعٍ له (بما في ذلك الصين).
لقد تراءى لنا هدف ضرب المحور المعادي لأميركا كهدف استراتيجي للولايات المتحدة الأميركية في سياق توظيف حادثة الوباء، المدبرة أو التي وقعت خطأ أو انتقلت طفرة من الحياة البرية. ببساطة، لن نتمكن من تحديد ذلك بدقة الآن.
وكما عاشت "الحرب على الإرهاب" جولتين، تعيش الحرب على المرض جولتين. كان العالم هشاً أمام أميركا عندما حققت أهداف الجولة الأولى من الإرهاب (احتلال العراق وأفغانستان)، ولم تكن الطريق سالكة أمامها في الجولة الثانية.
لم تتحقق أهداف الجولة الأولى من الحرب على الفيروس، كما تمنّت الإدارة الأميركية، فالصين احتوت المرض بفعالية شكّلت نموذجاً للعالم، بل إن دول العالم باتت تلجأ إليها "كراع جديد أو سند جديد"، بما في ذلك صربيا، التي أطلقت تصريحات حادة تجاه سياسة الاتحاد الأوروبي في التعاون معها لمواجهة الأزمة، وهي تناشد الصين لمساعدتها إذ قالت "الآن ندرك أن التضامن العالمي غير موجود، والتضامن الأوروبي غير موجود، وكل ذلك كان حبراً على ورق، ولدينا الأمل بالطرف الوحيد الذي يستطيع مساعدتنا؛ جمهورية الصين الشعبية".
نعيش الآن أجواء الجولة الثانية من الحرب على الفيروس، وليس من السهل أن نحسم بنود أجندتها من زاوية المصالح الأميركية، ويحق لنا ما نشاء من البنود المتخيلة (الانقلاب الأميركي على العولمة بعد صعود الصين، إعادة صياغة النظام المصرفي، التخلص من الأعباء المالية لكبار السن في أوروبا وأميركا، والسقوط الجماعي لمنع الصين من القيادة).
المهم أن الإمبراطورية التي اندفعت إلى توظيف الفاجعة الإنسانية في الصين أو صناعتها (لا يهم الآن)، هي نفسها التي امتلكت مختبرات عريضة للحروب الجرثومية في لوغار في جورجيا، وهي نفسها التي كشفت وثائق التدخل في حرب جرثومية في الحرب الكورية قبل أكثر من 50 عاماً، وهي نفسها التي أجازت استخدام البذور الزراعية المعدلة جينياً، والتي تسببت في ارتفاع نسب السرطان في العالم، وهي التي أحدثت تشوهات طويلة الأمد عند الفيتناميين بعد نشرها العامل البرتقالي في حقولهم. لذلك كله، لا يمكن إخراجها من قفص الاتهام، هكذا ببساطة!
ساحة النقاش